كائنات برنار السعيدة
وقت مستقطع على الشرفة. نهاراتنا المضنية على طوابير البنزين، عدائية المواطن المقهور، العمل كبهلوان بين أشغال كثيرة للحاق لاهثةً بنهاية الشهر. أضواء رافعات مرفأ بيروت ما زالت تبعث على الحلم. هل ما زال هناك متسع للحلم في هيروشيما؟ تسحبك الأضواء إليها، كتنويم مغناطيسي، كسقوط لذيذ. قريباً، سيرتفع محل «أول معمل بيرة في الشرق الأوسط»، يعود إلى الثلاثينيات، مجمّع سعيد يسكنه أناس سعيدون، صمّمه لهم «السوبر ستار» السعيد برنار خوري. سيقيمون قريتهم السعيدة على أنقاض المعمل، يتفرّجون بدهشة على المكان. سيسكنون هناك في الأعلى، تتملّكهم البهجة بالتفرّج على «حي ذي طابع عمّالي». أما أنا، فأغتنم لحظات الحلم قبل أن يعلو المجمّع، ليسرق المرفأ منّي ويمنحه لكائنات برنار السعيدة. تراودني فكرة شريرة: ماذا لو...؟




المهندس ترك ضحكته
سنة على الزلزال، كأنّه لم يقع؟ بين الجعيتاوي والرميل ومار مخايل، الناس كنّسوا الشوارع والذاكرة باستثناء بعض المنازل التي لم تُرمّم بعد. شاهدة على تلك اللحظة الفظيعة، كما على غياب أهلها. هل ماتوا في الانفجار؟ هل ماتوا قبل الانفجار؟ هاجروا؟ قبل الانفجار أو بعده؟ الحياة رمية نرد، لعبة «حظ» أو صدفة، طابة تنس تقرّر الرياح والجاذبية وألف صدفة وصدفة على أيّ جانب من الشبكة ستَقع. لخّص وودي آلن عبثيتها بأقسى ما يكون في «ماتش بوينت». أتذكّر الفيلم وأنا أنظر إلى صورة مهندس شاب معلّقة على مدخل إحدى البنايات وسط الركام الذي لم يتكفّل أحد بإزالته منذ عام. ضحكته المعلّقة هكذا، مخيفة. وجهه مألوف، لعلّني صادفته يوماً في الشارع قبل أن تشاء صدفة لعينة، أن يكون واقفاً في لحظة لعينة، في موقع لعين، ليُرمى النرد... ويترك لنا ابتسامته على المدخل.

تمهّل... محطّة!
على طول خط الجعيتاوي، بين مستشفى الروم ومستشفى الجعيتاوي، نصبت جمعية، بعد أيام على الانفجار، عتادها في محطة بنزين مهجورة. في الأول، كان الهدف تقديم مساعدات عينية للناس. بعد مرور أشهر، سمّت نفسها «محطّة الأمة» بالإنكليزية، ووضعت كنبايات مهلهلة لكن مريحة في المكان، وفتحت سوق بالة، وزرعت المكان أشجاراً ونباتات وشباباً متحمّساً يصبّحك بابتسامة لطيفة راضية. ثم قرّرت أننا نحتاج إلى زيادة ثقافتنا السينمائية أو ربما إلى بعض الترفيه لانتشالنا من التروما. كل أسبوع كانت تعرض لنا فيلماً تعلن عنه بالإنكليزية على صفحتها الفايسبوكية. على بعد أمتار، مركز آخر خاصّ بالتأهيل النفسي للناجين من الـ «تروما»، أي نحن. سمّى نفسه Crossing together (عبور المحنة معاً؟). أحاسيس غريبة وبالجملة تنتاب الساكن في الحيّ. يشعر أنّه فأر تجارب، دبّ في سيرك، عارٍ يمشي في الشارع. بماذا أشعر تحديداً؟ يروح يتحقّق من صحته العقلية، كمن يدسدس جيوبه. مصطلحات وتعابير دخلت حياة سكّان الحيّ منذ لحظة الانفجار. عاش معظمهم الحرب الأهلية ـــ هم الذين غزا الشيب رؤوسهم ــ والمعابر (والهويات) الملغّمة والقذائف المتنقلة، لكن لم يتوقف أحد ليطرح السؤال على روحه: هل معي تروما؟ بعد فترة على هذا الاستيطان، بدأت لهجة السكّان تتغيّر. «زعران» الحيّ قرروا رفع الكلفة معك ومناداتك «حبيبي». أما ابن جورج اللحّام، فغيّر اسم المحلّ: لقد صار The butcher!



سكوت ح نصوّر
أبو طوني يتملّكه الحبور. فانات وشاحنات ملأت الباركينغ عن بكرة أبيه، والغلّة محترمة هذه المرة. في أحد شوارع الجعيتاوي، وسط الأبنية التعبانة، نصبوا العدّة. أبو طوني يقول إنّهم يصوّرون فيلماً عن الانفجار. فيلم رعب؟ أكشن؟ إثارة؟ ميلودراما يجول المهرجانات ويفتك بالجوائز! سنشاهد أفلاماً كثيرة عن انفجار بيروت بناسها وبناياتها. لكنّ دم هيلين لا يبارحني منذ عام. ما زلت عالقة على الدرج، في الطابق الثالث تحديداً، حيث بقع دماء على الجدران والمقابض، نزولاً إلى المدخل. لقد انفلش ضغط الانفجار بجسمها. لم تجد أحداً لمساعدتها. الكل أرادوا النجاة. تركوها تنزف. حملت نفسها بعد لحظات، وهبطت السلالم ودمها وراءها. وصلت إلى خط الجعيتاوي. المنظر مرعب: نساء ورجال وشابات وشبان وأولاد هائمون، يسيرون تخبّطاً، دماء على وجه البعض، وآخرون مصدومون مستلقون على الرصيف، والأرض سجادة من زجاج منثور. فيلم زومبي. شدّت هيلين على جسدها والدم يسوح من وجهها، حتى بلغت مستشفى الجعيتاوي. هناك كانوا يداوون الناس في الشارع. بالكاد وجدت مكاناً وسطهم. أي كاميرا ستلتقط وجه هيلين؟

مار مخايل نهاراً وليلاً
صبيحة أحد خامل. أهبط درج الفاندوم نزولاً صوب مار مخايل. قناني البيرة وأكواب الشراب مرمية كيفما اتفق في كل مكان، محارم وأعقاب سجائر شاهدةً على ليلة أخرى. أصحابها شباب وشابات، هم أنفسهم إذا صادفتهم نهاراً، ربما سيصرعونك بهواجس البيئة و«المساحات العامة» والأوربانيسم، قبل أن يبوّلوا على كل هذه النظريات في ليلة من ليالي مار مخايل المجنونة. مار مخايل صباحاً كائن آخر، لا علاقة له بمار مخايل ليلاً. الليل للشباب والسهر والحانات التي استنفرت بعد فترة على الانفجار، وهمّت بورشة التصليح لتفتح سريعاً أبوابها. أما مار مخايل «النهارية»، فتشهد غالباً خروج أهلها واستئناف يومياتهم الروتينية وسط أبنية تراثية ما زال بعضها مبقوراً ومشوّهاً، فيما ورشة الترميم جارية رغم مرور عام على الانفجار. مار مخايل صباحاً امرأة منهكة تواصل لملمة شظاياها وركامها وأوجاعها وشقائها العادي، ومار مخايل ليلاً شابة جامحة تقضم الوقت بأسنانها. لعلّ معين بسيسو أبلغ من وصف حالنا: «وهذه بيروت لا تحيا ولا تموت». إذا أردت أن تدرك بيروت، تعالَ إلى مار مخايل!
وأنت تنظر إلى بحرها، تستعيد محمود درويش: قلنا لبيروت القصيدةَ كلها


يا شط اللي دايب
بعض المدن ليست مدناً. إنّها كائن يسري في الجسد، كالدماء، كالأوكسيجين، كالغذاء. إن تألّمت، شعرت بها في شرايينك. ليست مبالغة أن تكون بيروت كياناً في كيانك. ليس التوصيف ضرباً من فولكلور، ولا نوستالجيا تافهة وعابرة. ربما كليشيه، لكنّ في الكليشيه شيئاً من حقيقة. شاهدت منذ فترة فيلم «باترسون» لجيم جارموش. باترسون هو اسم البطل، لكن أيضاً اسم المدينة التي يقيم فيها. سائق باص يحوّل يومياتها الرتيبة ومضات من شعر وماء. بعد يوم على الانفجار، أدمنت أغنية «يا مينا الحبايب». كأنني أعدت اكتشافها، «يا شط اللي دايب يا بيروت». موسيقى الأغنية تشبه بيروت. غنج، دلع، إحساس خاطف بطعم الهناء المسروق، بدفء الرمال الساخنة حين تلامس القدمين. تنزلق الدموع خلسةً وأنت تنظر إلى صور بحرها المزبد على يوتيوب. تستعيد محمود درويش: قلنا لبيروت القصيدةَ كلها، قلنا لمنتصفِ النهارِ: بيروت قلعتنا/ بيروت دمعتنا/ ومفتاحٌ لهذا البحر. كُنَّا نقطة التكوينِ.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا