يتناول كتاب «المتفائل: سيرة اجتماعية لتوفيق زياد» (منشورات جامعة ستانفورد ــــ 2020) للباحث تامر سوريك، السيرة الاجتماعية لشخصية فلسطينية من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 هو القائد الوطني/ الشيوعي ورئيس بلدية الناصرة المنتخب توفيق زَيَّاد (1929 ــــ 1994) الذي قضى في حادث سيارة يوم الخامس من تموز (يوليو) عام 1994 في الغور. لكن تاريخ العمل الوطني الفلسطيني، من منظور قيادة ميليشيا رام الله، يبدأ بها، لذلك ليس ثمة مكان للمناضلين الفلسطينيين في تواريخ قيادات الهزائم والاستسلام. فالتاريخ يبدأ بمحمود عباس، وبعرفات من قبله، وهكذا. لذا، نرى أن قادة ميليشيا رام الله تتجاهله ودوره الطليعي في العمل الوطني الفلسطيني.من المعروف أن جيل توفيق زَيَّاد من ناشطين سياسيين وشعراء، شارك في تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية. فالشعر أضحى للفلسطينيين وسيلة رئيسة للتعبير السياسي والتعبئة في كيان العدو. لكن الشعر والعمل البرلماني ظلّا منقسمَين في الظروف الخاصة إلى حدّ ما للسياسة الفلسطينية في «إسرائيل». فقد عمل السياسيون على محاولة تحقيق المساواة في الحقوق للمواطنين الفلسطينيين ودمجهم في جهاز الدولة، وفق رأي الكاتب، وعملوا بالتالي ضمن حدود التبعية «الإسرائيلية»، بينما دعا الشعراء إلى مزيد من التحرر الوطني الراديكالي ورأوا (عن حق) أن الكيان الصهيوني استعمار استيطانيّ قمعي.

جيل توفيق زَيَّاد من ناشطين سياسيين وشعراء، شارك في تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية

ضمن هذا السياق، يعتبر توفيق زَيَّاد شخصية مثيرة للاهتمام على نحو خاص، إذ لم ينخرط أيّ شاعر آخر من جيله في السياسة أو طور مسيرة سياسية طويلة وناجحة كما فعل. إضافة إلى ذلك، أخذت السياسة الأولوية على تفانيه في الشعر بسبب نموّ التزاماته السياسية. خلال الأعوام الثمانية عشر التي شغل فيها منصب عضو الكنيست، لم يكتب أيّ شعر، وبرّر ذلك بأنه كان يفتقر إلى الوقت للكتابة. لكن الكاتب تامر سوريك أستاذ الفنون الليبرالية في تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ولاية بنسلفانيا، يرجّح أن كونه عضواً في الكنيست يتطلّب حالة ذهنية لا تتوافق مع صياغة الشعر الثوري.
يتتبع هذا المؤلف رحلة توفيق زَيَّاد منذ نشأته الاجتماعية الماركسية المناهضة للاستعمار في ظل الحكم البريطاني إلى نضاله لقيادة المقاومة بعد عام 1948، وصعوده إلى الشهرة كشاعر ثوري في الستينيات، ومسيرته السياسية كأول رئيس بلدية شيوعي في الشرق، ومأزقه في أعقاب هزيمة الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وصراعه مع الحركة الإسلامية، واندفاعه المتفائل وسط «عملية أوسلو» في أوائل التسعينيات، مع أنه لم يعِش ليشهد انهياره.
لم يعرف الكاتب القائد الفلسطيني الراحل/المغدور، بل اعتمد على مصادر ثانوية تضمّ لقاءات مع أفراد من أسرته ومعارفه ووثائق ذات صلة. لذلك نراه يقول: «عندما دخلت مجال الدراسة هذا، شعرت كأنني مستكشِف في أرض أجنبية أو حتى متسلل. أنا عالم يهودي إسرائيلي أدرس زعيماً فلسطينياً، وهي حقيقة تثير سلسلة من المعضلات المتعلّقة بموقفي من علاقة القوة/ المعرفة وتسلسل السلطة بين المجموعات ذات الصلة. منذ أكثر من عقدين من دراستي لقضايا مختلفة تتعلّق بالفلسطينيين في «إسرائيل»، أدرك مدى الحساسية المحيطة بعلاقي بالميدان. تاريخياً، مع استثناءات ملحوظة، تبنّى معظم الباحثين اليهود الإسرائيليين الذين درسوا الفلسطينيين وجهة نظر استشراقية عالمية للمؤسسة الإسرائيلية، تم تحديدها مع أهدافها السياسية. وفي كثير من الحالات كانت لديهم علاقات رسمية أو غير رسمية قوية مع الوكالات الحكومية أو أجهزة المخابرات حيث تم توجيه مجموعة المعرفة التي أنشأوها لخدمة هدف تحسين تقنيات القهر، بوعي أو بغير وعي».
لذلك، فإن هذا الكتاب «ليس سوى عرض متعاطف لشخصية سياسية وثقافية فلسطينية من قبل عالم يهودي إسرائيلي. إنه نتاج جهد الكاتب للانخراط بجدية مع الثقافة والسياسة الفلسطينية من خلال البحث في حياة توفيق زَيَّاد وشرح سياق عمله السياسي والخوض في معاني السيرة الذاتية والسياسية لعمله الشعري»، دوماً بكلماته. قال الكاتب إن الجانب الثاني من التعدّي على حقول غير معرفية أنه عالم اجتماع بالتدريب. لذلك من الضروري الإشارة إلى تأكيده على أن الشعر ليس المحور الرئيس لهذا المؤلف، مع أن شهرة توفيق زَيَّاد الإقليمية والدولية مرتبطة أساساً بشعره، إلّا أنه يعتبره زعيماً سياسياً. في الوقت نفسه، تعتبر هويته شاعراً، وبالتالي محتوى شعره، مركزيين لفهم وضعه الاجتماعي والسياسي، فضلاً عن مسار حياته.
يبدأ المؤلف ببداية نشاط زياد في الخمسينيات من القرن الماضي عندما تحدى الاحتلال الإسرائيلي والحكم العسكري العدائي الذي عاشه الفلسطينيون في «إسرائيل». إيمانه الراسخ بما يؤمن به سيصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصيته ونشاطه السياسي.
خصص الكاتب جزءاً كبيراً من عمله لشعر توفيق زَيَّاد، لكنه يتحدث باستفاضة عن إنجازاته السياسية التي كان أهمها قيادة الإضراب الذي شهدته البلاد في 30 آذار (مارس) 1976 بنجاح احتجاجاً على مصادرة «إسرائيل» للأراضي الفلسطينية، وهو يوم يُحتفل به الآن سنوياً بـ «يوم الأرض». لكن «جوهرة تاج التعبئة العامة»، وفق الكاتب، كان «مخيمات العمل السنوية» التي نظمها في الناصرة، وتجاوزت نقص تمويل الحكومة «الإسرائيلية» للبلدية، وبنت أحياء كاملة في الناصرة حيث جذبت المخيمات عشرات الآلاف من المتطوعين من جميع أنحاء «إسرائيل» و«الضفة الغربية» وحتى دول الكتلة الشرقية.
يلحظ الكاتب أن المعلّقين «الإسرائيليين» يخطئون في كثير من الأحيان عند قراءة كفاح توفيق زَيَّاد من أجل تحقيق العدالة للفلسطينيين باعتباره قومية متعصبة، إلّا أن استعداده ليكون جزءاً من النظام «الإسرائيلي» أحبط بعض المراقبين الفلسطينيين. لم يشارك زَيَّاد نزعة كبار القادة في حزبه مثل مئير فيلنر وتوفيق توبي لرعاية فخر «إسرائيلي» غير صهيوني. على عكس كوزموبوليتانيته، كانت «إسرائيليته» نفعية وفاترة إلى حدّ كبير. لم يكن العنصر «الإسرائيلي» في هويته أبداً جزءاً من تعريفه الذاتي أو تقديمه لذاته. كان عليه أن يتحدث في الكنيست بالعبرية، وهي لغة يستخدمها على نحو أساس فعال لكن من دون طموحات إبداعية.
خصص الكاتب جزءاً كبيراً من العمل لشعر توفيق زَيَّاد، لكنه يتحدث باستفاضة عن إنجازاته السياسية


كان الكنيست أيصاً منطقة تسوية دائمة حيث تنكر رموزها الرسمية وجود هوية فلسطينية، لكنه كان في الوقت نفسه ساحة ضرورية للدفاع عن المصالح الفلسطينية. كانت خطاباته في الكنيست مليئة بالحقائق والإحصائيات الجافة، وكثيراً ما اعتُبرت حواراته الشفوية غير المخطط لها على المنصة «غير برلمانية». لم يكن دعم توفيق زَيَّاد المستمر للتعاون العربي اليهودي محاولة لتطوير هوية قومية مشتركة مع اليهود «الإسرائيليين»، بل سعى إلى إقامة جسور مع اليهود الإسرائيليين بسبب إيمانه بإنسانية مشتركة، وانتماء طبقي مشترك، وفي حالة اليهود الشرقيين، مشارك في تجربة التمييز العرقي. لكن الشاعر كان مناضلاً بلا هوادة في سعيه لتحقيق حقوق الفلسطينيين. مواجهاته مع أعضاء الكنيست كانت متكررة ومكثفة، لكنه لم يتراجع أبداً ولم يتردّد في الصراخ على أعضاء الكنيست العنصريين. «ففي واحدة من أكثر اللحظات التي لا تُنسى في تاريخ الكنيست، صرخ توفيق زَيَّاد بصوت خانق لمجموعة من أعضاء الكنيست اليمينيين: «أنتم اليمين المعتوه»، ثم أشار إلى عضو الكنيست زئيفي (جنرال سابق دعا صراحة إلى طرد الفلسطينيين من وطنهم)، قائلاً: «وهذا خصيتيكم... لقد أمسكت بكم من خصيتيكم».
كلمة أخيرة، القائد الفلسطيني قضى في حادث سيارة لم يناقش الكاتب خفاياه، لكن من غير المعروف ما إذا كان العدو الصهيوني كان وراء الحادث. هذا الاحتمال وارد إذا ما أخذنا في الاعتبار حقيقة أن ساحة العمل الوطني الفلسطيني في مرحلة التحضير لأوسلو وبدء التنفيذ، ما كانت تحتمل وجود أكثر من قائد فلسطيني واحد في مناطق السلطة الحالية. وكانت هناك أربع شخصيات هي ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وتوفيق زَيَاد. هذه مسألة مهمة للغاية وعلى البحاثة متابعتها عند الإفراج عن الوثائق الرسمية ذات الصلة.

* The Optimist: A Social Biography of Tawfiq Zayyad

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا