سأبدأ بتسجيل تحفّظ صغير على مفردة «تسامح» السائدة في النثر السياسي المعاصر كترجمة لكلمة tolerance الإنكليزية والفرنسية (Tolérance). ومبعث تحفّظي يتعلق بالمضمون والجوهر أكثر منه تحفظاً لغوياً، وهو أن «التسامح» لا يصحّ مضموناً أن يكون قاعدة أو أسلوباً في التعامل مع أبناء الوطن الواحد لأنهم من طائفة أو دين آخر غير دين أو طائفة الغالبية، لأن هؤلاء المطلوب «التسامح» معهم لم يرتكبوا جرماً أو تجاوزاً بكونهم من تلك الطائفة أو الدين المختلف ليتم التسامح معهم! والأفضل والأدق في اعتقادي، أن تستعمل كلمات من قبيل «التعايش» و«المساواة» و«المواطنة». ولكن كلمة «السماحة»، كما أعتقد، تبقى أليق وأخف وطأة من التسامح لأنها تعني الجود المعنوي والمادي ولا تعني العفو كالأخرى.إنه دريد بن الصمة، شاعر وفارس وحكيم عربي معروف من عصر ما قبل الإسلام. أدرك الإسلام ولم يسلم، بل قاتل المسلمين وهو شيخ طاعن في السن حتى قُتل في معركة ضدهم هي غزوة حنين، ولكنّ المسلمين ـــ مؤرخين ورجال دين وأدباء وجمهوراً ـــ لم يلعنوه ويحرموا ذكره وذكر شعره الفروسي والحكموي، بل حولوا شخصه إلى أسطورة بطولية يكاد يمتزج فيها الواقعي بالفانتازي!

مُنمنمة لِجيش المغول بِقيادة هولاكو خان وقد ضرب الحصار على بغداد سنة 1258م

اللافت في حالة ابن الصمة وغيره، هو مقدار السماحة التي أبداها مسلمو صدر الإسلام وصولاً إلى سقوط بغداد سنة 1258م، وما أعقبها من عصور الظلام والفُرقة والفِرَق والطوائف والمذاهب المختلفة والمتخالفة أحياناً إلى درجة التكفير المتبادل. هذا لا يعني عدم وجود أمثلة على الاضطهاد بسبب الفكر أو الدين أو الاعتقاد، فهم ــ في نهاية المطاف ـــ بشر لا ملائكة. ولكننا نتكلم على الخط العام والحالة الشاملة الحاوية للاستثناءات، بما يؤكد أنّ الأمم في عهود صعودها الحضاري تفكر وتنتج تفكيراً صاعداً وتمارس ممارسات صاعدة وتقدمية. أما في عهود انحدارها وهزيمتها، فهي تفكر وتنتج فكراً متراجعاً وهابطاً يهتمّ بالقشور لا بالجوهر، وهذه هي حالتنا كأمة وشعوب عربية وإسلامية اليوم!
تسامح الأجداد، حتى بمعنى العفو، لافتٌ حقاً، مع دريد بن الصمة الشاعر الفارس الوثني «المشرك» الذي قاتلهم بسيفه آخر عمره، ومات على وثنيته، ولكنهم استمروا يطرونه ويذكرون محاسنه وفروسيته وحكمته. حتى إنّ الإمام علي بن أبي طالب تمثل بشعره حين حاججه الخوارج بخطأ التفاوض مع معاوية بن سفيان بعد معركة «صفين»، فكرّر بيتاً شهيراً لابن الصمة يقول:
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى ***** فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ
وسنعود للقصيدة التي ورد فيها هذا البيت بعد قليل. أما مؤرخ الأدب العربي الأقدم، المسلم، محمد بن سلام الجمحي، في كتابه «طبقات فحول الشعراء»؛ فقد وضع ابن الصمة في أوائل طبقة الشعراء الفرسان. وقال فيه: «كان أطول الفرسان الشعراء غزواً، وأبعدهم أثراً، وأكثرهم ظفراً، وأيمنهم نقيبةً عند العرب». وقال فيه آخر: «كان دريد بن الصمة سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم، وكان مظفراً ميمون النقيبة، وغزا نحو مائة غزوة ما أخفق في واحدة منها، وأدرك الإسلام فلم يسلم، وخرج مع قومه في يوم حنينٍ مظاهراً للمشركين، ولا فضل فيه ــ لا قوة فيه بسبب الشيخوخة ــ للحرب، وإنما أخرجوه تيمناً به وليقتبسوا من حكمته فقتل».
فحين قاتلت قبيلته «غزية الجشعمية» ضد المسلمين في غزوة حنين، قاتل معها، وهو في ثمانينات، وقال آخرون إنّه تجاوز القرن عمراً وقتل. أي أنه مات «مشركاً كافراً» بعبارة المسلمين، فلماذا ظل المؤرخون والأدباء العرب المسلمون القدماء يحترمونه ويجلّونه؟ هناك طبعاً أمثلة أخرى من شعراء وغير شعراء تماثل حالة دريد بن الصمة، لكننا سنتوقف عنده كمثال أبرز في هذا الاستذكار:
ربما لم يظلم بيت من الشعر وقائله كما ظُلم هذا البيت الذي قاله ابن الصمة:
فهل أنا إلا من غَزِيَّةَ إن غَوَتْ *****غَوَيتُ، وإن ترشُد غزيّةُ أرشدِ
فهو يُضربُ في عصرنا لهجاء ما يسمونه عقلية القطيع والنزعة العشائرية والانقياد غير العقلاني للقبلية والعشائرية... ولكننا لو قرأنا البيت في سياقه، لاختلف الأمر تماماً وأصبح يدل على غاية الرفعة والسمو والتسامح، وبما نصفه في عصرنا بالسلوك الديموقراطي واتباع رأي الأغلبية حتى إذا كان رأي الشخص مخالفاً لرأيها.. قال الشاعر:
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى ***** فَلَم يَستَبينوا النُصحَ إِلّا ضُحى الغَدِ
فَلَمّا عَسوني كُنتُ مِنهُم وَقَد أَرى***** غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَدي
وَهَل أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت****** غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ
وقصة هذه الأبيات تقول إن الشاعر كان مع بني قومه في غزو لمضارب قبيلة عَبْس وعادوا منه منتصرين بالغنائم، فأرادوا المبيت في مكان ما، فنهاهم دريد وأشار عليهم برأيه وحذرهم من هجوم مفاجئ لعبس. ولكن عبد الله أخا دريد رفض رأيه وقال: «بل نبيت هنا ونأكل ونشرب». ففعلوا، وحين استيقظوا صباحاً، وجدوا مقاتلي عَبْس يحيطون بهم ويقتلونهم ويستعيدون الغنائم منهم. وقد قتل عبد الله أخو دريد في تلك المعركة. وهذه الأبيات من قصيدة جميلة يرثي فيها أخاه ويقول فيها:
صَبا ما صَبا حَتّى عَلا الشَيبُ رَأسَهُ
فَلَمّا عَلاهُ قالَ لِلباطِلِ اِبعَدِ
تَراهُ خَميصَ البَطنِ وَالزادُ حاضِرٌ
عَتيدٌ وَيَغدو في القَميصِ المُقَدَّدِ
وَإِن مَسَّهُ الإِقواءُ وَالجَهدُ زادَهُ
سَماحاً وَإِتلافاً لِما كانَ في اليَدِ
إِذا هَبَطَ الأَرضَ الفَضاءَ تَزَيَّنَت
لِرُؤيَتِهِ كَالمَأتَمِ المُتَبَدِّدِ
في هذه الأبيات، قبسات واضحة من الحياة المشاعية على طريقة الصعاليك التي كان يحياها الفارس العربي القديم، والذي ألقت به ظروف الحياة القاسية في الصحراء إلى نمط حياة الغزو والكر والفر. ومع ذلك، فهو يعيش جائعاً «خميص البطن»، تاركاً الزاد لجياع آخرين، وهو رغم كبرياء الفارس العتيد متواضعٌ وبسيطُ الملبس ولا يخجل من رثاثة «قميصه المقدد».
ودريد من أسرة شاعرة، فأبوه شاعر، وأخوه مالك شاعر أيضاً، وخاله شاعر، وإخوته الآخرون شعراء، وابنه سلمة شاعر وفارس وابنته عمرة شاعرة أيضاً. وهو أيضاً من أسرة فرسان قاتلوا وقتلوا: فأخوه عبد الله فارس قتل في معركة مع قبيلة غطفان ورثاه بقصيدته الجميلة سالفة الذكر، وأخوه عبد يغوث فارس قتل في معركة مع قبيلة بني مرة، وأخوه قيس فارس قتله بنو أبي بكر بن كلاب، أخوه خالد فارس قتله بنو الحارث بن كعب. وهذه قصة مصرع دريد كما ترويها مصادر ومراجع التراث العربي الإسلامي:
قال ابن إسحاق «مؤلف السيرة النبوية الأولى والأقدم التي فُقدت ووصلتنا أجزاء مهمة منها عبر السيرة التي كتبها ابن هشام»: ولما انهزم المشركون أتوا الطائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نخلة، ولم يكن فيمن توجه نحو نخلة إلا بنو غيرة من ثقيف. فأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ربيعة فأخذ بخطام جمله، وهو يظن أنه امرأة وذلك أنه في شجار له، فإذا برجل فأناخ به فإذا شيخ كبير وإذا هو دريد بن الصمة ولا يعرفه الغلام. فقال له دريد ماذا تريد بي؟ قال أقتلك. قال، ومن أنت قال أنا ربيعة بن رفيع السلمي ثم ضربه بسيفه فلم يغن شيئاً (لم يصبه). فقال له دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل، ثم اضرب به وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كنت كذلك أضرب الرجال، ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة، فرب والله يوم قد منعت (حميت) فيه نساءك. فضربه ربيعة وقتله، فلما رجع إلى أمه أخبرها بقتله إياه فقالت له أمه: أما والله لقد أعتق أمهات لك ثلاثاً!».
أدرك الإسلام ولم يسلم، بل قاتل المسلمين وهو شيخ طاعن في السنّ حتى قُتل في غزوة حنين أدرك الإسلام ولم يسلم، بل قاتل المسلمين وهو شيخ طاعن في السنّ حتى قُتل في غزوة حنين


تكررت هذه الرواية لمقتل ابن الصمة في جميع أمهات المصادر التراثية العربية الإسلامية المهمة تقريباً، بصياغات متقاربة كثيراً، وهي بصيغتها هذه أقرب إلى الأسطورة أو الحكاية المبالغ بها في قصص مصارع الرجال في تراثنا، بل هي أقرب إلى الانتحار وتثير أسئلة وإشكالات كثيرة. ويمكن لنا أن نتفهمها حدثياً انطلاقاً من شيخوخة ابن الصمة وضعفه وعدم قدرته على الحركة مقابل حماس الشاب المسلم ربيعة. والعبرة ليست هنا، بل في الاحترام والتوقير الذي استمر العرب المسلمون يولونه لشخص واسم وسيرة وشعر ابن الصمة مع علمهم بدينه وموقفه من دينهم ودولتهم! ولك أن تتخيل، من باب المقارنة وإنصاف الأجداد، ماذا ستفعل دول الأحفاد التي تسمّي أو تصف نفسها بأنها إسلامية بشاعر أو غير شاعر يتصدى لقواتها الحكومية بالسلاح في عصرنا، وكيف ستتعامل معه ومع تراثه الشعري أو العلمي حتى بعد مقتله!
أختم بهذا الخبر الطريف والمؤسف في آن واحد، ففيه قد نجد ما يضيء ويؤكد ما تقدّم من استنتاجات: أقدمت بلدية الطائف، حي شهار في المملكة السعودية سنة 2015، على إطلاق اسم الشاعر الفارس دريد بن الصمة على أحد شوارع المدينة. ولا يعرف إن كان ذلك حدث بنية حسنة لتكريم هذا الشاعر الفارس الحكيم الذي احترمه المسلمون الأوائل، أم بسبب جهل من اقترح الاسم بالمسمى. وقد بادر بعض الأشخاص إلى التذمر والاحتجاج والمطالبة بتغيير اسم الشارع بسبب إطلاق اسم هذا «الشاعر المشرك» على أحد شوارع مدينتهم وطالبوا بتغييره. ولا أعرف إن كان الاسم قد تم استبداله فعلاً في السنوات اللاحقة أم أنه ما زال كما هو!
إن قيمة هذه الحادثة في الطائف ليست في تفاصيلها فحسب، بل في دلالاتها ومغزاها فهي تعطينا مثالاً عملياً على ما عنيناه بقسوة الأحفاد، وقطعاً ليس كلهم، كما كان الأجداد ليسوا كلهم ذوي سماحة وعفو وحلم، فلكل قاعدة استثناءات تكون بمثابة التأكيد لها أو ما هو قريب منه.

* كاتب عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا