الإعلام العربي يكتشف البارود و«أم هارون» «أم هارون» مسلسل درامي من إنتاج السعوديّة يُحرّض على الشعب الفلسطيني ويمتدح العدوّ الإسرائيلي. المفاجأة كانت «صاعقة» على الإعلام العربي وعلى المواطنين العرب. كأنهم كانوا بحاجة إلى أم هارون، كي يعرفوا السياسة السعوديّة، والتطبيع الفنّي العربي مع العدوّ. يا سادة يا كرام، «يا مكتشفي البارود»، الإبداع بأكمله ومن أساسه، مصاب بفيروس التطبيع، وخاضع للمزاج «العالمي». الفن والإبداع بأكمله في يد «العقارب» واللوبي الصهيوني في العالم. منذ أن تأسست أميركا (وقبلها)، قُضِي على الفن والثقافة في العالم. الفن الاستشراقي مع أهميّة بعضه، ماذا كان غير تشويه لصورة الشّرق؟! حسب الكاتب الفرنسي روجيه غارودي في كتابه «الولايات المتّحدة طليعة الانحطاط» الذي يخصّص فيه جزءاً للثقافة والفنون (العرب يقتنعون من الأجانب أكثر من اقتناعهم بكلامنا)، يتحدّث عن لعبة الثقافة الحاليّة التي خلقها البنك العالمي، وقد اجتذب ـــ حسب غارودي ـــ كل قطاعات الحياة الاجتماعيّة. بالاستناد إلى المثال الذي أورده دومسك في كتابه «فنّانون بلا فن»، يعرض غارودي بعض أسماء روّاد الفن التشكيلي الأوروبي مثل: ألغريكو، رافاييل، تيتيان، لاتور وغيرهم، وكيف تراجعت أسهمهم في السوق العالميّة بشكل مخيف، أمام أعمال لفنّانين أميركيّين «مصنّعين» هم: كونينغ، بولوك وماذورل وغيرهم من المدرسة التي سمّيَت بالانطباعيّة التجريديّة. وفي صالة «كريسبي» المعروفة، بيعت أعمالهم بأضعاف الأضعاف، بينما انخفضت أسعار الروّاد الأوروبيين على سبيل المثال لا الحصر. وتجدر الإشارة إلى أن صالة «كريسبي» لا تزال مستمرّة في نشاطها بتنظيم المزادات العلنيّة في أنحاء العالم، وفي العالم العربي كمدينة دبي المفتوحة على السّوق العالمي، فتُبرز أسماء (منها عربيّة) وتتجاهل أسماء أخرى وفق ما يناسبها. أصبح التركيز في الفن على ما هو «غرائبي» أكثر ممّا هو فنّي، ويقول لك صاحب الصّالة إن أتى فنّان ليعرض أعماله، بأنه يريد فناً معاصراً، وكم هي فضفاضة هذه التسمية (وإلى أين تصوّب؟!).

السينما العربيّة بنسختها المقلّدة
ما نقوله في الفن التشكيلي ينطبق على أيّ فن من الفنون الأخرى. لنأخذ السينما، وما أدراك ما السينما الهوليووديّة التي تمرّر ما تريده من خلال أفلامها، وتزوّر الحقائق، وتفتّ ملايين الدولارات، على الإبهار السطحي والفارغ من أيّ مضمون إنساني أو فكري عميق، فتحوّل على سبيل المثال لا الحصر، صورة السكّان الأصليين، لما يُسمّى بأميركا، إلى مجرمين. كما أنّها الصانعة الأكبر لأفلام الإرهاب والرعب في العالم. فمن أجل شخص واحد، هو بطل الفيلم، يموت المئات والآلاف، فيرخص الإنسان (داعش حاليّاً وهي الوجه الآخر لإسرائيل وأميركا). الأمثلة كثيرة لا مجال لذكرها الآن (والجمهور العربي وفي الصّالات العربيّة يُصفّق). وهنا يحضرنا سؤال: أين أصبحت السينما الأوروبيّة؟! أطاحوا بها. تأتي السينما العربيّة لتقلّد هوليوود بسخافة أكبر. مَن اعترض إلّا أصوات خجولة؟!

الفنّ التشكيلي في بلادنا «همروجة»
على صعيد الفن التشكيلي، العدوى تنتقل إلى صالات العرض في بلادنا. كي تُقْبَل أعمال أي فنّان للعرض وللبيع ـــ أكان لوحة أم منحوتة أم عملاً تركيبياً ـــ يجب أن يلتزم بالشروط غير المباشرة للغاليري، وهي باختصار التجرّد من أي إحساس إنساني أو قضيّة لا تتناسب مع الموجة، أو تخالف سياستهم. نعم بإمكانك التعبير عن حرب تعيشها، لكن فليكن العمل جثّة بلا روح، «بَهْرِج الألوان». فالصالة تهمّها «مشاعر المتلقّي» وأن لا ينزعج ولا يتأثّر بما هو إنساني (وهذا بحاجة لشرح مطوّل). هي لوحة للصالون تتناسب مع أثاث المنزل وكفى. حتى لو أنكرت هذه الحقيقة، فليس باستطاعتها أن تمرّر خبثها على فنان حقيقي ذي موهبة تشغله قضيّة إنسانيّة أو وطنيّة. حتى لو عمل على موضوع عاطفي بعيد عن السياسة، على العمل أن يكون خفيفاً، ولا لزوم للعواطف «الهيّاجة». وفي بلادنا، تنظّم بعض الأنشطة «الفنيّة» عبر مؤسّسات لا علاقة لمنظّميها بالثقافة الفنيّة، فيأتونا بالهواة وعديمي الموهبة، يُقدّمون أعمالهم مجّاناً. وهذه «المجّاناً» كم تغريهم، وليذهب الفنّان الحقيقي ويشحذ. في مقلب آخر وفي بلادنا، تنظّم معارض فنيّة سنويّة ضخمة تديرها مؤسّسات «عالميّة»، وكافّة الصالات التي تشترك، تنتقي فنّانيها بالشروط الآنفة الذّكر.

صرعة «أم هارون»، ولغّة الفتّوش
أم هارون، قالت ما تريد قوله بصراحة، لكن أين نحن من برامجنا ومسلسلاتنا المسيئة لثقافتنا بمختلف أوجهها؟! أولاً تطعيم اللغة العربيّة باللغات الأجنبيّة وبالأخصّ الإنكليزيّة (وهذا كان مرفوضاً تماماً في وسائل الإعلام الوطنيّة) أليس هذا بتطبيع؟! أليس هذا مقتلاً للغة العربيّة والثقافة الوطنيّة؟! لماذا تطلع المذيعة وتتكلم لغة «الفتّوش»؟ فجملتها خليط عجيب من اللغات التي لا تتّقن منها شيئاً؟! أين هم القيّمون على الفن والثقافة في بلادنا. وأين هم حين يُقصد تمرير العلم الأميركي، في المسلسلات، حيناً على غطاء سرير وحيناً على ثياب الممثّلين ولا تعجز المخيّلة من تمريره بطريقة أو بأخرى؟

الأدب وجوائز الترضية
حين يقوم كاتب بمستوى أمين معلوف، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بالظهور في قناة للعدوّ الإسرائيلي، ويعتبر أن المبدع ليس له حدود، ولا تضع دولته المعادية لإسرائيل اسمه على اللائحة السوداء، بل ألعن من ذلك، فحين يفوز بإحدى الجوائز الأدبيّة (طبعاً بسبب مواقفه السياسيّة حتى لو كان عبقريّاَ) يبعث له رئيس البلاد رسالة تهنئة وفخر، ماذا يعني هذا؟ أليس تشجيعاً على التطبيع؟ هل من وسيلة إعلاميّة انتقدت الرئيس، وضغطت عليه كي يُقَدّم اعتذاره للمواطن اللبناني؟! وماذا نقول عن الجوائز التي توزّع على الكتاب هنا وهناك، وتكون مدفوعة الثّمن وجائزة ترضية على مواقف أغلبهم، والتي تتناسب مع سياسة «الغيارى على الإبداع»؟
أصلاً، فليخبرنا أحد، من هو الإعلامي المتابع للمسيرة الفنيّة والإبداعيّة والثقافيّة بعمق، ولمعاناة الفنّان مع كل ما ذكرناه؟ وإن وُجد، فهو منسّق مع سياسة التطبيع، وإن كان نظيفاً من ذلك، فسوف تجده في بيته عاطلاً عن العمل. ولو كان هناك إعلام جدّي في هذا المجال، لِمَ قفز قفزة مفاجئة إلى «أم هارون» من دون المرور بسكّة طويلة من التطبيع، فنعتبر ذلك صرعة، صرعة أم هارون، يتسلّى بها الفايسبوكيّون وغيرهم الذين، وفي أغلب الأحيان، يفضّلون صور الطعام الشّهي، والطرائف.

التطبيع تاريخ في بلادنا
يا سادة يا كرام. مع كلّ ما يعاني منه المواطن في بلادنا، هناك فنّانون ومبدعون يتخبّطون بكل هذه الأجواء ولا يدري بهم أحد. هناك فنّانون يشكون بطالة مقنّعة، والبعض الآن وفي الظروف المعروفة في بلادنا، انكشف ليصبح الفنّان واقعاً ليس فقط في بطالة مقنّعة، بل أصبح قابعاً تحت عجز كبير، وذلّ لئيم، وهنا أتكلّم عن الفنّان الذي يرفض أيّ مساومة بفنّه ويرفض تطبيعاً ليس «صرعة» وأحياناً يرفض استخدامه كـ «ساقط» أو «ساقطة». ارحموا عزيز قوم ذلّ.

الإبداع أخطر من السّلاح، والإعلام والمنتج سلاح مضاد
حتى بعض وسائل الإعلام التي تطرح موضوعاً أو أي إشكال فنّي أو «أم هارون» تأتي بجهلاء بالفن، غير المتخصّصين. ما أوصلنا إلى التطبيع، وعصر الانحطاط الفنّي، والأخلاقي، ليس سوى الإعلاميّين الذي بعضهم مطبّع، وبعضهم عميل، وبعضهم جاهل، أمّي في الثّقافة. تَطلّون لتنظّروا علينا، ونحن أمام الشّاشات، وأمام مقالاتكم الركيكة ننظر بقهر وقرف. ولد، إن تسلّم برنامجاً أو موقعاً لرخص الميزانيّة، أو شاطر بتأمين التمويل والإعلانات، بإمكانه أن يتطاول على من يفوقه بالإمكانيّات والموهبة، ويصبح النّشر في الدور وليس بالجدارة. سرقة الأفكار وتسطيحها وتسخيفها حدّث ولا حرج.
الفن الاستشراقي مع أهميّة بعضه، ماذا كان غير تشويه لصورة الشّرق؟

لتطبيع ليس بصرعة، التطبيع أصبح تاريخاً وثقافة متأصّلة في بلادنا، نقول لكم «صحّ النّوم». أيها القيّمون على وسائل الإعلام والإنتاج الفنّي، ولا أستثني منكم أحداً، لا حليفاً للمقاومة ولا وسائل الإعلام التي للمقاومة، من التصويب نحوكم، واتّهامكم بالتقصير المريب، بحق الإبداع. قلتها وكتبتها على قدر ما تسمح لي وسائل التعبير «الإبداع أخطر من السّلاح» كونه المؤثّر الأوّل على كل متلقّ. والأغلبيّة تعتبره من الكماليّات (والطرفة حين يأتي إنتاج من جهّة المقاومة، بممثّلين لمسلسل من إنتاجهم، ويكون الممثّلون بأغلبيّتهم بعيدين كل البعد عن ثقافة المقاومة ومواقفها، ويأخذون أدوار «مقاومين» وأكثر مؤيّديهم مغيّبون).

سعادين الثقافة والإعلام
ألا تملّ المحطّات من البرامج المخصّصة «للتوك شو» أو البرامج الحواريّة، واجترار الأفكار والمواضيع نفسها؟! أين هي البرامج الثقافيّة، وإن وجدت، فتكون بشكل خجول؛ هي كغيرها للوصول إليها بحاجة للمرور بين مافيات ومحسوبيّات، وما أدراك كلمة محسوبيّات كم هي فضفاضة، وتتحمّل من الوجع الكثير. بعض وسائل الإعلام إن خصّصت وقتاً لتمرير بعض الأمور الفنيّة تأتي بمن يسخّف الفن. تأتي وبكل صراحة وأسف بسعادين ليتكلّموا عن الفن والثقافة، معتقدين أن الفن «استهبال» وبأغلب الأحيان يستضيفون أناساً دخلاء كمستضيفيهم، آتين من أيّ مكان إلا المكان الأعمق للفن والثقافة، حتى أصبح المبدع في وادٍ ومجتمعه وكل الآخرين في وادٍ آخر. هنا نطرح سؤالاً: إلى متى ستبقى الدولة غائبة عن تقديم الإنتاج وتفعيله بشكل واسع لتحجّم من الإنتاج الخاص، الذي لعب وبشكل كبير دور المشوّه الأوّل للإبداع؟!

لم يردّ الرئيس على رسالتي
سأخبر شيئاً لا أعتبره سرّاً. بعدما أقرّت الحكومة الورقة الاقتصاديّة، كتبت أنا شخصيّاً على صفحة رئيس الحكومة تعليقاً، مفاده أن لا أحد يذكر المبدعين، وحالتهم تصعب على الكافر. لكن الرئيس لم يتواضع ويردّ علي. ولا حيّاً لمن تنادي. وفي الكواليس ما هو أخطر وأسوأ. كيف تتمّ الموافقة على إعطاء الفرص وتشغيل من هم أهل ومن هم ليسوا بأهل؟! يُقال بأن ليس من موهوبين كثر. إذاً اتعبوا في البحث عمن هم مؤهّلون وتمسّكوا بهم. في النهاية، أقول لمعظم الإعلاميين والمنتجين والقيّمين على دولنا «السايبة»: أنتم «أم هارون»، وتباً لها..

* كاتبة وفنّانة لبنانيّة