مرّت عشرون يوماً على انفجار مرفأ بيروت. مثلما أضيف صوت الزجاج المتكسّر إلى ذاكرة المدينة السمعية، هناك فعل أضيف إليها أيضاً، وهو إحصاء الخسائر المادية والبشرية والمعنوية، في وقت لا يزال فيه 52 شخصاً مفقوداً حتى كتابة هذه السطور. أما السؤال الذي يرتسم على وجوه الماشين في الأحياء المنكوبة، قبل أن تنطق به ألسنتهم فهو «من سيرفع هذا الركام؟». هذا المشهد يتكرّر يومياً، بينما تعمل عشرات الفرق واللجان والجمعيات منذ اليوم الثاني للانفجار على مسح أضرار الأبنية السكنيّة والتجارية، منها نقابة المهندسين و«النقابة تنتفض» اللتان ضمّتا مهندسين متطوّعين للعمل على مسح المباني والبيوت السكنية، إضافة إلى لجان أخرى والجامعة اللبنانية والجامعات الخاصّة. الدمار هائل في بيروت، خصوصاً في المنطقة المحيطة بالمرفأ وصولاً إلى الأحياء والمناطق الأخرى في كلّ الاتجاهات: الكرنتينا ومار مخايل والرميل والجميّزة وأحياء الأشرفية وبعدها زقاق البلاط والخندق الغميق... وحين يأتي الحديث عن الإعمار، لا أحد ينكر أن المهمّة شاقّة وطويلة، خصوصاً بالنسبة إلى الأبنية التراثية التي تتطلّب مواد محدّدة وعملاً دقيقاً في الترميم.
(مروان طحطح)

إنها رحلة طويلة من أجل إرجاع ما تبقى من التراث العمراني والنسيج الاجتماعي إلى الأحياء مجدّداً. الكلّ يقرّ بضرورة عودة الناس إلى هذه البيوت المتضرّرة التي لا قيمة لهيكلها العمراني وحده ما لم يعد إليه السكان. وقع الكارثة لا يزال ثقيلاً، غير أن عدداً من المهندسين يرون أنها قد تكون فرصة لإعادة النظر في آليات الحفاظ على التراث، في ظلّ غياب قانون حديث يحمي هذه الأبنية التي يتوزّع جزء كبير منها في المناطق المتضرّرة بشكل مباشر. بعد الانتهاء من معالجة أضرار المتحف الوطني من جرّاء الانفجار، تولّت «المديرية العامّة للآثار»، بتوصية من وزارة الثقافة، مهمّة المسح للأبنية التراثية، مع مركز الترميم والمحافظة في الجامعة اللبنانية الذي يضمّ 39 مهندساً متطوّعاً من خبراء الترميم، إضافة إلى «المركز العربي للعمارة» الذي يتولّى مهمّة المسح للأبنية الحديثة (راجع الكادر)، فضلاً عن «اليونيسكو»، و«إيكوموس»، و«إيكروم»، و«آبساد» وجمعيات أخرى، وحوالى 200 طالب هندسة متطوّع. لم يكن قد مرّ يومان على الانفجار، حتى تشكّلت خليّة أزمة لإنقاذ التراث العمراني في السادس من آب (أغسطس). البداية كانت بمسح أوّلي أنجز خلال أربعة أيام لثلاث مناطق مقسّمة (الأكثر قرباً من المرفأ، ومنطقتان خلفية أولى وخلفية ثانية)، وخلص إلى تضرّر أكثر من 600 بيت تراثي، تقدّر كلفة إصلاحها وترميمها بحوالى 300 مليون دولار. يبقى هذا الرقم تقديريّاً، كما يخبرنا مدير المديرية العامّة للآثار سركيس خوري، أي إنها مجرّد أرقام يمكن أن تتضاعف أو تنقص مع الوقت. وفيما تتفاوت الأضرار بين المباني وهياكلها، يجري التركيز الآن على حماية الأبنية المهدّدة بالسقوط، والتي بلغ عددها 81 بيتاً حتى الآن، من أصل 301 مبنى خضعت لمسح أكثر دقّة في الأيّام الأخيرة في مناطق المدوّر ومحيط الميناء والأشرفية والصيفي والرميل، كما أشار التقرير الأخير الصادر عن المبادرة. هكذا، بدأ الفريق بتدعيم هيكلي مؤقّت لعدد من هذه الأبنية كخطوة أولى، قبل البدء بالترميم وإحصاء المواد التي تحتاج إليها هذه العمليّة. ثمّة تحديّات كثيرة تواجهها رحلة الترميم وإعادة البناء، رغم أن المهندسين العاملين على الأرض يتمسّكون بأمل إعادة الأبنية والناس إلى ما كانت عليه في السابق. منذ إطلاق المبادرة، لا يكاد الفريق يتوقّف عن العمل، وفق خوري الذي يشير إلى أن التحديات الأخرى تتمثّل في الحصول على التمويل، وعلى الدعم في مواد البناء.

(مروان طحطح)

هناك بالطبع عامل الوقت، الذي يحتّم على الفرق العاملة إنهاء الخطوات الأساسية القادرة على حماية هذه الأبنية قبل فصل الشتاء. كلّ هذا يدفع المديرية والمهندسين إلى مواصلة العمل بالمقوّمات المتوافرة حالياً. وإن كان محافظ بيروت القاضي مروان عبود قد أصدر أخيراً بلاغاً يقرّ بعدم إعطاء أي رخصة لإقامة أبنية حديثة لأصحاب الأبنية المصنّفة تراثية، إلا أن القرار وحده لا يكفي لإبعاد شبح المستثمرين. هذا ما أكّده ويؤكّده يومياً أصحاب البيوت الذين يتلقون عروضاً مغرية جدّاً منذ الأيام الأولى للانفجار. الخوف من المستثمرين ومشاريعهم يبقى مبرّراً، خصوصاً لناحية القدرة على تنفيذ هذا القرار في المستقبل، والتمسّك به أمام كلّ الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها المواطنون ومؤسسات الدولة على السواء. كما أن للأبنية التراثيّة في المدينة ذاكرة لم تكن مثاليّة يوماً منذ أن أسقطت مئات الأبنية من لائحة الجرد العام نهاية التسعينيات. صحيح أن بيروت لا تحتاج اليوم إلى ما ينكأ ندوب الماضي، إلا أننا لا يمكن تجاهل عشرات المعارك الخاسرة في قضايا هدم الأبنية التراثية وتشويهها في حالات السلم والاستقرار، ما يضاعف القلق في حالة الكارثة التي تجذب المستثمرين والتجار. وبالعودة إلى مبادرة المديرية العامّة للآثار، فإن خوري يستخدم مصطلح التراث الحي للإشارة إلى أهميّة حماية النسيج العمراني وقاطنيه، والمهن والمحال التجارية المتنوعة في المناطق المنكوبة.
بلغ عدد الأبنية المهددّة بالسقوط 81 حتى الآن

وهذا ما تسعى المبادرة إلى تحقيقه منذ اليوم الأوّل، رغم أن عملها يندرج ضمن خطّة دفاعيّة في وجه الكارثة. لطالما كانت حماية التراث تعمل وفق خطّة دفاعية، يتمّ اللجوء إليها ما أن يعلن عن هدم أحد الأبنية. يخبرنا خوري أن المديرية توقّفت منذ سنة 2010 عن الاستعانة بلائحة الجرد التي أجرتها شركة «خطيب وعلمي» سنة 1997 للأبنية التراثية. ثمّة أسباب عديدة لذلك. فضلاً عن أنها أسقطت عدداً كبيراً من الأبنية التراثيّة تحت ضغوط سياسيّة، إلا أن التصنيف الذي اعتمدته الشركة كان يتم بحسب المبنى الفردي ويتجاهل النسيج العمراني والبشري للأحياء. وبسبب الميزانية الضئيلة، بحسب خوري، لم تتمكّن المديرية في السابق من القيام بجردة أو بإعداد لائحة للمباني التراثية. هكذا، يقوم الفريق الآن بوضع ما يشبه لائحة للأبنية التراثيّة المتضرّرة، بالتوثيق لهذه المباني بالصور والبيانات والمعلومات، عبر تقسيمها إلى قسمين: الأوّل يمتدّ من الفترة العثمانية إلى فترة الانتداب الفرنسي، والثاني يشمل الأبنية الحديثة منذ الأربعينيات إلى سنة 1971، ما يعدّ سابقة في التعامل مع الإرث الحديث في البلاد وتجاربه الكثيرة التي تتوزّع في كل أحياء بيروت، خصوصاً في تلك التي نالت القسط الأكبر من الدمار.



تصنيف الأبنية التراثية
ما هي المعايير التي تمنح مبنى ما قيمته العمرانية؟ بالطبع لا يقتصر الأمر على الهيكل والتصميم الخارجيين لكلّ مبنى بمفرده، رغم أن هذا أحد الشروط التي تتبعها المديرية العامة للآثار في تصنيف الأبنية. في حديث مع «الأخبار»، يعدّد المهندس المعماري عبد الحليم جبر مجموعة معايير تحدد القيمة العمرانيّة للمباني. هناك بالطبع جمالية المبنى ونمطه المعماري، وعمر البناء، إضافة إلى الأبنية ذات الأهمية التاريخية (الذاكرة) مثل بيت فيروز في زقاق البلاط، وقصر بشارة الخوري في البطركية. يشير جبر إلى أن بعض الأبنية تكتسب أهميتها من الموقع نفسه، لكونه يبقى شاهداً على فترة أو حقبة آفلة، مثل البيت الأحمر في منطقة الحمرا، الذي يعدّ شاهداً على فترة كانت فيها البساتين تنتشر في المنطقة بينما تبدّلت ملامحها الآن بشكل كليّ. ومن المعايير الأخرى، يذكر جبر النسيج العمراني المحيط، أي مجموعة الأبنية التي تشكّل طابعاً معيّناً وتتمثّل قيمتها العمرانية في كونها متجاورة، لا بقيمة مبنى بمفرده.


أخيراً ... إنصاف التراث الحديث
قبل أيام، قرر «المجلس الأعلى للتنظيم المدني» إحالة جميع طلبات الترخيص والتصاريح لترميم الأبنية المنجزة قبل عام 1971 إلى المديرية العامة للآثار، لاتخاذ التدابير المناسبة. قرار اعتبره المهندس عبد الحليم جبر سابقة تاريخية، خصوصاً أن فترة الحداثة التي تمثّل حقبة مضيئة من تطوّر العمارة في لبنان لم تنل في السابق الأهمية التي نالتها الأبنية الأكثر قِدَماً. بعد الاستعمار الفرنسي، تسابق معماريون محليون وعالميون أمثال خليل خوري، وتيو كنعان، وعاصم سلام، وجورج ريّس، وغريغوار سيروف وفريد طراد وآخرين على التفكير بعمارة حديثة تلبي المتطلبات المحلية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. يشير جبر إلى إحدى أهم المفارقات التي عرقلت في السابق حماية الإرث الحديث، وهي قانون الأبنية التراثيّة الذي يعود إلى سنة 1933، أي إلى عام لم يكن قد عمّر فيه معظم الأبنية الحديثة في بيروت. ويضيف أن قانون البناء تمّ تعديله سنة 1969، بما يسمح للأبنية بأن ترتفع أكثر وأن تتراجع عن حدود الشارع، أي إن الأبنية حتى صدور ذلك القرار كانت تلتزم بكل المعايير السابقة قبل أن يتغيّر المشهد المديني لاحقاً. في إطار مبادرة المديرية العامّة للآثار، يتولّى «المركز العربي للعمارة» مهمّة مسح الأبنية الحديثة، ضمن عمل المركز منذ سنوات على التوثيق للإرث المعماري الحديث. لا أرقام دقيقة لعدد الأبنية الحديثة المتضرّرة حتى الآن بحسب المهندسة المعمارية وعضو «المركز العربي للعمارة» جوي كنعان التي تشارك في المسح. في حديث مع «الأخبار»، تخبرنا كنعان «أننا بحاجة إلى مزيد من الوقت لتحديد الأضرار التي طالت هذه الأبنية والعمارات، خصوصاً أن الضرر لا يظهر دائماً على الهيكل الخارجي، إلا أنه قد يكون هناك خلل وإصابات في الأساسات مثلاً»، علماً بأن مسح هذه الأبنية لا يزال مستمرّاً في مناطق منها المدوّر والجميزة ومار مخايل، حيث يقع مبنى شركة كهرباء لبنان الذي يعدّ أبرز معالم تلك الفترة.


رهيف فيّاض: جرح جديد في جسد المدينة
فقدت المدينة روحها منذ زمن طويل. لا يمكن للمعمار اللبناني رهيف فيّاض أن يتجاهل هذه الحقيقة. حين جُرِفَت سينما الريفولي، ومن خلفها الأسواق الشعبيّة، صارت ساحة النجمة عبارة عن «فراغ رمادي». لم تعد النجمة ساحة تربط أحياء العاصمة. يستعيد فيّاض هذا التاريخ، بينما يحصي ما خسرته بيروت أيضاً في الأشهر الأخيرة: ساحة رياض الصلح، بعدما طوّقتها القوى الأمنية بالأسلاك الشائكة في انتفاضة 17 تشرين الأوّل وقطعت عنها السبل إلى الشوارع المحيطة بها. الآن لا يختلف الأمر كثيراً عمّا كانت عليه بيروت في السنوات الماضية بحسب فياض، سوى أن الركام طال أحياء جديدة. المحال في الوسط، كانت مقفلة في السابق، أما الآن فقد «لفظت أحشاءها إلى الخارج» وفق تعبيره. على ضوء الكارثة الحالية، يستذكر فياض تاريخ إعادة إعمار بيروت بعد الحرب، أي حين تمّ «فتح هذا الجرح العريض في جسد المدينة وتُرك فارغاً حتى اليوم». الجرح سابق وعتيق على هذا الانفجار الذي وصل إلى مناطق أخرى مثل الجميزة ومار مخايل والجعيتاوي وفسّوح. في استعادته لتاريخ شارع الجميزة – مار مخايل، يبدو فياض كمن يعيد مدّ ما تقطّع من أوصال المدينة. «بعد خروج بيروت من أسوارها، تمدّدت في اتجاهين؛ الأول باتجاه زقاق البلاط، والثاني عن طريق الجميّزة – مار مخايل التي كانت طريق بيروت – طرابلس». يخبرنا أن ما يمنح الشارع أهميّته هو أنه لا يزال على حاله منذ القرن التاسع عشر لناحية التصميم المديني، إذ إن إحدى أهم مميزات المنطقة هي احترام حدود الشارع حيث تشكّل الأبنية المتجاورة ما يشبه جداراً يُسمّى Wallstreet. تضاف إلى هذه العوامل سمة أخرى كما يشير، وهي التراكم التاريخي والتنوّع العمراني في الشارع الذي يحوي طبقات زمنية عديدة: أولاها الأبنية التي تعود إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع صعود البيت اللبناني والبيت ذي الأقواس الثلاثة. إلى جانب هذه البيوت في الجميزة، هناك عمارات كولونيالية خرسانية بطبقات عديدة تعود إلى أوائل الثلاثينيات، فضلاً عن العمارات الحديثة في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وأخرى تعدّ هجيبنة مثل مبنى المخفر في الجميزة وفق تعبير فياض. يواصل المعمار اللبناني استعادة تاريخ الشارع الممتدّ إلى مار مخايل، وتفرّعاتها الحديثة باتجاه المرفأ، وعماراتها المرصوفة على الجوانب منذ الخمسينيات. لا يبدو فياض متفائلاً، إلا أنه يشدّد على ضرورة الحدّ من رقعة الهدم في المناطق المتضرّرة، إضافة إلى القيام بالجهود الإنشائية القصوى لتدعيم الأبنية المصابة. في هذا السياق، يحذّر من التذرّع بالسلامة العامّة من أجل تبرير الهدم، مشيراً إلى أن أكثر ما يمكن أن يضمن السلامة العامّة هو الحفاظ على هذه الأبنية، خصوصاً «إذا كنا نسعى إلى إرجاع الناس إلى أماكن سكنهم، وإعادة المجتمع المديني الذي كان موجوداً من قبل، والنسيج الاجتماعي الذي ألّف الأمكنة وعناصرها، مثل القرميد والقوس والخشب...»، مضيفاً أن «هجمة الريع العقاري تعدّ حتميّة الآن، لذلك ينبغي النضال ضدّ الريع العقاري. هذه فرصة للمستثمرين للقول إن الحل هو في هدم الأبنية المتصدّعة». يدعو فيّاض العاملين على ترميم هذه الأبنية إلى ضرورة تحديد مفهوم الترميم وأخذ إشكالية الترميم بعين الاعتبار بوضوح والعمل بجديّة لإعادة الأمور كما كانت من دون التعدّي على روحها. يكرّر فيّاض عبارة «روح المكان» مراراً، لتأكيد أن حماية الأبنية لا تتمّ بالاعتماد على التقنيات العلميّة والإنشائيّة فحسب، بل «تتطلّب إحاطة ثقافية بالأبنية ووظائفها، وبخصوصية المناطق والأحياء وتراكمها التاريخي، والحرص على إنجاز الترميم بالتقنيات نفسها التي بنيت فيها المباني التراثيّة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا