يبدو قرار نقيب المهن الموسيقية هاني شاكر بمنع «مطربي المهرجانات» من الغناء في الحفلات مبالغاً به. إنّهم فنانو الأغاني العشوائية، والتعبير هنا للملحن والموسيقار ونقيب الموسيقيين السابق حلمي بكر الذي رفض تسمية «مغني المهرجانات» بالمغنين الشعبيين، معتبراً أن الغناء الشعبي قيّم وراق، وأن فرانك سيناترا وعمرو دياب مغنيان شعبيان. يحظى «مغنّو المهرجانات» بضجة كبيرة حالياً. إنهم نبضُ شارعٍ شئنا أم أبينا، رغم أنهم لا يمتلكون صوتاً في المعتاد، ويستعملون تقنية الـAuto-tune بكل ما أوتوا من قوة، حتى ليكاد يصبح الصوت ممسوحاً من دون روح. باختصار، هم يستعملون تقنية التكنو، لكن بشكلٍ شرقي خالص. هناك خلاصٌ في هذا النوع من الفنون الذي ظهر عام 2011 تقريباً في الإسكندرية مع فرقة «الدخلاوية» (تتكون من فيلو وتوني ومحمود ناصر). يتماهى هذا الفن مع سلوكيات «عشوائية» كثيرة: شرب الحشيش والمخدرات والكحول (الرديء بمجمله)، فضلاً عن العلاقة مع الفتيات، وبالتأكيد الطرق الخاصة في الرقص المرتبطة بتلك الأغنيات. تطالعنا أغنيات من نوع: «أنا شارب سيجارة بني» التي يقول فيها مؤديها محمد الحسيني: «أنا شارب سيجارة بني، وحاسس إن دماغي بتاكلني، قاعد في الحارة بسقط، والغسيل عمال بينقط، والشارع اللي ورايا قدامي، آجي أتكلم بتلخبط». هكذا، رسم صورة واضحة للعلاقة مع السيجارة «الملغومة» والحشيش «البني».

حسن شاكوش

ماذا عن آخر «هيتات» (Hits) هذا النوع من الأغنيات؟ «بنت الجيران» للمغنيين عمرو كمال وحسن شاكوش، صنّفها تطبيق «ساوندكلاود» بأنها ثاني أكثر أغنية استماعاً إليها في العالم. طبعاً، قد يستغرب بعضهم اسم «الفنان»، أي «شاكوش»، لكنه جزءٌ من سمات هذا العالم ومؤديه: إذ تحضر أسماء مثل «حمو بيكيا» (نسبة إلى الروبابكيا أي الخرضوات) أو السقا (بائع المياه) أو البرنس (الأمير باللغة الإنكليزية). طبعاً شاكوش وكمال يحكيان قصة بسيطة: بنت الجيران التي يحبها البطل، والتي إن تركته، فإنه سينجرف «مع الخمور والحشيش». هكذا بكل سهولة، يعرّي المؤديان مجتمعاً بأكمله: مجتمع يهرب إلى المخدرات والخمور بسبب نكسة عاطفية. نجاح هذه الأغنية، كما ورود كلمتي «خمور وحشيش»، كانا السببين الرئيسيين اللذين دفعا هاني شاكر إلى منع أغاني المهرجانات في الحفلات المدفوعة الأجر. موقف شاكر مبالغٌ فيه، لكن السؤال الأهم: هل ستخسر المهرجانات بهذا القرار؟ للحقيقة كلا. رغم الحرب الشعواء التي يقودها عليها حلمي بكر متنقلاً بين القنوات الفضائية، مناظراً ـــ ومهيناً أحياناً ـــ كثيراً من «نجوم» هذا النوع الفني، فإنّ المهرجانات ومؤديها يحضرون في الحارات الشعبية و«أفراح» الطبقات الفقيرة والمتوسطة (حتى الثرية هذه الأيام). لذلك، كيف يمكن أن تخسر إذا جاء القرار بمنعهم من الغناء في الأماكن المدفوعة الأجر (مثل الصالات وما شابه)؟ هؤلاء يغنون في الشارع، وللشارع، فضلاً عن أن قوة انتشارهم تأتي من إعجاب الشارع بهم، فكيف يمكن إيقافهم بهذه الطريقة؟
تأتي أغنيات حمو بيكا أو حسن شاكوش أو أوكا وأرتيجا بمثابة استعراض لحياة «شعوب» تلك المنطقة، وأقصد هنا أنّ من يسكن مناطق العشوائيات في مصر يختلف عن بقية سكان مصر: إذ لديه عقليّته، وعاداته وتقاليده وحتى لهجته الخاصة، ويميّز الدخيل سريعاً في تلك الأماكن، سواء لناحية ملبسه، وسلوكه وحتى تصرفاته. وما فيلم «إبراهيم الأبيض» لمروان حامد (بطولة محمود عبد العزيز وأحمد السقا)، إلا تصوير شبه واقعي لقصة شبه حقيقية عمّا يحدث في تلك المناطق العشوائية، حيث الدولة عاجزة عن السيطرة، والموت والحياة بيد «كبير الحتة» الذي يكون عادةً «كبير مجرميها» أو «تاجر المخدرات» الأهم فيها. إنها ككرة القدم بالنسبة إلى البرازيليين، إذ يدرك مغنّو «العشوائيات» أن حياتهم قد تنقلب بين ليلةٍ وضحاها، من صبي «مكوجي» إلى نجمٍ يستمع إليه الملايين، كما حدث مع شعبان عبد الرحيم صاحب أغنية «أنا بكره إسرائيل» وكوبليه «إيييه» الشهير. ما ميّز «شعبولا» عن الجيل الجديد، وإن كان يماثله في الكثيرٍ من الأمور كالمقاطع المتكررة، والمعاني والحكايا المأخوذة من البيئة، أنه لم يكن ليستعمل الـAuto-tune نهائياً، مفضّلاً عليها طريقته الخاصة في الغناء. الأمر نفسه ينسحب على عبد الباسط حمودة، وإن كان حمودة يتميز بصوته «الرخيم الشجي»، إذ يمتلك شجًى خاصاً يمكّنه من غناء «الموال» الذي يعتبر من أساسيات الغناء الشعبي أصلاً، وهذا يميّز الغناء الطربي العربي أساساً، وهو أمرٌ يحافظ عليه معظم مؤديي الفن العشوائي، ولو كانت أصواتهم عاجزة عن القيام به. تتميز طبيعة أغاني العشوائيات بأنّها تتحدث عن أمور تعنيهم كمجموعة، وإن قاربت هذه الأمور بسطحية، تتشابه كثيراً مع التعابير المبطّنة المقفاة التي نراها مكتوبة على بعض سيارات النقل العام: الصديق/ الصاحب متحضّر للخيانة دائماً («مفيش صاحب يتصاحب» لفرقة «شبيك لبيك»)، والحبيبة التي تشد وتأسر («خدود تفاح» لحمو بيكا)، والحق لا يتحقق إلا بالقوة («أنا عمكم» لسامر مدني أو «آخرك محضر» لعصام صاصا)، والسلاح والمخدرات جزءٌ لا يتجزأ من اليومي/ المعاش المعتاد («سطو مسلح» لـ «خمسة مزاج») والدنيا ظالمة وقاسية ولا ترحم («آه لو لعبت يا زهر» لأحمد شيبة).... ألا يذكّر هذا براب العصابات في أميركا، وتحديداً في فترتي توباك شاكور وبيغي سمولز وNWA في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؟
يحضرون في الحارات الشعبية و«أفراح» الطبقات الفقيرة والمتوسطة

إنّها تقريباً الثيمات نفسها مع استخدام للتقنيات الصوتية الإلكترونية، فيما المجتمعات المهمّشة هي ذاتها: الأميركيون من أصل أفريقي يؤدون الراب محاولين أن يقولوا «ها نحنُ هنا»، فيما مؤدّو العشوائيات يفعلون الأمر نفسه للحديث عن مجتمع «عشوائي» قلما يتحدّث عنه الإعلام الكلاسيكي إلا لوسمه بالإجرام أو الحديث عن سيئاته. هذا كله يضعنا أمام أمرٍ شديد الأهمية: لماذا نجحت أغنيات العشوائيات؟ لماذا يستمع ملايين الناس إلى أغنية «بنت الجيران»؟ منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يعيش الوسط الفني العربي تقريباً في حالة من التوقف القسري: عمرو دياب، هاني شاكر، كاظم الساهر، نجوى كرم، وائل كفوري، راغب علامة، يحتلون الساحة من دون منافس حقيقي أو جديد، حتى بوجود البرامج الغنائية «لتفريخ» فنانين أصغر سناً، إذ انتهى عصر سيمون أسمر. الجيل الجديد بات يشعر بالملل من هؤلاء، ويثبته من خلال تفضيل حمو بيكيا أو أوكا وارتيجا أو حسن شاكوش عليهم. ببساطة، أصدر عمرو دياب ألبوماً جديداً قبل أيام. طبعاً للنجم المصري رصيد كبير من المعجبين، لكن ضجة «بنت الجيران» ومثيلاتها لا تزال الأكثر حضوراً. تبدو أغنيات الطاقم الـcommercial كما يحلو لكثيرين تسمية نجوم الصفوف الأولى معادة، مكررة، ذات الألحان، وذات الفكرة، منذ سنواتٍ طوال: يكفي الاستماع إلى ألبوم واحد للساهر أو لكرم أو لدياب ولكفوري (منذ أكثر من خمس سنوات على الأقل) حتى تستطيع تكوين صورة عن ألبوماتهم الأخرى، إذ يعاني هؤلاء من التكرار النمطي، سواء لناحية الكلمة أو الموسيقى أو حتى شكل الأغنية، ما جعل حتى جمهورهم الأقرب يميل ناحية الجديد، فنجحت أغنيات أصحابها لا يمتلكون الصوت الجميل لكن الحضور الموفّق، كما حدث في أغنية «3 دقات» لآبو.
في المحصّلة، هذا فنٌ يحتاج إلى قراءة قبل الحكم عليه، يحتاج إلى مزيد من التنبّه، لأنه لا يمكن إيقافه أو منعه بالقمع. على العكس، سيزدهر وسيزداد الشباب الراغب فيه أكثر، كما أنه سهل الاستخدام، ما جعله وسيلةً محبّبة للمصريين في التعبير عن غضبهم تجاه نظام الحكم على سبيل المثال (وإن كانت الحالات في هذا الأمر ليست كثيرة).

هنا يقول أن عمرو دياب وسيناترا فنانين شعبيين:


هنا يتحدث عن الفنانيين الشعبيين:




هاني شاكر يهاجم محمد رمضان وحمو بيكا: