يأتي الفن أحياناً ليسأل بشكل مختلف عما يحدث، فيعيد تصوّر الواقع بعين مختلفة. من هنا، نستطيع القول بأنّ بيروت تحاول استعادة روحها الثقافية والفنية بعد انفجار الرابع من آب، وفي ظل وباء كورونا والأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان. وهذه العودة متوجة بأسئلة ثقافية جديدة عن واقعها الحالي، بمزيد من الإصرار على العمل من أجل إنقاذ ما يحدث ثقافياً وفنياً. ومن هنا تأتي أسئلة معرض «معاً» المقام في «غاليري تانيت» في منطقة مار مخايل. الغاليري التي تدمّرت في انفجار مرفأ بيروت وأعيد ترميمها حديثاً، اختارت لإعادة افتتاحها هذا المعرض الذي يحمل معه أفكاراً للعمل معاً والتضامن من أجل الوقوف مجدداً وترميم فكرة الإضافة لبعضنا البعض. هو يطرح هذا السؤال أمامناً: كيف يمكن للفن أن يترجم التضامن والحس الجماعي سواء من خلال العواطف أو الأفكار أو الأفعال؟ جاء التخطيط والعمل للمعرض أيضاً جماعياً. بعد النداء الذي أطلقته الغاليري للفنانين، اختير 17 مشروعاً لتكون جزءاً من المعرض من قبل خمسة أعضاء في لجنة التحكيم: زينة مسقاوي، ريتشارد هيكل، كارينا الحلو ، نايلا كتانة كونينغ ومارك معركش. كان أحد المعايير الرئيسية في الاختيار هو أن يكون الفنان أو الفنانة مقيماً في لبنان، فوقع الاختيار على: منار علي حسن، كريستين كتانة، طارق مراد، كريستيانا دو ماركي، بيتينا خوري بدر، زينة أبو الحسن، سارة صحناوي، علاء عيتاني، كليمانس كوتارد، هاشم وكارولين تابت، الياس نفاع وغيرهم... تنوعت اللغة الفنية للأعمال بين الصور الفوتوغرافية واللوحات والنحت والفيديو والتجهيز، كأنها دعوة أيضاً للتنوع واقتراح المختلف في العمل الجماعي من دون إهمال سؤال الهوية الفنية لكل فنان ووجهة نظره في فكرة التعاون، كما أكدت صاحبة الغاليري نايلة كتانة كونينغ، قائلةً بأنّه «من دون الرغبة في العيش معاً، الإبداع، وتطوير المشاريع والأفكار جنباً إلى جنب، مع السماح لكل منا بالتعبير عن حساسيته الخاصة وطرق صياغته، فإن التقدم غير ممكن، لذلك من أجل إعادة البناء، علينا العمل معاً».
علاء عيتاني ــــ «اللامختلف» (أكريليك على كانفاس ــــ 204.5 × 182.5 سنتم ـــ 2021)

«التقاليد تقوم على فكرة الحشد» هكذا أكد غوستاف لوبون في كتابه «روح الجماعات». لكن المعرض يصرّ بأكثر من لغة على أن يتجاوز تلك التناقضات والاختلافات في ما بيننا، ليرفض فكرة الحشد ويكشف عمق «الهوية». ففي فيديو لافت لكريستيانا دو ماركي بعنوان «رمي النرد»، نرى كم تتوزّع الهوية في أمكنة مختلفة حين نشاهد تلك اليد ترمي سبع قطع من النرد كل مرة، ويختلف مكان كل نرد، كأنّ كل ما نمر به في الحياة هو عشوائي، بما فيه مكان الولادة والعمر والجنسية وحتى الجنس والدين. يطرح هذا العمل فكرة المصائر التي تتبدل داخلنا كأنها تعيدنا كل مرة إلى سؤال «من نحن؟» الذي يبدو كأنه حصيلة تلك الحوادث التي لا يمكن الرجوع إلى الوراء لتغييرها، بل إلقاء النظر عليها والتفكير بها مرة أخرى، حيث يقترح هذا الفيديو من وجهة نظر فنية تجاوز كل هذه المعايير التي تحددنا والانتماء لفكرة إلقاء النظر على تلك العملية التي تحدّد مكونات الهوية.
يصرّ المعرض على رفض فكرة الحشد وكشف عمق «الهوية»


