لاقت بعض المسلسلات الرمضانية الخليجية ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي كما في الصحافة، نتيجة تعرّضها للنقد باعتبارها مروّجة للتطبيع العربي مع كيان الاحتلال. كما دعت حركة المقاطعة BDS إلى مقاطعة قنوات MBC طيلة شهر رمضان. الأمر الذي أثار القضية، هو التسويق لبعض الأفكار غير المقبولة في سياق قريب كموضوع القضية الفلسطينية، واختصارها على أنها قضية عداء ونزاع بين الأديان، في وقتٍ هي أبعد ما يكون عن ذلك. في أحد مشاهد أحد المسلسلات، ومن لحظاته الأولى، يظهر عدم البحث الطفيف في التاريخ القريب جداً (أقرب للحاضر منه إلى اتاريخ) لبعض التفاصيل الصغيرة، والسهل العثور عليها بعد بحث صغير أو سؤال لبعض المتخصصين. على سبيل المثال، لم تكن العبرية المحكية اليوم في كيان الاحتلال، لغة يهود المنطقة العربية أو السوريين، بل كانت لغة يهود المنطقة هي اللغة المحلية للمنطقة كباقي أطياف المجتمع. كما لم تكن اللغة العبرية ذات استخدام إلّا على نطاق ضيق بين الحاخامات ورجالات الدين. مثلاً، كانت مصنفات الحاخامات في البلاد الأوروبية وبين القرائين حتى القرن الحادي عشر باللغة العبرية. إلا أنه عام 1922 تقريباً، وبعد ضغوط كبيرة على سلطات الانتداب في فلسطين، تم اعتماد كل من اللغة العربية والإنكليزية والعبرية كلغات رسمية في فلسطين. وفي أوائل القرن العشرين، دعا عدد من اليهود الصهاينة إلى ضرورة التحدث باللغة العبرية في فلسطين، علماً أن لغة المؤتمرات الصهيونية بقيت بالألمانية حتى ثلاثينيات القرن الماضي، كون اللغة العبرية لم تكن مفهومة لدى العديد من اليهود الذين يعيشون في أوروبا والبلاد العربية. وعليه، تعتبر اللغة العبرية المحكية اليوم، لغة مستحدثة تم اعتمادها رسمياً كلغة محكية بعد جدالات طويلة، بدأت بعدما دعا اليعازر بن يهوذا (1858-1923) إلى ضرورة استخدامها واعتبارها لغة حية. فبدأ بالبحث في الأدب العبري الكلاسيكي عن تلك الألفاظ التي تصلح للاستعمال في الحياة اليومية، بالإضافة إلى العديد من المفردات من قواميس اللغات الأخرى. كما دعا إلى زيادة عدد السكان اليهود في المنطقة لأنه بالنسبة له إحياء اللغة لا يتم إلا بعد «إحياء الأمة».

محمد سباعنة ـــ فلسطين

بالتالي تم العمل على تطوير وإضافة مفردات عليها إلى أن نُشر القاموس العبري القديم والحديث في مجلدات عدة انتهى آخرها عام 1959. وعليه، لم تكن اللغة العبرية القديمة مجهّزة لتكون قادرة للتعبير عن تفاصيل الحياة العملية كافة، فتم تطويرها لتصبح قادرة على استيعاب تفاصيل الحياة اليومية كافة ولتسهيل التواصل بين اليهود الذين جاؤوا من مناطق مختلفة من العالم ذات اللغات المختلفة أيضاً. بالتالي، لا مكان للغة العبرية المحكية اليوم خارج دولة الاحتلال، إلا للعائلات التي نشأت فيها ثم انتقلت في ما بعد إلى الخارج. ولذلك، من غير الممكن أن يتحدث الكويتي اليهودي اللغة العبرية على أنها لغته المحكية اليومية، حيث لم تكن يوماً هذه اللغة لغته في الكويت!
من ناحية ثانية، تناول مسلسل «أم هارون» في حلقته الأولى، مشهدين كفيلين بطرح عدد من الأسئلة. الأول يكمن في تلميحات عن أحداث وقعت عام 1948 من دون ذكر محتوى التلميح وهو النكبة، واختصارها على أنها مفهوم ضمناً بدون مبرر. أما الثاني، فهو الانطلاق من الخطاب الإسرائيلي في توصيف مجريات عام 1948 وهو إعلان خبر النكبة بإعلان وثيقة الاستقلال الإسرائيلية! كأن مذاييع أربعينيات القرن الماضي كانت أسرع في نقل أخبار العدو من نقل أخبار كارثة حلّت على المنطقة «العربية»، في الوقت الذي جميعنا يعلم صيغة خبر النكبة وكيفية طرحه على العديد من راديوات الدول المحيطة، التي ما زال جزء منها مسجلاً حتى اليوم ويمكن العودة له للتدقيق.
لم يخلُ المسلسل من شعارات التآخي والسلام بين الأديان، كما الدعاية الأوروبية أو المكرونية حين زيارته للقدس بتاريخ 23 كانون الثاني (يناير) 2020، عندما اعتبر أن مسيحيي المنطقة عبارة عن جسم وسيط لحل الإشكال الإسلامي اليهودي فيها.
بدأ المسلسل بتصوير حلم متمثل في الحب والسلام والتآخي المحلق بين ذوي الديانات المختلفة، كأن عداءنا مع كيان الاحتلال عداء ديني. فهي لم تكن غير تلك الرواية التي خسرتنا ولم تربحنا منذ سبعين عاماً حتى اليوم، ولن نربح إن اقتصرت على ذلك. فنعم، فلسطين ليست قضية العديد، هي ليست قضية المسلمين، هي ليست قضية أديان، هي لم تكن ولن تكون كذلك يوماً.
هي قضية حق بأرض سُلبت من شعب حي كان وما زال.
رفع «أم هارون» شعار السلام بين الأديان كأن عداءنا مع كيان الاحتلال عداء ديني


وبعيداً عن محاولات التلاعب بالحقائق، تجدر الإشارة إلى أمور مركزية وذات أهمية في صراعنا الحالي مع الاحتلال. إن التعاطي العادي مع فكرة وجود مملكة لليهود في فلسطين، لا يُنقص شيئاً من حق الفلسطيني في أرضه. ولا يبرر استعمار أرض سواء باسم دين أو تاريخ، على شكل استعمار استيطاني احلالي، شرد الملايين وما زال. وللحفاظ على حقنا في الأرض، لا يمكننا معالجة القضية بإنكار ما جاء في التراث اليهودي. فمن يحاول نفي ما جاء في الكتب المقدسة لدى غيره، عليه أن يقبل نفي ما جاء في كتابه المقدس كذلك. لذلك، فهي لعبة خاسرة وليست قضيتنا، فصراعنا لم يكن يوماً دينياً ولا تاريخياً. صراعنا صراع وجود لاسترداد حق ممن سرق وعربد ونكّل وشرد. فإذا كانت المملكة عبارة عن أسطورة مثلاً، أو غير مثبتة تاريخياً ولا أثرياً، أو كانت ذات مقصد معنوياً لا فيزيائياً، أو كانت ذات معنى مختلف عن مفاهيم الممالك اليوم، فهذا أمر آخر. فمثلها مثل العديد من الأساطير والماورائيات الموجودة في الكثير من الكتب، لا يمكن محاربتها، ولا الاستناد إليها بشيء. بل وجب العدول والعودة إلى أساس الصراع الحقيقي، لمحاربة استعمار استيطاني احلالي، استعمر فاستوطن وشرد ليحلّ مكانهم أناس آخرين.
لقد خرسنا فكرياً حين أوهمنا بعضهم أن فلسطين قضية إسلامية، وتراجعنا حين أوهمنا البعض الآخر أنها قضية العرب كافة. لكن عند اكتشاف الفلسطيني لهويته الحقيقية، لن يحتاج لأموال ممن سيملي عليه واقعه، ولا عطف أديان ستحرفه عن الهدف في قضيته، ولن يعوّل على قنوات لم يكن هدفها إلا جني الأموال وترويج لحكومات فشلت في تحقيق مجتمعات حقيقية، مبنية على العلم والمعرفة.

* باحثة فلسطينية