القاهرة | وسط حضور اقتصر على الأهل بسبب ظروف وباء كورونا، شُيِّعت الكاتبة والمناضلة النسوية نوال السعداوي (1931 ـــ 2021) أمس في مقابر العائلة في «السادس من أكتوبر» في القاهرة، تاركة إرثاً يفوق الخمسين كتاباً، تُرجمت إلى أكثر من 20 لغة. لاقت أفكارها صدى كبيراً لدى الغرب الذي رأى فيها وجه الشرق المتحرر، ما جعلها أحياناً عرضة للاتهام بأنها تكتب من وجهة نظر استشراقية تلبّي احتياجات الغرب. غير أن المدقق في مسيرة السعداوي يرى تضحياتها الجلية من أجل وجهة نظرها، ومن أجل مصير أفضل للمرأة العربية في مجتمعات غير عادلة. لكن السعداوي كانت تتبنى خطاباً راديكالياً غير متهادن ضد سلطة الدين والسلطة السياسية وسلطة المجتمع الذكورية. هذا ما جعلها خارج أي جماعة وأضفى على تنظيراتها قوةً أدبيةً.

انطلقت مسيرتها من الكتابة الأدبية حيث اعتمدت على تجربتها الشخصية وتجربة النساء من حولها لتشريح السلطة ونقد المجتمع. كل شخصياتها من النساء هن ضحايا لمجتمع ذكوري يمتلك مقاليد الثروة ويضع قوانين للرغبة والعلاقات الإنسانية. في روايتها الأشهر «امرأة عند نقطة الصفر» (1975 ـ تُرجمت إلى أكثر من 40 لغة وصُنفت ضمن أهم 100 رواية عربية)، تحكي عن شخصية «فردوس» التي يُحكم عليها بالإعدام لقتلها رجلاً بسبب الظلم الذي عانته في حياتها، وترفض كتابة خطاب لرئيس الجمهورية للعفو عنها. تقول السعداوي: «هذه المرأة حقيقة من لحم ودم، قابلتها في سجن القناطر منذ أعوام. كنت أقوم ببحث عن شخصية بعض النساء المتهمات أو المحكوم عليهن في قضايا متنوعة. قال لي طبيب السجن إنّ هذه المرأة حكم عليها بالإعدام لأنها قتلت رجلاً، ولكنها ليست كالقاتلات المقيمات هنا في السجن، فهي شخصية مختلفة تماماً ولن تقابلي واحدة مثلها داخل السجن أو خارجه». وفي عام 1977، نشرت روايتها «الوجه العاري للمرأة العربية» التي وثقت تجاربها، إذ كانت شاهدةً على جرائم اعتداء جنسي و«جرائم شرف» ودعارة خلال عملها كطبيبة.
اعتمدت السعداوي شخصيات وواقعاً درامياً في روايتها لإيمانها بأن الواقع أكثر درامية ووحشية أحياناً. وقد كانت تجربتها الشخصية دليلاً انطلقت منه: ولدت لعائلة تقليدية ومحافظة في إحدى قرى محافظة القليوبية بعيداً عن العاصمة، وكانت الطفلة الثانية بين تسعة أطفال، وخُتنت في السادسة من عمرها. ورغم أن والدها أصرّ على تعليم جميع أولاده، إلا أن هذا لم يمنعه من محاولة تزويجها وهي ابنة العاشرة. فعرفت المقاومة منذ كانت طفلة وأكملت تعليمها وتخرّجت من كلية الطب في «جامعة القاهرة» عام 1955 وعملت كطبيبة امتياز في القصر العيني، ثم عملت في مسقط رأسها في كفر طحلة. في هذه البلدة الصغيرة، بدأت أولى معاركها لدفاعها عن الانتهاكات التي كانت تمارس ضد النساء مثل الاعتداءات الجسدية والجنسية، لذلك نُقلت من عملها. وفي 1972، نشرت «المرأة والجنس» الذي جاء تجسيداً لجميع صنوف العنف التي رأتها كطبيبة بحق المرأة كالختان و«الطقوس الوحشية» (كما وصفتها) التي تُقام في المجتمع الريفي للتأكد من عذرية الفتاة. وكنتيجة لتأثير الكتاب وإثارته ضجةً كبيرة لجرأته غير المعهودة، أُقيلت نوال من مركزها في وزارة الصحة، بل إنّ ذلك كلّفها أيضاً مركزها كرئيسة تحرير مجلة «الصحة»، وكأمين مساعد في نقابة الأطباء.
كانت راديكاليةً في مقولاتها ومواقفها، هي التي كانت تقول: «يجب أن أكون أكثر صراحةً، يجب أن أكون أكثر عدوانيةً لأنّ العالم أكثر عدوانية، ونحن بحاجة إلى أن يتحدث الناس بصوت عالٍ ضد الظلم». صراحة جرّتها إلى معارك كثيرة حول نقاط فرعية، منها قضية ختان المرأة والحجاب، وهو ما جرّ عليها حملات عنيفة من الأصوليين والإسلاميين وصلت إلى حد رفع دعوى ضدها للتفريق بينها وبين زوجها بحجة «إلحادها» تماماً كما حصل مع المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، كما تلقت العديد من التهديدات بالاغتيال وإهدار الدم، ما أجبرها على مغادرة مصر لسنوات.
لم تكن معركة السعداوي فقط ضد الأصولية الإسلامية، لكن أيضاً ضد السلطة السياسية الرأسمالية التي رأت أنها ساعدت في تسليع المرأة وتراجع أوضاعها. تدلّل على ذلك مقولتها «إن جذر اضطهاد المرأة يرجع إلى النظام الرأسمالي الحديث الذي تدعمه المؤسسات الدينية». تجربة السجن عاشتها السعداوي عام 1981 حين أودعت فيه ضمن حملة اعتقالات طالت معارضي الرئيس المصري آنذاك أنور السادات. حينها، كتبت مذكراتها باستخدام مناشف ورقية وقلم لرسم الحواجب هرّبته إليها عاملة جنس سجينة. ونتج عنه كتاب «مذكّراتي في سجن النساء» (1982). بعد اغتيال السادات، أُطلق سراح السعداوي، لكن نشاطها خضع للرقابة وحُظرت كتبها.
كل شخصياتها من النساء هن ضحايا لمجتمع ذكوري يمتلك مقاليد الثروة ويضع قوانين للرغبة والعلاقات الإنسانية


مفكرة نسوية عربية عالمية بامتياز ارتبطت بالخطاب النسوي العالمي الذي آمن بأن الجسد محمّل بإرث ثقافي قد لا يتوافق بالضرورة مع دور حامله، وبالانطلاق من الخاص إلى العام، تشير الفيلسوفة جوديت بتلر إلى نقطة مهمة في النظرية النسوية حول اتجاهها لتسييس الخاص، فالدافع النسوي غالباً ما يبرز من تجربة فردية، من معرفة أنّ ألمي أو صمتي أو غضبي أو إدراكي ليس في النهاية ألمي أو صمتي أو غضبي أو إدراكي وحدي، بل يرسم حدودي في وضع ثقافي مشترك يمنحني القدرة بطرائق معينة غير متوقعة. هكذا يكون الشخصي سياسياً ضمنياً بقدر ما يكون مشروطاً ببنى اجتماعية مشتركة، وهو ما كانت تتبناه السعداوي وتكتبه دائماً. كما أنها ارتبطت بالنسوية العربية التي كانت أقل تجرّداً من مثيلتها العالمية ونادت بتحرر جسد المرأة وتفكيك النص الديني المسيطر، لأنّ الجسد ظلّ موضعاً للتساؤل، ورمزاً للتحرر من السلطة الذكورية سواء الاجتماعية أو السياسية. وتنطلق الخطابات النسوية في عالمنا العربي، على رأسها خطاب نوال السعداوي، من تفكيك النص الديني بإحالته إلى سياقه الاجتماعي والتاريخي وقبول فكرة تغليب المصلحة المجتمعية إذا تعارضت معه. هذا الانطلاق الذي يبدو عاماً جداً يتماس مع التجربة الفردية للمرأة، ومع حال النساء لإعادة تكوين علاقاتهن بالرجال، ووضعن في السياق العام. الانطلاق من النص الديني والتراث ليس غرضه الصدام المجاني كالاتهامات التي كانت توجه دائماً للسعداوي، ولكن كمواجهة لا بد منها لأن مجتمعاتنا ما زالت تعتبر النصوص الدينية بمثابة العقد الاجتماعي ومصدر التأصيل الفكري، لأن كل فعل فردي صغير قد يتخذ معنى مقدساً أو سياسياً يحرم المرأة أدنى حق لها في نفسها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا