احتضن «مركز جورج بومبيدو» في باريس منذ فترة معرضاً استعاديّاً لأعمال «فنانَي الأرض» كريستو (1935 ـــ 2020) وزوجته جان كلود (1935 ــ 2009). أعمال غطت السنوات التي قضاها الفنانان في باريس على مرحلتَين زمنيّتَين: الجزء الأوّل من المعرض تناول أعمالاً نُفّذت بين الأعوام 1958 و1964 قبل انتقال الفنان نهائيّاً إلى نيويورك للعيش فيها. أمّا الجزء الثاني من المعرض، فيُمثّل كلّ المراحل لمشروع «الجسر الجديد» مُغلّفاً (باريس 1975- 1985). منذ عام 1975، طوّر الفنانان فكرة تغليف ما يُسمّى «الجسر الجديد» Le pont neuf في باريس (أصبح اليوم الجسر الأكثر قدماً في باريس) من خلال قماش، مصنوع من مادة البولياميد بلون حجر رمليّ مُذهّب، يُغطّي جوانب وقمم عقود الجسر الاثني عشر والحواجز والحواف والأرصفة وكل ما يوجد على الجسر من أشياء وتجهيزات (يستطيع المشاة السير على القماش).
هذا المعرض الضخم المكرّس لكريستو وزوجته يُسجّل تاريخ هذا المشروع (الجسر الجديد ـــ 1975- 1985) ويعود إلى مرحلتهما الباريسيّة بين الأعوام 1958 و1964، قبل حزم أو تغليف قوس النصر المتوقّع عام 2021. ينتمي هذان الفنانان إلى «فنّ الأرض» الذي بدأ في أميركا قبل أن تشمل تركيبته مجموعة كبيرة من الفنانين في جميع أنحاء العالم، علماً أنّه فنّ مفهوميّ ارتبط بالحداثة الفنّيّة في القرن العشرين. كل عمل يحويه هذا الفن عبارة عن مفهوم ورمز حيث الغاية من ورائه لفت الأنظار إلى الطبيعة وما تحويه من مناظر ومؤثرات، وأيضاً التنديد بمشكلة بيئية تهدّد حياتنا. هي أعمال نحتيّة، تختلف بمفهومها عن النحت العادي الذي نعرفه، تُظهر الأبعاد الثلاثة للعمل الفنّي.
بالنسبة إلى فناني الأرض Land Artists، فإنّ العالم والكون بأسره هو المحترف؛ الصحارى، الوديان، الجبال، الغابات، الصخور، الثلوج، الحقول وكلّ ما تقدّمه لنا الطبيعة من أشياء يستعملها الفنان في أعماله.
يحتوي فن الأرض على مجموعة كبيرة ومنوّعة من الأشكال والتوجّهات الفنيّة المنوّعة. هو فنّ تجهيزيّ وأدائيّ يقوم به الفنان في الطبيعة، من دون أن ننسى أنّ فنان الأرض يُقلّد ويُحاكي أعمالاً عرفتها الحضارات الإنسانيّة الغابرة مع الاختلاف في المفهوم بين الاثنين: الأوّل يصنع أعمالاً فنّيّة بحتة. أمّا الثاني فقد شكّلت الأعمال جزءاً من عقيدته الفكريّة والوجوديّة.
ولد كريستو جافاشيف في 13 حزيران (يونيو) عام 1935 من عائلة بلغارية. وفي اليوم نفسه وُلدت زوجته جان كلود في كازابلانكا (في المغرب) من عائلة فرنسية مالكة. والدته كانت سكرتيرة في كليّة الفنون التي درس فيها، ووالده عالماً كيماوياً. توفي والده وهو يبلغ عشر سنوات.
درس الرسم والنحت والعمارة والتصميم (دراسة كلاسيكيّة) في أكاديمية «صوفيا للفنون». هرب من بلغاريا شيوعيّاً، ليصل إلى باريس عام 1958، التي طالما حلم بها. هناك تعرّف إلى جان كلود وتزوّجها وُرزقا بطفل. يعتبر كريستو أنّ أيّ شيء يمكن أن يكون قيّماً بالنسبة للفن.
بالرغم من دراسته الكلاسيكيّة، عمد كريستو إلى تجاوزها وتجاوز عمليّة التصوير La peinture على الحامل. سنواته الباريسيّة ستكون المدماك للسانه اللغويّ الفنّي: العمل على النتوءات على المسطّح الحامل، التكديس، التخزيم، بداية الواجهات المخفيّة، وبالتعاون مع جان كلود، طوّر مشاريع المباني في الخارج.
عند وصوله إلى باريس، رسم كريستو بورتريهات بتقنيّة الزيت على القماش لعائلات من المجتمع المخمليّ بهدف كسب المال ليعتاش منه. في هذا الوقت، كان يُغلّف علباً صغيرة اسطوانيّة الشكل من المعدن، وقناني بواسطة قماش مُحاط بخيوط مثبّتة بصمغ صينيّ (أحمر اللون) لإعطائها صلابة. انتقلت هذه الأبحاث في ما بعد إلى أثاثات المنازل كعناصر للعمل، ثمّ براميل حملت عنوان «مخزونه» Son inventaire، واستعمل أيضاً تقنيات أخرى كأوراق على قماش مُحزّزة لتُعطي طابع الصدفة من خلال تجميدها عبر طيّات يلعب الصمغ فيها دوراً هامّاً، مع إضافة الألوان. وقد يُضيف الرّمل والغبار عليها لإعطائها طابعاً «مأساويّاً».
إذاً، أوّل ما بدأه كريستو في باريس هو تغليف الأشياء الصغيرة والبسيطة وكل ما يراه أمامه من دون غاية أو هدف. واستمرّ في التغليف إلى أن أصبح يغلّف المعالم الحضارية من أبنية وجسور وطرقات، معتبراً إياها عورة بيئية يريد إخفاءها لفترة من الزمن. بالنسبة إليه، الغاية من هذا العمل الفني لا يكمن في الغليف بقدر ما هو إعادة تركيب وخلق أشياء وصور جديدة مستخدماً في ذلك البيئة وتأثير الضوء وحركة الرياح على القماش.
يصنّف كريستو أعماله كأنها أشياء ثمينة وقيّمة وقابلة للزوال في أي لحظة. ولهذا وجب عليه، وعلى كل من يشاهدها، التمتع والنظر إليها بتمعّن قبل انتهائها وزوالها.
كان كريستو يتعلق كثيراً بالعمل وبالمكان الذي كان يتمّ فيه العمل، لكنه لم يقلق يوماً من فكرة زواله. هو يثق بأنّ هذا العمل سيبقى في ذاكرة كل من يراه، إن كان شخصياً أو عبر التلفزيون أو الصحف أو الصور الفوتوغرافية.
مثله مثل الفنان التشكيليّ الذي يلجأ إلى رسم المخطط الأوليّ أو التخطيط السريع لأي عمل فني يريد تنفيذه، كان كريستو يلجأ إلى تنفيذ دراسات أوّليّة مسبقة للعمل الفنيّ. وهذه الدراسات قد تكون منفذة على ورق (كولاج، فحم، رصاص، حبر) أو قد تكون مجسماً ثلاثي الأبعاد. قبل تنفيذ العمل وعرضه، كان كريستو يلجأ إلى إقامة معرض بهذه الدراسات، التي تتعدّى أحياناً السبعين دراسة، ويتمّ بيعها بأسعار باهظة، فقيمتها ترتفع بمجرّد أن ينتهي عرض العمل ويصبح مجرد ذكرى في الصور والصحف ووسائل الإعلام.
قضى كريستو حوالى إحدى وعشرين سنة من عمره وهو ينفّذ ويخطّط للمشروع نفسه من دون ملل أو ضجر. أما الغاية فلم تكن سوى تقديم شيء جديد ومميز. وهذا، بالفعل، ما يميّز أعماله وزوجته جان كلود.
من السهل جداً أن نرى مغلفات كريستو من شواطئ وأبنية وجسور، ولكن من الصعب تصديق المبلغ الهائل الذي يدفعه مقابل إنجازها التي قد تصل إلى عشرات ملايين الدولارات.
تغليف أشياء بقصد إخفائها كنوع من الاحتجاج على تدخل الإنسان في الطبيعة


نذكر من هذه المشاريع: «السياج الهاربة» Running Fence California الذي كلف 2,5 مليون دولار، ومشروع «المظلات» في اليابان وكاليفورنيا الذي كلّف 26 مليون دولار!
عندما أشرقت الشمس في 9 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1991 على تلال شديدة الانحدار في «تيجان باس» على بعد 69 كلم شمالي لوس أنجلس، بدأت 1760 مظلة ضخمة، بارتفاع ستة أمتار وقطر طوله 8,66 أمتار، بالانفتاح كأزهار سريعة التكاثر، تغطي أرضاً بطول 29 كلم. قبل ساعات من الحدث، نرى الظاهرة نفسها تتكرّر مع 1340 مظلة زرقاء اللون على بعد 120 كلم شمالي طوكيو في اليابان بالقرب من نهر «ساتو» بامتداد 19 كلم. أما كيف استطاع كريستو المشاركة في الحدثين، فذلك يعود إلى استعمال الطائرة للتنقل بين المكانين.
اللون الأزرق للمظلات يتطابق جيداً مع الطقس الماطر في المنطقة الموجودة فيها، وحقول الرز وخضرة الحقول، في حين أنّ اللون الأصفر الحي للمظلات الكاليفورنيّة تزرع الأرض المجدبة القاحلة ومزارع تربية المواشي بنقاط مضيئة. يقول كريستو بأنّه يريد الدمج بين الثقافات المختلفة وأسلوب الحياة بين هذين البلدين. كان كريستو يقول بأنه يدفع حياته لأعماله، فأغلى الأشياء عنده لا تضاهي وقفة عز وإجلال يقفها أمام مشروع من مشاريعه وفق ما صرّح مرةً.
لقد كان للبيئة والأرض في القرن العشرين حصتها من توجّهات الفنون عبر أعمال مدهشة مبتكرة كالتي جاءت بها فنون الأرض. يأتي على رأس هؤلاء الفنان كريستو جافاشيف وزوجته جان كلود، صاحبا الموهبة الفنية الهائلة والبسيطة في آن. نظرا إلى الطبيعة كعورة بيئية ضحية الإنسان، فقاما بتغليف أشياء بقصد إخفائها كنوع من الاحتجاج على تدخل الإنسان في الطبيعة وتشويهها كما رأينا في الأعمال التي ذكرناها. لقد ترك كريستو وأمثاله من فناني الأرض الغاليري والمتحف والمحترف باتجاه الصحارى والحقول، حيث يحوّل الفنان العالم. يختلق أو يبتكر مناظر جديدة. يكون العمل مؤقتاً وزائلاً كما فعل كريستو وزوجته وآخرون. اعتبر كريستو أنّ أيّ شيء يمكن أن يكون قيّماً بالنسبة للفن. غلف الأشياء مقلداً بذلك فناني البوب آرت حتى وصل به الأمر إلى تغليف كل ما يراه ويلتقيه لاعتباره إياه عورة بيئية يجب حجبها أو إخفاؤها، ولو لفترة من الزمن.
إنّ أعمال كريستو تحيّر وتثير الدهشة والتساؤلات. هي مغامرة كبرى على غرار مغامرات الإنسان الباحث دوماً عن الجديد والمستحيل، ولو كلف الأمر الأموال الطائلة والجهد الهائل. أليس هنا تكمن عظمة الفنّ وأهمّيّته؟

* فنان تشكيليّ وباحث

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا