تطوّرت السّينما كثيراً منذ أطلقت هوليوود «دون جوان» أوّل أفلامها التجاريّة في 1926، وكان ثمرة تحالف بين عملاقَي الصناعة الثقافيّة «وورنر برذورز» والصناعة التقنيّة «جنرال إليكتريك». لكنّ تلك التّحولات بقيت أقرب إلى تراكمات كميّة لا تمس بالقواعد الجوهريّة لشكل العمل السينمائي، ولمّا تصل إلى مرحلة تغيّر نوعي انقلابي يعيد كتابة الفن السابع في إطار جديد. لكنّ ثمّة شبحاً جديداً يحوم هذه الأيّام في أجواء هوليوود ويهدد بفرض صيغة مختلفة تماماً لدور العنصر المركزي في المنتجات السينمائيّة، أي الممثل، الذي طالما كان الكلفة الماديّة الأعلى ضمن متطلّبات الإنتاج. إنّه شبح الممثل الافتراضي.

التعقيد المتزايد في تقنيّات إنتاج الصور السينمائيّة افتراضياً مقابل تدنٍّ نسبي في كلفتها، مكّن صناعة الأفلام من استكشاف إمكان تقديم مقنع لشخصيّات بُنيت على الكمبيوتر بما فيها استعادة وجوه رحلت منذ عشرات السنين. فقد يشهد العام الحالي إطلاق أوّل فيلم تجاري بطله الرئيس شخصيّة افتراضيّة تتقمص ملامح الممثل الأميركي جيمس دين (1931 – 1955/ الصورة) اعتماداً على صور فوتوغرافيّة قديمة له، إضافة إلى أفلامه الثلاثة التي أنجزها قبل وفاته مبكراً في حادث سير. دين بالطبع ليس أوّل ممثل يستدعى من الغياب، إذ ظهرت شخصيّة افتراضيّة بملامح الفنانة البريطانيّة أودري هيببيرن (1929 – 1993) في إعلان تجاري للشوكولا عام 2013. وفي العام نفسه أيضاً، ظهر الراحل بروس لي في دعاية باللغة الصينية لأحد أصناف الويسكي المشهورة، رغم أنّه كان متعفّفاً في حياته عن تناول الكحوليات. وفي وقت قريب، أعيد بناء شخصيّة الممثلة كاري فيشر كأميرة صغيرة السنّ في سلسلة أفلام «ستار وورز» بداية في Rogue One عام 2016، ولاحقاً بعد وفاتها في The Rise of the Sky Walker عام 2019. ورغم أن هذه التجارب الرّائدة لإعادة تخليق الشخصيّات افتراضياً لم تلقَ كبير ترحيب من الجمهور وقتها، فإنّه من الجليّ أن التحالف الآثم بين هوليوود و«سيليكون فالي»، عازم على دفع حكاية «تشييء» الممثل هذه إلى منتهاها، بالنظر إلى الإمكانات الهائلة لتعظيم الأرباح من خلال تقديم أعمال جديدة لوجوه راحلة، أو إعادة تصوير تلك القديمة بسينوغرافيا جديدة مع الاحتفاظ بـ «حضور» الوجوه المحبوبة، ومن ناحية أخرى تقليص التكاليف الباهظة لاستئجار النجوم الأحياء، وعناء إقامتهم وسفرهم وتجاوز ظروفهم الإنسانية المحض التي قد تجعل وجودهم في مواقع التصوير متعذّراً بعض الأحيان. كما أن خبراء يتوقعون أن يتم في مدى منظور إنتاج نسخ متعددة متطابقة من الأفلام التجاريّة الكبرى تتولى تقديم الأدوار الرئيسة فيها شخصيات افتراضيّة بملامح ممثلين محليين معروفين في كلّ إقليم جغرافي (فنان صيني لشرق آسيا، فنان هندي في شبه القارة، وفنان أميركي في نسخة الولايات المتحدة...).
تقديم مقنّع لشخصيّات بُنيت على الكمبيوتر بما فيها استعادة وجوه رحلت منذ عشرات السنين


ويبدو أن التقدّم المستمر في جودة الصورة الافتراضية قد يدفع تحالف صناعة الثقافة مع منتجي التكنولوجيا المتقدّمة إلى استغناء شركات الإنتاج الكبرى تدريجياً عن الممثلين الأحياء في المستقبل. وتتوفر بالفعل الآن القدرة على إنتاج شخصيات نسخ افتراضيّة مقنعة من الأحياء، مقارنة على الأقلّ بتلك المستعادة من الصور القديمة، اعتماداً على مسح دقيق لأجسادهم بالرنين المغناطيسي. ويقوم ممثلون بديلون عندها بأداء الحركات المطلوبة للتصوير كما الأصوات، قبل أن يُعاد تركيب الشخصيّة على الكمبيوتر بالاعتماد على القياسات الدقيقة التي سجلّها المسح. وهي بالطبع تختلف عن الشخصيات الافتراضية المحض، التي أصبح بعضها مشهوراً بالفعل، ولها صفحات على مواقع التواصل يتابعها الملايين (شخصيّة ليل ميكويلا مثلاً لديها ما يقرب من مليوني متابع على إنستغرام، وقد ظهرت في مقاطع فيديو وأغانٍ ودعايات تجاريّة لأصناف مشهورة). تطرح هذه المسألة قضايا شديدة التعقيد على مستويات قانونية واجتماعية وثقافية عدة. فالتشريعات القانونيّة بشأن حقوق استخدام ملامح الشخص بعد رحيله لا تزال قاصرة في معظم دول العالم بينما تتفاوت بين الولايات المختلفة في أميركا، إذ توفرّ كاليفورنيا حماية للمشاهير تمتد حتى سبعين عاماً، فيما تعتبر ولايات أخرى حقوق استخدام الملامح المميزة لشخص ما – كما اسمه – ملكاً للورثة تماماً كأملاكه المنقولة، وغير المنقولة. ومن المؤكد أن الفنان الأميركي الراحل روبن وليامز كان مطّلعاً على سعي محموم عند هوليوود لإقحام الشخصيّات الافتراضية التي تستعيد وجوهاً رحلت في الأعمال السينمائيّة. إذ سجّل سنداً لدى القضاء قبل وفاته عام 2014 يمنع بموجبه استخدام ملامحه في بناء شخصيّة افتراضيّة للظهور في أفلام أو برامج تلفزيونيّة أو حتى بتقنية الهولوغرام تستمر حتى 2039.
وبينما يرى بعض المشاهير (الأحياء) بأن التقنيّة الجديدة قد تسمح لهم بترك مورد رزق مستمر لورثتهم بعد رحيلهم، إلا أن كثيرين قلقون من إمكانيّة إفساد تراثهم الفني، على اعتبار أن روحيّة أداء الممثل لا يمكن سجنها في القياسات الدقيقة لمعالم وجهه وشكل ابتسامته، وتلك لا يمكن تخليقها افتراضيّاً ويسهل نظريّاً على الدماغ البشري ملاحظة غيابها عند المقارنة، ناهيك بإمكان توظيفهم في مواد مؤدلجة أو استهلاكيّة تتعارض مع قيمهم الشخصيّة. ويرى البعض أن الشخصيات الافتراضية المعتمدة على استعادة حضور بشر حقيقيين – أحياء أو أمواتاً – قد تكون أمراً أكثر قبولاً جماهيريّاً في فضاء ألعاب الفيديو، لا السينما، الأقرب إلى المسرح في ديناميّة حضور شخصياتها وتفرده، فيما يخشى آخرون من «تشييء» شامل لصناعة التمثيل الفني ستقضي عليها نهائياً.
هذا الجدل يبدو من الناحية النظرية محسوماً لمصلحة الشخصيات الافتراضية على حساب الحقيقية بالنظر إلى ميزاتها النفعية الواعدة لوجستياً وماليّاً، وهو أمر وصفه كارل ماركس مبكراً في تحليله النافذ للنظام الرأسمالي عندما تحدّث عن ظاهرة «التشييء» في إطار إعادة صياغته مفهوم «الاغتراب» الهيغلي لتفسير علاقة البشر بالعالم حولهم. ووفق ماركس، فالسعي الدائم لرأس المال تجاه تعظيم الربح يدفع نحو تحويل الأشخاص إلى أشياء ماديّة الطابع مستقلّة عنهم، يمكن المتاجرة فيها وبيعها على نطاق واسع، وكذلك لمنح الأشياء الماديّة قيمة (اجتماعيّة) متفردة على نحو ما، بغض النظر عن حقيقتها أو «الفيتشي»، وهو ما أسماه الفيلسوف الماركسيّ الفرنسي لوي ألتوسير لاحقاً بـ«أيديولوجيا التشييء» كإحدى أهم خصائص المنظومة الرأسماليّة المتأخرة.
وتتسبّب هذه الظاهرة بنزع الأنسنة عن الأشخاص موضوع «التشييء»، وتقليص وجودهم إلى صورة قابلة للتداول عن ملامحهم أو كيفيّة تأثيرهم على الحواس (بصرياً أو سمعياً)، مع قطيعة تامة بين ذات الشخص وصورته في المخيال العام، الأمر الذي له تأثيرات سيكولوجية سلبية عميقة عليهم تشبه ما تنتهي إليه النساء الشهيرات اللواتي يتحوّلن إلى مجرد شكل خارجي موضوع للاهتمام كأدوات جنسيّة ومنفصلة تماماً عن دواخلهن ــ التعيسة غالباً ــ أو العبيد الذين يتحولون إلى ملكيّات شخصية وأدوات إنتاج محض من دون النظر إطلاقاً إلى مشاعرهم أو خبراتهم الإنسانية. جيمس دين، أيقونة ثقافة المراهقين الأميركيين في خمسينيات القرن الماضي، مرشح إذن لصنع التاريخ مرة أخرى رغم غيابه الشخصي المبكر. كانت الأولى عندما كان الممثل الوحيد الذي حصل على جائزة الأوسكار غيابياً (لمرتين)، وهذه المرّة عندما يباع كما ملامح باهتة لشخصيّة افتراضيّة تقاتل في صفوف الغزاة الأميركيين ضد الشعب الفيتنامي. لا ندري بالطبع ماذا كان سيكون موقف دين الحقيقي من تلك الحرب القذرة، لكن ذلك لا يهمّ أبداً عند رأس المال حيث لا توجد أشياء لا تباع وتُشرى.