ومن مكان آخر، تطل ميساء الخوري بصورة فوتوغرافية من غرفة البيت، لنشعر أن الفضاء هنا تغير. في صورتها المعنونة «البيت حيث كانت جدتي»، يأتي السؤال عن وجودنا مع أشخاص آخرين، حيث تذهب نحو معنى «الحميمية» واللغة المشتركة التي نخلقها «معاً» في غياب أو وجود الكلام، وخصوصاً أن ميساء الخوري تذكر أنها استوحت عملها من أيام وجودها في البيت مع جدتها أثناء الوباء ولم تكن جدتها تستطع الكلام، فظهرت لغة أخرى هي التصوير. اللغة الفنية هنا تحاول أن تكتشف هذا الوجود المصغر «البيت»، لنتخيله وطناً بأشخاص آخرين وثقافات مختلفة، وتأمل اللغة المشتركة التي ينبغي خلقها وتستطيع أن تخترق الحواجز الداخلية والخارجية.
ومن فضاء مألوف أيضاً ومشترك، يرسم الفنان علاء عيتاني في لوحة أكريليك ثلاث قطع معمول في لوحة سماها «اللامختلف». يقترح علاء هنا العودة إلى تلك الأجواء التي تجمعنا حيث الطعام لغة مشتركة وبسيطة. اللافت أن الفنان ترك هناك فراغاً وبياضاً يحيط بالقطع الثلاث كي يحفز المخيلة على التفكير في السياقات الاجتماعية والتقاليد والأجواء التي يريد فقط أن يوحي إليها بهذا الفراغ الأبيض. وهي فعلاً ما تجعلنا نفكر أن المعمول يحضر في أعياد مختلفة دينية وغير دينية وأحاديث كثيرة قد يستدعيها هذا الضيف المحبب الذي يمحو ببساطة اختلافاتنا.

ريان رعيدي ـ «فكر في قلبي نحو اكتشاف الآخر بالقلب والعقل معاً» (أكريليك على كانفاس ــ 90 × 120 سنتم ــــ 2019)

أما الفنانة ريان رعيدي فتأخذنا في لوحتها «فكر في قلبي نحو اكتشاف الآخر بالقلب والعقل معاً»، في متاهة طويلة ومتشابكة كأنها تشير إلى أنها رحلة متواصلة، نعرف أن الآخر هو جزء منها، وتظل تتشابك حتى يتضح عن قرب أن تلك اليدين اللتين تمتدان نحو عقل الآخر وقلبه، هما الطريقان وباقي الطرق تكون عبارة عن أجساد أخرى لأشخاص آخرين، كأنهم جزء من المتاهة التي تتشعب. رسمت ريان اللوحة بالأكريليك، ولعل اختيارها اللون الأحمر جاء موافقاً لسؤال الحب لأن في رحلة الحب التي نخوضها، نريد أن نسمع الآخر ونفكر معه ومنه.
وأما «مفكرة السماء» للفنانة بيتينا خوري بدر، فتسأل سؤالاً آخر عن معنى النظر ورؤية الأمور من زاوية أخرى. رسمت الفنانة في مربعات صغيرة صوراً للسماء في أوقات مختلفة، اختلفت فيها درجات الأزرق كأنها تدعونا للتفكير كيف هي مختلفة تلك الأوقات ليظهر المكان بصورة مختلفة. كأننا نرى العالم كل مرة بشكل مختلف، وهذا ما يحفزنا على التفكير معاً بمعنى هذا المكان الذي نحيا فيه ونراه بطريقة أخرى. أسئلة أخرى طرحها المعرض الذي ضم في طياته لغات فنية تطمح للتغيير والتقدم، وتحاور الذات والآخر من أجل تجاوز ما يفرقنا والعمل بجدية معاً.

«معاً»: حتى 7 آب (أغسطس) ـــ «غاليري تانيت» (مار مخايل ـ بيروت) ـ للاستعلام: 71/328814