خلال العدوان الصهيوني الراهن على شعب فلسطين، والذي بدأ بمحاولة تهجير أهالي الشيخ جراح في القدس، واقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على المصلين في داخله، تألّقت مدن فلسطين كلها في القطاع والضفة في عملية التصدي البطولي لهذا العدوان وشاركت مدن المناطق الفلسطينية المحتلة سنة 1948 بنشاط وكثافة وبسالة أذهلت العدو، بل حتى الصديق. ومن فلسطين المحتلة سنة 1948، برزت مدينة اللد التي استولى على مركزها الشبان الفلسطينيون المنتفضون وأنزلوا العلم الصهيوني ورفعوا العلم الفلسطيني بدلاً منه. هنا جولة تعريفية بمدينتَي غزة واللد عبر التاريخ
غزة هاشم: همزة الوصل
هي غزة، التي كان اسمها عند الكنعانيين هزاتي وعند الفراعنة غزاتو وعند الآشوريين الرافدينيين عزات، وعند العرب غزة هاشم.
في القرن الثاني عشر ق.م، كانت غزة واحدة من المدن الخمس التي بناها شعب الفلسطة المهاجر إلى الساحل الفلسطيني الجنوبي من جزر شرقي البحر المتوسط كما يعتقد باحثون، أو التي بناها الكنعانيون أصلاً، وهاجر إليها وسكنها المهاجرون الفلسطة واندمجوا بسكانها الأصليين كما يعتقد باحثون آخرون، إلى جانب مدن أخرى هي: عسقلان، أسدود، جت وعقرون، في الساحل الجنوبي ما بين يافا ووادي العريش.
سمّاها العرب «غزة هاشم» نسبة إلى هاشم بن عبد مناف، الجد الثاني للنبي العربي الكريم محمد بن عبدالله. أما جده المباشر أو الأول، فهو عبد المطلب بن هاشم الذي توفي في التسعينيات من عمره، وكان هاشم واحداً من كبار تجار الحجاز، وهو الذي سنَّ لهم رحلتَي الشتاء والصيف اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم، وتوفي في غزة شاباً في الثلاثينيات من عمره ودُفن فيها في القرن الخامس الميلادي. وبهذا، فغزة هاشم تؤكد حقيقتين: الأولى أنها كانت همزة وصل بين فلسطين والجزيرة العربية، وخصوصاً الحجاز واليمن، على مرّ العصور قبل الإسلام وليس بعده كما يقول الصهاينة، ومن والاهم من كتبة مأجورين يريدون قطع الصلة بين الفلسطينيين وبلادهم الأصلية فلسطين، ويكررون القول أو الإيحاء بأنهم مهاجرون كلهم جاؤوا من بلاد عربية أخرى. والحقيقة أن هجرة الأقوام الجزيرية «السامية» بين أقاليم المشرق العربي حقيقة واقعة، لكنها ليست كل الحقيقة. فهناك شعوب أصلية وأخرى مهاجرة تندمج بالسكان الأصليين كما اندمج شعب الفلسطة البحري بالكنعانيين، والفلسطينيون العرب اليوم شعب أصيل وعريق وهو وريث الشعوب القديمة وفي مقدمتها شعب الفلسطة والكنعانيون ومن هؤلاء، اليبوسيون بناة أورسالم/ القدس والأدلة على هذه الحقيقة لا تُحصى وآخرها الأدلة الوراثية الجينية.
قبل الإسلام بقرون عدة، كانت غزة مركزاً تجارياً كبيراً للتجار العرب الجزيريين من الحجاز واليمن كما قلنا، ويبدو أنَّ العرب كانوا على اتصال وثيق بالشطر الجنوبي من الساحل الفلسطيني منذ ظهورهم في التاريخ. ففي المدونات التاريخية، نقرأ أنَّ تاجراً مكياً يسمّى عقبة بن أبي معيط كان له ــ قبل الإسلام ـــ متجر كبير في مدينة صفورية القريبة من الناصرة. أما أبو سفيان، فقد كان يملك عقارات ومتاجر في فلسطين.
شاركت غزة في عصر دويلات المدن ـــ في ما نسميها اليوم بلاد الشام ـ في ثورات هذه المدن ضد الغزاة ومن ذلك: في 720 ق.م، اندلعت ثورات ضد الهيمنة الآشورية في حماة وغزة ودمشق والسامرة، بتحريض ودعم مصرييْن على الأرجح، واستطاع سرجون الثاني الآشوري أن يقضي على هذه الثورات، في ولايات الشمال الشامي، في موقعة «قرقرا». ثم زحف جنوباً حتى وصل إلى ربيحو «رفح»، فأوقع هزيمة نكراء بـ «سيبو» قائد جيوش مصر الفرعونية، الذي أرسله الفرعون لنجدة حنون «هانُّو» ملك غزة، فانسحبت القوات الفرعونية وتركت غزة تواجه مصيرها وحيدة. لقد حاولت مصر الاستمرار في دعمها للممالك الفلسطينية ضد غريمها الرافديني الآشوري، فتشجّع حنون ملك غزة - وكان لاجئاً سياسياً في مصر - على الثورة ضد الدولة الآشورية، وأمر الفرعون قواته في ربيحو «رفح» بقيادة سيبو بدعم الثائرين الفلسطة. وحين بدأ الصدام العسكري، هرب القائد الفرعوني سيبو ودمّر سرجون الثاني مدينة رفح وأسر ملكها حنون.
نافست مدينة ومملكة غزة مملكة صور الفينيقية شمالاً في عنادها وصمودها الأسطوري. ولم تتعظ من نهاية جارتها الشمالية المأساوية، التي دمّرها الإسكندر المقدوني وأسر سكانها بالجملة، فلم يتعامل مع المدينة الجريحة صور بشهامة كما فعل الملك الرافديني نبوخذ نصر سنة 585 ق.م، الذي احترم أهلها ولم يؤذهم، بل فتكت الجيوش المقدونية بأهلها بقسوة بعدما قاتلوا قتال الأحرار المستميتين، وباع الإسكندر أكثر من ثلاثين ألفاً من سكانها، نساء وأطفالاً، في أسواق الرقيق سنة 332 ق.م. وصمدت غزاتو تقاتل قتالاً بطولياً ضد جيش الإسكندر بن فيليب، شارك فيه جميع أهلها في تجربة حرب شعبية هي الأولى من نوعها في التاريخ البشري المعروف. وكان يقود قواتها الشعبية ضابط إغريقي مهاجر يعيش فيها ويدعى باطيس، واستمر القتال على أسوار غزة بين شهرين إلى أربعة أشهر حسب الروايات، ثم دخلتها جيوش الإسكندر بعد تدميرها، وقبض الغزاة على القائد الغزاوي باطيس، وأمر الإسكندر بإعدامه بطريقة وحشية. ونهب الغزاة بضائع التجار العرب، ولا سيما العطور والبخور، ووزّعها الإسكندر على أعوانه ورجال دولته.

اللدّ الكنعانية فالعربية: صمود أسطوري
تقع اللد على بعد 38 كم شمال غرب القدس وعلى مسافة 16 كم جنوب شرق يافا و5 كم شمال شرق الرملة. يعود تاريخ بنائها إلى الألف الخامس ق.م، من قبل الكنعانيين. كانت تُسمَّى في عصر الفرعون تحتمس الثالث بـِ «رتن»، وفي عهد الرومان دُعيَت باسم «ديوسبوليس». ذُكرت في الكتاب المقدس (العهد القديم) عدة مرات وعُرفت بـ«لُد» بضم اللام، وغيَّر اليونانيون اسمها إلى ليدا (Lydda)، وذكرها ياقوت الحموي في معجمه وقال إن لُد بالضم والتشديد، وهو جمع ألد والألد تعني الخصومة، ولا أرجح هذا التخريج للاسم تأثيلياً «إيتمولوجياً». وذكر أحد الباحثين أن «اسم اللد نسبة إلى «الليديين» وهم الشعب الذي استوطن سواحل آسيا الصغرى الغربية والواقعة على بحر أيجة، وهاجرت بعض شعوب هذه الجزر كشعب الفلسطة الى سواحل فلسطين فخلدوا الليديين بتسمية بلدة اللد». ولا أرجح هذا التخريج أيضاً لانعدام وجود ما يؤكده إناسياً وتأثيلياً.
في الماضي كانت اللد عاصمة منطقة وسط فلسطين، وفي فترة الفتح العربي الإسلامي اتخذها عمرو بن العاص عاصمة لجند فتح فلسطين عام 636 م. واستمرت كذلك حتى تأسيس مدينة الرملة عام 715م التي أصبحت مركزاً مهماً في فلسطين. احتلت قوات الفرنجة «الصليبية» مدينة اللد. وفي عام 1267م، وبعد هزيمة واندحار جيوش وممالك الفرنجة، ضمّها السلطان بيبرس إلى مناطق نفوذه.
وفي العهد العثماني، عام 1516م، كانت اللد قرية تابعة لقضاء الرملة، واكتسبت أهميتها السياحية من وجود قبر القديس جورجيوس الذي ولد سنة 280م وقتله الإمبراطور الروماني دقلديانوس، تحت التعذيب لأنه لم يرتد عن دينه المسيحي. وأنقاض الكنيسة التي بنيت فوق قبره أعيد بناؤها عام 1870م. وفي عام 1914م، اندلعت الحرب العالمية الأولى وجُنِّدَ شُبان المدينة للاشتراك في الحرب التي انتهت بزوال الحكم العثماني على البلاد. وفي عام 1917م، انسحب الجيش العُثماني من اللد عند اقتراب الجيش البريطاني منها، وأصبحت اللد تحت الحكم العسكري البريطاني الذي شكّل لاحقاً حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين.
بعد قيام الكيان الصهيوني في 14 أيار (مايو) 1948، شنّت الميليشيات الصهيونية عملية عسكرية واسعة في اللد والرملة للاستيلاء على البلدة ومطارها وفشلت عدة مرات. وفي 10 تموز (يوليو) 1948، وحين نفد عتاد المدافعين عنها، تمكنت من احتلالها بخدعة رخيصة، حيث دخلتها بلباس الجيش الأردني بعدما روّجت شائعات مفادها أنّ قطعاً من هذا الجيش ستدخل المدينة للحيلولة دون سقوطها في أيدي الصهاينة. وارتكبت العصابات الصهيونية بعد احتلالها مجزرة بشعة (من مجازر عديدة مسكوت عنها) بحق المصلين والمدنيين. قتل الصهاينة عند دخولهم اللد 426 عربياً منهم 176 قُتلوا في «مسجد دهمش». وبعد المجزرة، ظل المسجد مغلقاً لأكثر من نصف قرن، حتى تمّ ترميمه وافتتاحه من جديد عام 2002. وقد ذكر الداخلون إلى المسجد بأنهم قبل أن يبدأوا بأعمال الترميم، شاهدوا آثار المجزرة باقية ومنها بُقع حائلة من الدم الجاف على جدران وأرضية المسجد.
أما «مطار اللد» الذي أطلق عليه الكيان الصهيوني اسم «بن غوريون»؛ فقد افتُتح من قبل سلطات الاحتلال البريطاني عام 1937 وأطلقت عليه اسم «مطار فلهيلما». ثم أصبح المطار الدولي لفلسطين حتى بعد قيام الكيان الصهيوني حيث غيرت السلطات الإسرائيلية اسمه ليصبح «مطار اللد». وحين توفي مجرم الحرب دافيد بن غوريون عام 1973، قررت سلطات الكيان تغيير اسمه ثانية ليصبح «مطار بن غوريون الدولي».
في اللد بقيت نسبة سكانية مهمة من الفلسطينيين. واعتبر الكيان الصهيوني أن اللد تم تهويدها وصهينتها كسائر مناطق فلسطين التي احتُلت سنة 1948، لكن شباب المدينة انتفض في الانتفاضة المجيدة بقوة أذهلت الصهاينة وغير الصهاينة، فسيطر الشباب على مركز المدينة وأنزلوا العلم الصهيوني ورفعوا علمهم الفلسطيني. وقد بلغ هذا النضال إحدى ذراه المهمة في الإضراب العام يوم 18 أيار الماضي في عموم فلسطين. لقد جاءت انتفاضة الفلسطينيين في مناطق 48 بزخم أقوى ومشاركة أكثف هذه المرة بعدما أسفر الكيان الصهيوني عن حقيقته العنصرية الرافضة للآخر ولو كان صاحب الأرض حين قرر أن يسنّ قانوناً يعتبر «إسرائيل» دولة قومية خاصة باليهود فقط، وقد صوّت عليه الكنيست باسم «قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل»، بتاريخ 19 تموز (يوليو) 2018. وطلب الكيان من الرسميين الفلسطينيين في سلطة أوسلو البائسة الاعتراف بيهودية كيانهم، لكن السلطة لم تجرؤ على الموافقة حتى الآن. وقد جاءت انتفاضة فلسطينيي مناطق 48 لتؤكد هويتهم الفلسطينية العربية في كيان عنصري يرفض الاعتراف بهم كمواطنين متساوين مع غيرهم، ويعتبرهم من الدرجة الأدنى. وها هو الكيان يحصد خيبة جديدة بعدما داس شباب اللد وغيرها من مدن فلسطين 48 على هذا القانون وأكدوا هويتهم الوطنية مجدداً، فطار صواب الصهاينة.
اللد أيضاً هي مسقط رأس القائد الفلسطيني الراحل وحكيم الثورة الفلسطينية جورج حبش. وقد تحدث عن ذكرياته طفلاً فيها وعن تهجيره هو، ومن تبقّى من عائلته منها في مذكراته «صفحات من مسيرتي النضالية». ومن اللد أيضاً، القائد حسن سلامة، أحد قادة المنظمات العربية الفلسطينية الذي استشهد عام 1948، وابنه القائد علي حسن سلامة الذي استشهد عام 1979.
سلاماً إلى غزة وأهل غزة وسلاماً إلى اللد وإلى شباب اللد الشجعان... سلاماً إلى عموم فلسطين وأهلها من الماء إلى الماء وهم يصنعون تاريخهم وتاريخنا!
*كاتب عراقي
** بعض الفقرات الخاصة بغزة القديمة مقتبسة من كتاب علاء اللامي «موجز تاريخ فلسطين منذ فجر التاريخ وحتى الفتح العربي الإسلامي» (دار الراعي - سنة 2019)