بينما نجوب ممرّات وقاعات وغرف ومساحات فندق باروكي فخم، بأعمدته العالية وأقبيته العميقة... بين الثريّات والسجّاد والرخام، نشعر بالمتاهة التي نحن فيها، ونسترشد فقط بالحركة الإيقاعية للكاميرا وبصوت الراوي الذي يتنبأ ويكرر جملاً متقطعة، تبدو غير متصلة. نتعلق بالكاميرا والصوت، علّنا نصل إلى مكان. لكن الراوي يضعنا في لغز أكبر. يخبرنا: «هذه القصة كلّها انتهت. بضع ثوان وسوف تتجمد إلى الأبد، في ماض رخامي، مثل هذه الحديقة المنحوتة في الحجر. هذا الفندق بغرفه الآن مهجور، هؤلاء الناس الساكنون الصامتون، ربما ماتوا منذ زمن طويل. حراس الممرات التي أمرّ من خلالها لمقابلتك، وصفوف الوجوه الجامدة واليقظة واللامبالية، ربما تحدق في مدخل هذه الحديقة...».

بين السفر في ممرات الفندق وضربات الموسيقى القهرية المقلقة وبين المونولوجات التي تظهر وتقطع الحوارات، وبين الفجوة المستمرة بين الصورة والصوت، وبين ما نشاهده الذي يتعارض مع ما نسمعه... نرى شخصيات تستعرض القاعات والزوايا كأنها أشباح. نغرق هنا ونعلم أننا في لعبة أحلام مركّبة. ونسأل، بمن نثق: بأعيننا أم بأذنينا؟ أم نستسلم فقط للوهم الهائل المتمثل في هاتين الحاستين؟
ما زال فيلم «العام الماضي في مارينباد» (1961) بعد ستين عاماً على عرضه ــــ وسيبقى إلى الأبد ــــ أحد أكثر الألغاز المحيّرة وغير القابلة للحلّ في تاريخ السينما. خلق المخرج الفرنسي آلان رينيه (1922 ــــ 2014) أحجية سوريالية طليعية ووضع رجلاً وامرأة فيها، ووضعنا معهما. وفقدنا جميعاً أنفسنا بين الواقع والحلم والماضي والحاضر والخيال. دوامة سينمائية متناقضة ننزلق فيها كلّما فكرنا فيها كثيراً.
قريب إلى جماليات حركة «نوفو روماني» التي كان أهم وجوهها الكاتب والسينمائي المعروف ألان روب غريّي


في مرحلة ما، نكتشف أن الراوي هو الرجل الذي نشاهده يتحدث مع امرأة، كما لو أنهما على معرفة سابقة. تتجاهل المرأة الرجل، وتنكر بشكل قاطع أنّها تعرفه. لعلّ «العام الماضي في مارينباد» هو قصة حب، تتأرجح بين الشوق والقمع. يروي الفيلم كيف يحاول هذا الرجل إقناع امرأة متزوجة بأن كليهما مكث العام الماضي في المكان نفسه. يتقدم الفيلم من خلال مواقف متناقضة من التأكيد والإنكار. فهو يصرّ على تكرار المعلومات ويعلن تفاصيل مقنعة. وهي تستمر في إنكارها، ولكن في مرحلة ما، تبدو مترددة، مرتبكة، متحفظة. من خلال رحلة الكاميرا البانورامية والسفر بين متاهات الفندق، نشاهد صورة مجازية للذاكرة المشوّشة. يبدو أن المرأة وسط تشوّشها، مندهشة من عدم اليقين. تبحث عن ملجأ في الطبيعة المتناسقة هندسياً للحديقة الخارجية. وتستحضر ماضياً غير محدد وغير بليغ.
نصطدم بالزمن، وعدم وجود سرد تقليدي ببداية ووسط ونهاية قصة، كل شيء من منظور مجرد. الماضي والحاضر ليسا محفوظين في خزانات الذاكرة أيضاً. يقين الزمان والمكان لا يدعمهما الفندق ولا الحديقة. لا يوجد طفل أو مراهق، لا حيوان في تلك المساحة الداخلية أو في الحديقة، ولا حتى طائر في السماء. الرجال والنساء في سبات عميق، يتحركون ببطء شديد.
يشكل الفيلم لغزاً معقّداً، يصرّ العقل على حلّه من دون الاعتراف بالفشل. كل إمكانية للتفسير لها ما يبرّرها، ولكن في النهاية هذا الحلم الرائع وفي الوقت نفسه المصمم بشكل مثالي في شكل فيلم هو قبل أي شيء رحلة إلى البناء السريالي الطليعي للسينما، حيث تفتح البداية والنهاية أبواباً مغلقة مختلفة. لا يقتصر الأمر على المكان فحسب، بل الوقت أيضاً ويجعل الوجوه التي لا حياة لها محاصرة إلى الأبد.
فيلم رينيه قريب إلى جماليات حركة «نوفو روماني» التي كان أهم وجوهها الكاتب والسينمائي المعروف ألان روب غريّي (1922 ــــ 2008)، كاتب سيناريو الفيلم. «نوفو روماني» ألغت السرد الكلاسيكي، وفتحت عناصر جديدة للسينما، ولا سيما في التفريغ الأيديولوجي للحبكة والشخصيات، واستخدمت الحوارات المتكررة والوصف المنهجي والتفصيلي على حساب السرد الموضوعي. فيلم «العام الماضي في مارينباد» مليء بهذه العناصر، التي جعلته مرجعاً سينمائياً. تحفة آلان رينيه هي سينما ذات تجربة إيحائية للغاية... حتى عنوان الفيلم ربما يكون كذبة!