يبقى الباحث والأكاديمي التونسي خليل قويعة من الأسماء القليلة والنادرة، التي راهنت في ما تكتب على الفنّ بوصفه صناعة فكرية تقوم على ابتداع مفاهيم أكثر معاصرة والتحاماً بحياتنا اليومية. اسمٌ فريد داخل مسار النقد التشكيلي التونسي، تتجاوز كتاباته النقد كمفهوم إجرائي يستند إلى معاينة الأعمال التشكيلية، ليغدو بمثابة مقدّمات فكرية، تحفر في مسار اللوحة العربيّة وفتحها على تخوم المعرفة الإنسانية والاجتماعية، التي يعمل دوماً على إقامة نوع من السجال المعرفي معها، وهو يروم إلى دراسة البنى الفكرية، التي تتحكّم بنشوء العمل الفني داخلياً وخارجياً. هو يعمل على توسيع أفق اشتغالاته داخل مناهج مُتعدّدة، إلى درجة تصبح فيها براعة قويعة تكمن في عملية الجمع والترميم من ثقافات غربية عدّة وإعادة مزجها في خطاب فسيفسائي مُركّب، يقيم على حدود الفحص والمعاينة، بحيث يدخل النقد الفني حلبة المعرفة الإنسانية صوب كتابة تتنطّع بنفسها كوجود مستقل عن العمل الفني. قد يقف ذلك عائقاً أمام تفكيك العمل الفني وما ينضح به من إبدالات فنية وجمالية، يتأسّس عليها مفهوم النقد عامة. لكنّ هذا الأمر، لا ينفي أهميّة كتابات خليل قويعة البحثية، فهو يُخرج النقد التشكيلي العربي من أبعاده الإعلامية ليصبح مختبراً لطرح أسئلة حقيقية عن اجتماعنا العربي، خاصّة أنّ الفنّ، بحكم خصوصيته المُتفرّدة داخل النسيج الاجتماعي، بإمكانه أن يُجيب عن كل مآزقنا وأسئلتنا المُقلقة حول مصير الفرد داخل المجتمعات المعاصرة.
أرسومة لعلي بن سالم

في كتابه الجديد «مسار التحديث في الفنون التشكيليّة: من الأرسومة إلى اللّوحة» ( دار محمّد علي للنشر ـــ 2020) الذي وصل أخيراً إلى القائمة القصيرة في «جائزة الشيخ زايد» في فئة الدراسات الفنية والنقدية، يواصل خليل قويعة حفره، لكنّ هذه المرّة من خلال تشريح مسار التحديث داخل الفنّ التشكيلي التونسي، مُعطياً أهميّة قصوى للسياق الثقافي الذي تكرّست فيه الأرسومة (الرسم على الزجاج) منذ نهاية القرن التاسع عشر، خاصّة أنّها احتفظت بنفس الحساسية اللاّمرئيّة التي تميّزت بها بوصفها امتداداً قويّاً للفنّ الإسلامي. يرى الباحث أنّ هذا الفنّ قام على مفهوم التجريب وتمسّكه بالخلفية الدينية، التي تستند إلى مبدأ التوحيد، فبروز الأرسومة الزجاجيّة قام على بعدين: «الأوّل سطحي يخاطب الإدراك المباشر وهو البعد التشخيصي، إذ هو تجسيد لقيم وأفكار ونواميس تجذّرت في المخيال الشعبي، وكانت تسكن أنماطاً في الفكر وتستمر عبر الحكايات والحكم والخرافات وتشهد على خزان اجتماعي وثقافي متفرّع المشارب، ولكنه موحّد من حيث المرجعيات الإسلاميّة والشرقية. أما البعد الثاني، فهو ما يحيل إلى التجريد الذي يفترض أن نتدبّره تأويليّاً، غير أنّ حضور النصّ في الأرسومة يعمل على توجيه نظرنا وقد يُغنينا عن تأويل ما هو في الأصل من صنيعة مجرّدة». لا يتوقف قويعة عند الحدّ المُتعلقّ برصد الأبعاد التقنية للأرسومة، بقدر ما ينزع نحو تفكيك بناء فضاء الأرسومة والأساس الفكري الذي قامت عليه هذه الممارسة التراثية، التي برزت قبل اللّوحة المسندية، عاملاً على تشريح كينونتها الفنية والجمالية وما تحبل به هذه الصورة الشعبية من أسرار على مستوى طبيعة التفكير المجتمعي. فالأرسومة بطبيعتها التراثية فنّ أكثر انغماساً في المجتمع العربي. هي تُصوّر بطريقة ما عظمة الفنّ الإسلامي وإرثه الحضاري، وهو يتنزّل منزلة التحديث والحداثة قبل أن تظهر اللّوحة المسندية. في هذا الأفق الكولونيالي، يأتي كتاب قويعة الحفري والراصد لمُختلف مظاهر فنّ الأرسومة وتمثّلاتها داخل الفنّ العربي الإسلامي، فتحوّلها من مفهوم الإنتاج الحرفي إلى الإبداع الفني، لم يكُن بالأمر اليسير، بقدر ما هو في نظر قويعة «تحوّل أنطولوجي كبير وتوتّر إشكاليّ في بنية الوعي الثقافي نفسه داخل مرحلة تاريخيّة تلقي بضفافها على مسألة الهويّة وأسئلة الكون والاستحالة». على هذا الأساس، تساءل الباحث ما إذا كانت الحداثة تُشكّل انقلاباً على أحد مظاهر الهويّة وإذعاناً كاملاً لوافد أجنبي يدّعي الكونيّة؟ لكن الأمر الذي لم ينتبه له قويعة (وعبدالله العروي أيضاً)، أنّ مفهوم الحداثة ليس انتقائياً، وأنّ المجتمعات التي تقبل الدخول في الحداثة، تكون ملزمةً بعيش المسار التراجيدي نفسه الذي مرّ به الغرب، فمنطق «ما يصلح لنا» لا يُقدّم لنا إلا حداثة مُتصدّعة وقد تخلّت عن كلّ أبعادها وحمولاتها فكرياً وسياسياً واجتماعياً.
قام هذا الفنّ على مفهوم التجريب وتمسّكه بالخلفية الدينية، التي تستند إلى مبدأ التوحيد


ونظراً إلى الأهميّة التي بات يحظى بها التشكيل التونسي، فإنّ خليل قويعة يربط مسار تحديث الأرسومة في تونس بثلاث تجارب (علي بن سالم، حاتم المكي وعمارة دبش) يعتبرها طليعية وقد لعبت دوراً كبيراً في فتح الرسم الزجاجي التونسي على مفهوم الحداثة من خلال ما قامت ببلورته من مفاهيم جديدة، ظلّت بشكل من الأشكال عبارةً عن مقاومة، ما يجعلها في مقدّمة التجارب الفنية العربيّة المُهمّة، سواء تعلّق الأمر باللوحة المسندية أو التجارب الأخرى، التي فتحت لنفسها آفاقاً جديدة ومُغايرة على مستوى التخييل من خلال تجاوز مفهوم اللوحة المسندية وجعل العملية الفنية تدخل في عناق مع الفضاء العمومي، كما تبلور المفهوم لدى هابرماس. هذه الطريقة في حكي الصورة وتطويع مُفرداتها البصريّة، لم تكُن تُضمر في طياتها، إلّا التجديد البصري، الذي طبعها في السنوات الأخيرة وجعلها الأكثر حضوراً داخل طوبوغرافيا الفنّ العربي المعاصر. رغم أنّ تجارب كثيرة لم تجترح أفقاً جمالياً مُغايراً مُستندة إلى مفاهيم الأرض والهوية والوطن والأصالة، لكنّها تبقى مُهمّة فنياً بالنظر إلى تاريخيّتها والسياق الذي أفرز أدبياتها الجمالية داخل مسار التشكيل التونسي المعاصر. إلى جانبها الفني، هي تشتغل اليوم كوثيقة بصريّة، تُفيد الباحث أو الناقد من أجل تلمّس الرجّات السياسية، التي ألمّت بالمشهد التاريخي التونسي وأهم طفراته ونكباته. فهذه التجارب بحكم تجريديتها في أحيان كثيرة، بدت للمُشاهد كأنّها الأقرب إلى التجريب والتخييل منها إلى التوثيق والتأريخ، بسبب النظام المفاهيمي، الذي عملت على تطويعه بصرياً ويستند إلى مفهوم التجريب، باعتباره مدخلاً عامّاً إلى طوبوغرافيا التشكيل التونسي. على هذا الأساس، يختار قويعة المحترف التشكيلي التونسي مادة لبلورة أفكاره منذ الفصل الثالث، فهو يحرص على مقارعة هذه التجارب نقدياً وبنفس تحليلي، لا يبارح المناهج الغربية المعاصرة وقدرتها على التأثير في بنية وعي الصورة الفنية وتحوّلاتها. اللافت عند الباحث أنّ المراجع التي يستند إليها في بلورة خطابه النقدي، تبقى مرتبطة بفلسفة الفنّ وتاريخ الجماليّات المعاصرة، فهو يتجاوز إلى حد كبير المراجع الأدبيّة الفجّة، التي نُعاينها داخل خطاب النقد الفني، كما هو الأمر لدى عدد من الأكاديميين، الذين يُسقطون مفاهيم النصّ الروائي والقصصي والشعري على الصورة بكلّ تمثّلاتها الفنية، وهذا مطب القراءات الكثيرة، التي قرأت اللوحة العربيّة بمفاهيم الأدب، من دون أن تُتيح لنفسها أوّلاً إمكانية التفكير في الشروط المعرفية، التي أسهمت في إبراز مفهوم الصورة عربياً.

عمل لحاتم المكي

لكن المُلاحظ أنّ هذه التجارب التشكيلية تبدو كأنّها خاضعة في شروطها الجمالية ومُواضعاتها الفنية إلى سياق تاريخيّ (الثلاثينيات) بالتحديد، يتعلّق بقدرة الفنانين التونسيين على فتح تجاربهم على تخوم الجرح ومواجهة كل أشكال التنميطات البصريّة، التي عمل الاستعمار على فرضها، ليس فقط على التجارب التونسية، وإنّما العربيّة ككلّ. لكن هذه المقاومة/ الثورة التي أبداها الفنانون، لم تكُن بشكل فجّ ومُباشر، بقدر ما جاءت بشكل تسلسلي ونتيجة تطوّر المسار الفني والوعي السياسي للفنّان، الذي وجد نفسه مُطالباً بالانخراط، في ما يعيشه المشهد العربي سياسياً واجتماعياً من شروخ وأعطاب وتصدّعات. هذه الطريقة في الثورة على الواقع، وما يحبل به من ألم وتنكيل أنتجت فناً تشكيلياً ظلّت أعماله بمثابة صور أيقونية عن واقع أو حادثة أو جرح مدينة.
من ثم، فإنّ المُشاهد لهذه الأعمال يصطدم أحياناً بتكرار فني يتمثّل في طريقة معالجة موضوعات الأرض والوطن، ومن جهة أخرى، يُصدم بجمالية هذه الأعمال من الناحية التاريخيّة وقدرتها على التقاط تفاصيل صغيرة من المشهد التونسي المعاصر وإعادة بلورته وتخييله على سطح اللوحة. تقترح غالبية الأعمال من الناحية الإجرائية نظرة مغايرة بالنظر إلى التجارب، التي انفتحت على الفضاء العمومي، فالأولى تكتسي أهميّتها انطلاقاً من عنصر الذاكرة، عن طريقة ميكانيكية الحدث ومدى تأثيره في المرحلة الراهنة وفق مستويات مُختلفة ومُتباينة على مستوى المعالجة الفنية، بمعنى أنّها خاضعة لشرط تاريخيّ تنطبع به وتبني عوالمها الفنية والجمالية على أساسه. هذا التماهي الجسدي مع التاريخ قد يعتبره بعضهم أنّه لا يُنتج واقعاً مُتخيّلاً، لكن هو ما يجعل اللوحة فناً وليست شيئاً آخر. لكن في بواكير التجربة التونسية يختلف الأمر، إذ يصبح التاريخ هو المعين الذي لا ينضب من قصص وحكايات تُصوّر كل أشكال المُقاومة الشرسة، التي أبداها التشكيليون في وجه القوى الاستعمار. كل هذا في مقابل التجارب الجديدة، التي بدت الأكثر تعبيراً عن قلق الواقع وميثولوجياته من خلال الإفادة من مُختلف الوسائط البصرية المُتعدّدة، التي تُتيحها ضمنياً مفاهيم الفنّ المعاصر. وتظلّ الأهميّة الكبرى، التي يتمّيز بها كتاب خليل قويعة، في كونه يطرح ضمنياً بعض المفاهيم الفكريّة من قبيل: التحديث والحداثة والفنّ، بخاصّة أنّ الدراسات التاريخيّة، التي عملت على تأريخ مفهوم التحديث منذ بواكير القرن التاسع عشر، ظلّت تقف عند حدود الإصلاحات السياسية والاجتماعية وكأنّ الفنّ لم يكُن له أيّ دور في الحياة السياسية العربيّة، مع العلم أنّ دوراً كبيراً لعبته الصورة في اختراق المجتمع العربي وتحريره من أساطير الواقع وقهر التاريخ.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا