تبدو إشكاليّات العلم أقلَّ أمراض مجتمعنا طارئيَّة. لذا لا ترِد على قائمة اهتماماتنا إلا حينما نعطي أنفسنا، من باب التمويه تارة، ومن باب تعذيب الذات طوراً، حقَّ التفكير بتوقيت العالم، وتناول أسئلة لا محلَّ لها عندنا، حتّى إشعار آخر. لذا قد لا يستوقفنا تصاعد النبرة التحذيريَّة، بل الكوارثيَّة، في المنشورات المتعلِّقة بمستقبل العلم. ومنها مؤخَّراً كتاب ديدييه هوسان «فلنعالِج العلم» الصادر عن «دار أوديل جاكوب» (2018)، وقبله «فلنُنقذ التقدُّم» (2017) لإتيان كلان، الفيزيائيِّ الفرنسي الذي كان قد تخوَّف سابقاً في «غاليلي والهنود» (2008) من احتمال تصفية العلم. لائحة الكتب والمؤلِّفين طويلة جداً، لكن بالإمكان القول إنَّ ما تشترك به كلُّ هذه التحذيرات اعتبارها أنَّ العلم ضحيَّة... نجاحه الساحق نفسه (بكسر السين أو فتحها).
ديدي شيريل «سيستخدم العلم لتحديد الوقائع» (مواد مختلفة وأكريليك على خشب ـــ 76.2 × 101.6 سنتم ــــ 2017)

علوم عصر ما بعد الحقيقة
منظوراً إليها من الغرب، يبدو أبرز عناوين الأزمة صيرورة العلوم «اللغة الرسميَّة» الوحيدة المقبولة في النقاش العام، وفقدانها، في الوقت عينه، قوامتها الحصريَّة على الحقيقة، إذ باتت بالنسبة لكثيرين سرديَّة عن الكون من بين سرديّات أخرى، لا تتفوَّق جوهريّاً عليها، وبالإمكان بالتالي إدراج الانصياع للحقيقة العلميَّة ضمن الذوق الشخصيِّ وحرِّيَّة الرأي. يروي إتيان كلان صدمته عندما قاطعه تلميذ فيما كان يشرح تمدُّد الزمن ضمن نظريَّة النسبيَّة ليقول له ما معناه: سيِّدي، شخصيّاً لا أؤمن بأنشتاين. ظنَّ الأستاذ أنَّ لدى طالبه اعتراضاً نظريّاً معلَّلاً، إلا أنَّ التلميذ اكتفى بالقول: لا أشعر بأنَّ نظريَّته صائبة!
لكن ليس الرأي العام وحده من لا يأخذ العلوم على محمل الحقيقة. فهي نفسها طوَّرت ما يمكن أن نسمِّيه حساسيَّة ضدَّ الحقيقة. لقد كتب ألريش بيك، وهو الذي نظَّر باكراً لأفول المعصوميَّة العلميَّة بحكم انتصار المنهجيّة العلميّة نفسها: «لقد أصبح طرح سؤال الحقيقة على عالِم محرجاً بقدر ما هو الحديث عن الله إلى كاهن. إنَّ التفوُّه بلفظة حقيقة في دوائر العالم العلميِّ (...) هو علامة جهل وتفاهة، واستعمال غير مدروس لألفاظ ملتبسة ومحمَّلة بالانفعالات مستعارة من الحياة اليوميَّة». أضف إلى ذلك أنَّ مفهوم الحقيقة سيِّئ السمعة أخلاقيّاً لكثرة ما تشدَّق به دعاة الأيديولوجيات الأكثر ضلالاً وتضليلاً وعنفاً، ولكثرة النظريات التي تعزو كوامن العنف في الأديان والقوميّات إلى ادعائها امتلاك الحقيقة.
في هذا السياق، تبدو النسبويَّة كنتيجة حتميَّة للدوغمائيَّة، فإذا الجواب على ادّعاء حصريَّة الحقيقة أن أصبح لكلٍّ حقيقته. لكنَّه، للمفارقة، يريدها «علميَّة». بات لكلِّ موقف اجتماعيٍّ «خبراؤه» العلميُّون المولجون إعطاء مصالحه ثوبها العلميّ. وبما أن لا لغة شرعيَّة سوى لغة العلم، فإنَّ كلَّ المواقف والعقائد والمصالح والتفاهات والشعوذات مسوقة إلى أن تتسلَّح بالعلم. وإن كنت صاحب قضيَّة، فعليك أن توكِّل عالماً – واسمه المعاصر الخبير- كما توكل محامياً.

تجارة الوعد
من جهة أخرى، لا بدَّ من التذكير، مع ليفي-لوبلوند وسواه، أنَّ الشبهة المحيطة حاليّاً بالعلم والعلماء مردُّها بشكل أساسي إلى الخيبة التي نتجت عن فشل العلوم في تحقيق الوعود الطوباويَّة التي زخرت بها سابقاً، ولا سيَّما اعتباراً من القرن التاسع عشر. الجواب التقليدي على هذا الطرح هو أنَّ هذه الوعود الطوباويَّة قُطعت باسم العلم غيابيّاً. وأنَّها نتاج العلمويَّة لا العلم، والعلم ليس مسؤولاً عن هذه الأخيرة، ولو ألهمها. وهذا صحيح، لكنَّه لا يلغي واقع أنَّ التفاؤل المفرط، أو الطموح الطوباويَّ كيما نستعمل تعبير ناصيف نصّار، لطالما كان ملازماً للروح العلميَّة نفسها، وهو، على حدِّ قول إتيان كلان، نزعة قديمة لكنَّها مقاومة للصدأ.
كان كيلفن يشفق على الفيزيائيِّين الذين سيأتون بعده لأنَّهم برأيه لن يحظوا بشيء جدير بالاهتمام يدرسونه نظراً لكون الفيزياء وصلت، مع جيله، إلى خواتيمها. كان ذلك في نهاية القرن التاسع عشر، ولا يسع مؤرِّخ العلوم إلّا أن يسمع في صوت كيلفن صدى صوت أقدم منه بثلاثة قرون، صوت فرانسيس بايكون الذي اعتبر أنَّه لم يبق من عمر العلوم كافَّة سوى سنوات معدودات. وفي عشرينات القرن الماضي، قال ماكس بورن لطلّاب أتوا يزورونه في غوتنغن إنَّ الفيزياء كما نعرفها ستكتمل في مهلة ستَّة أشهر. لقد كذَّب التاريخ كيبلر وبورن كما كذَّب بايكون من قبلهما، لكنَّه لم يقتلع التفاؤل الطوباوي ولا عقيدة النقطة النهائية (culte du point final) من الإيثوس العلمي.
الخيبة من نكوث العلم بوعوده ترخي اليوم بظلالها على المصداقيّة الابستمولوجيَّة للعلوم وعلى نزاهتها الأخلاقيَّة في الوقت عينه. من هنا دعوة الفيزيائيِّين، أبطال الأمس، البيولوجيِّين (ولا سيَّما في مجالات الجينات والأعصابيات...)، أبطال اليوم، إلى التواضع والارستقراطيّات العريقة، يقول لامبيدوزا، أحكم من البوارجوازيّات الصاعدة. فقد عرف الفيزيائيُّون عصرهم الذهبيَّ ووعودهم وخيباتهم الذهبيَّة وتعلَّم بعضهم أن يزهد بالتفاؤل، أمّا على ضفَّة العلوم الطبِّيَّة وعلوم الحياة، فالاندفاعة الطوباويَّة لمّا تزل حاضرة بقوَّة على الرغم من دروس الماضي القريب. فيوم أعلن نيكسون إطلاق مشروع الحرب على السرطان سنة 1971، ووقف له ملايين الدولارات وكمًّا هائلاً من الموارد البشريَّة والتقنيَّة، كان الهدف القضاء على السرطان قبل حلول المئويَّة الثانية للاستقلال الأميركيِّ أي سنة 1976. وها نحن، في عام 2019، أبعد من الهدف ممّا كنا في سبعينيات القرن الماضي، إذ إنَّ رجلاً من أصل اثنين وامرأة من أصل ثلاث يواجهون السرطان في حياتهم.
اكتشافات العالم محكومة مسبقاً بأن تأتي ضمن الـ politically correct


بالإمكان ثبت المزيد من التجارب التاريخيَّة التي آلت إلى الخيبة نفسها، إلا أنَّ حاجة العلم لذاكرة تعيد تلقيحه دورياً بمضادات اليوطوبيا، تقابلها حاجة مضادَّة أقوى منها وأعلى نبرة، هي الطلب الاقتصادي المتنامي على التفاؤل العلميِّ المصطنع. لقد باتت إجادة بيع الوعود مهارة أساسيَّة من كفايات العالمِ الناجح، من دونها لا يحصل على التمويل الضروري لأبحاثه. على العلماء إذاً أن يعدوا بنتائج، قد تكون دقيقة وقد لا، ما يهمُّ بالأكثر أن تكون نافعة وتدرَّ الربح. لا يُراد لها أن تضع نقطة نهائيَّة للعلم، بل أن تزيِّت ماكينة الإنتاج فتبتكر بضائع جديدة تنتج مشاكل جديدة، فتعود وتنتج بضائع لحلِّ المشاكل، وتمحو ما أنتجته، لئلا نتساءل لم لا نعود إلى أصل المشكلة ونوقف اللهاث وراء الجدَّة. ممّا يقودني إلى مشكلة العلم الثانية، بعد النسبويَّة وفقدان الحقيقة، وهي التكنولوجيا.

التكنولوجيا أو الربيبة القاتلة
لا شك في أنَّ التكنولوجيا هي أبرز أوجه حضور العلوم ونجاحها في حياتنا، بها انتصر العلم على منافسيه وأحال اللاهوت والميتافيزيقا إلى السلميَّة والتواضع اللذين يميِّزانهما اليوم (في الأوساط التي تتمتَّع بحدٍّ مقبول من العقلانيَّة)، بل إلى الاضطرار، في أحيان كثيرة، إلى التنكُّر بزيِّ العلوم لدخول حلبة النقاش العام. وقد أصبح من الشائع الحديث عن Technoscience، إذ يبدو أنَّه لم يعد للعلم من مكان مستقلٍّ خارج علاقته السياميَّة مع التكنولوجيا. وغني عن القول إنَّ المموِّل الأكبر للأبحاث العلميَّة عبر العالم هو وزارات الدفاع وعمالقة الإنترنت والصناعة، حيث ينكسف سؤال الحقيقة أمام سؤال المنفعة. وهنا تبرز حاجة إضافيَّة إلى حماية العلم. فهو يحتاج إلى أن يبحث بحرِّيَّة ومن دون خطط مسبقة، لأنَّ مسار الإبداع العلميِّ يشبه مسار الزئبق، بل قُل إنَّه يشبه مسارات إله المزامير والرسالة إلى أهل روما، يصعب التكهُّن بطرقه. فلنذكر أنَّنا لم نخترع الكهرباء فيما كنا نطوِّر صناعة الشموع، ولا بنينا الفيزياء الكمِّيَّة في بحثنا عن وسائل لإزالة الشعر الزائد.
والحال فإنَّ كثراً من العلماء يعتبرون أنَّ نهاية العلم قد تأتي على يد ربيبته الألمع: التكنولوجيا. ويحذِّرون من أنَّ ذلك سيعني زوال التكنولوجيا نفسها أيضاً. فإذا انطفأ البحث العلميُّ النظريُّ المتحرِّر من الجدوى الاقتصاديَّة المباشرة، فإنَّ التكنولوجيا لن تدوم إلا للفترة التي تسمح قوة الدفع العلميَّة الحاليَّة الآيلة إلى النفاد. العلم بحاجة إلى أن نعيد الاعتبار لحرِّيَّة البحث أوَّلاً، وذلك ضنّاً بالعلم والتكنولوجيا معاً.
لذلك لا بدَّ من أخلاقيات جديدة تعيد للمعرفة جاذبيَّتها بوصفها معرفة لا أداة إثراء أو نفوذ. إذ يدعو كلان إلى إعادة الطابع الإيروسيِّ للمعرفة، يتصادى مع فاينمن الذي قال، بطرافته المعهودة: الفيزياء كالجنس، قد ينتج عنها نتائج ملموسة، لكنَّنا لا نمارسها لهذا الهدف.

البحث العلميُّ: الكمٌّ والنوع والإيقاع
وقد تلازم فطام العلوم عن الحقيقة، من جهة، وصيرورتها «اللغة الرسميَّة» الوحيدة المقبولة في المجال الإبستيميّ، من جهة ثانية، مع توسُّع «المجتمع العلميِّ»، بحيث بات يشمل، نظريّاً على الأقلِّ، كلَّ أستاذ جامعيٍّ في مجال العلوم في العالم. فلقد تغيَّر الموقع الوظيفيُّ لفعَلَة العلم، وحلَّ الباحثون محلَّ العلماء. لم يكن الإنسان يصنَّف عالماً إلّا بعدما يوقِّع اكتشافاً أو اختراعاً. أما اليوم فهو باحث بمجرَّد البحث، لا يهم أن «يجد» شيئاً ذا قيمة. وإذا أضفنا إلى حسن ضيافة المجتمع العلميِّ الذي بات فيه من المنتحلين أكثر من العلماء الحقيقيِّين، ثورة الاتصالات، نفهم الانفجار الذي شهده الربع الأخير من القرن العشرين في كمِّيَّة الأبحاث والتراجع في نوعيَّتها. علماً أنَّ ثلثي الأبحاث العلميَّة لا يستشهد به أحد، أي كأنَّه لم يكن، وأنَّ معدَّل عمر ما ينجح منها أي الثلث المتبقِّي، هو 4 سنوات فقط. تتحوَّل الجامعات ومراكز الأبحاث إلى ماكينة تفقيس أبحاث بالجملة وفي عمليَّة مستمرة لمحو الماضي، ولبتر العمل العلميِّ عن تاريخه، ممّا يجعل من باحثي اليوم جيلاً من الأطفال الذين ولدوا أنفسهم (enfants auto-engendrés).

الإنسانيّات: العلوم النقديَّة والتأويليَّة لا المائعة
أزمة العلوم «الصلبة» إذاً كأزمة السيِّد باء (Monsieur B.) في رواية ستيفان زفيغ الشهيرة «لاعب الشطرنج» (1942). السيِّد باء سجين يلعب الشطرنج ضدَّ نفسه، وعليه كيما يكون مداورة نفسه وخصم نفسه، أن ينقسم على ذاته فيتجاهل في كلِّ مرَّة التكتيكات التي وضعها اللاعب الذي كانه منذ لحظة. ينتهي الأمر به في مصحَّة الأمراض العقلية.
العلم سيّد الساحة المعرفيَّة وحده، بعدما انتصر على جميع منافسيه، فمن يحميه من جبروت وحدته؟ وكيف يعدُل من فيه الخصام، وهو الخصم والحكم؟ لكأنَّ محمود درويش كتب له لا لسواه: «فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية، أنت يا عزلة الجبل العالية». أضف أنَّ هذا الاستئثار لا يحرِّره من قبضة الايديولوجيَّة والسلطة السياسيَّة، كما قد يخيَّل لنا، بل يجعله أكثر خضوعاً لها، يقول جوردان. وهو لاستئثاره هذا منساق للمجتمع من ناحيتين على الأقلِّ:
• ناحية التمويل والأولويات: إذ لا وجود للعلم اليوم، كما يقول هابرماس، خارج ماكينة السيطرة التي قوامها العلم - الصناعة- العسكر- الإعلام، والعلم فيها الحلقة الأضعف، لذا لا قدرة له على وضع أولوياته بنفسه.
• ومن ناحية اضطراره للانصياع للإيثوس المجتمعيِّ وتبنِّي تابوهاته الأخلاقيَّة والثقافيَّة على أنَّها تابوهات نظريَّة. في عصر صيرورة العلم اللغة الوحيدة للعقلانيَّة، ليس مسموحاً أن يبحث العالم في ما يحلو له. يوضح كوش مثلاً أنَّ الباحثين يتفادون استعمال كلمة وجدان – وعي (consciousness) في مشاريعهم البحثيَّة في العلوم الإدراكيّة والأعصابيَّة، ويستبدلونها عن عمد بكلمة (awareness)، التي «تنسلُّ تحت مجال الرادار»، وإلا لا مجال للحصول على تمويل. كما لا يحق للعالم أن يكتشف أي شيء. اكتشافاته محكومة مسبقاً بأن تأتي ضمن الـ politically correct. لقد أضحى احترام الاختلافات الثقافيَّة، والمساواة الجندريَّة تابوهات نظرية. في حين أنَّ المكان الصحيح للرقابة الأخلاقيَّة على العلوم هو في تطبيقاتها، أي ما نريده، لا على الاكتشافات، أي ما نعرفه. يجدر بنا أن نحاول أن نعرف العالم كما هو، وأن نغيِّره وفق ما يجب أن يكون. أما مسائل العدالة والكرامة والمصير، فمكانها خارج العلم، لكنَّ العلم اليوم لا خارج له. لم يترك شيئاً خارجه، لذا تراه مضطراً إلى أن يستدخل كلَّ الثمار المحرَّمة مبدئياً عليه، فتنتهي بأن تؤدلجه من الداخل.
رأينا حتى الآن حاجة العلم إلى ذاكرة، وإلى أخلاقيات معرفيَّة جديدة، وإلى برانيَّة نقديَّة، وإلى فضاءات تعبر فيها الأسئلة غير العلميَّة عن نفسها خارج العمليَّة العلميَّة... ولعَّل بالإمكان اختصار هذه الحاجات كلّها بما أسماه ليفي-لوبلوند إعادة العلوم إلى الثقافة (La mise en culture des sciences). إلا أنَّ إعادة سمكة العلم إلى ماء الثقافة لا تعني إعادة العلوم إلى واجهة الاهتمامات العامَّة وهي الوظيفة التي تتنكَّبها كوكبة من الاختصاصات في العالم الغربيِّ تعرف عادة تحت مسمّى public understanding of science والتي تفترض أن أزمة العلوم متأتِّية من سوء فهم المجتمع لها حصراً. بل يُطلب من إعادة العلم إلى الثقافة أن تنهي حالة التصومع والصمم الإبستمولوجيَّين التي يعيش ضمنها العالِم المعاصر. تحتاج العلوم إلى أن تتمرّى على غيريَّة نقديَّة، وهذه الوظيفة هي تحديداً وظيفة العلوم الإنسانيَّة. فهي القادرة على أن تبيِّن للباحثين أنَّ موضوعاتهم العلميَّة وليدة بناء تاريخي، وأنَّ ممارساتهم العلميَّة تحمل أثر انتماءاتهم الاجتماعيَّة، وأنَّ هناك عالماً ذا معنى خارج جدران المختبر، وأنَّ معرفة هذا العالَم الذي يفوق العوالم التي يدرسونها تعقيداً وإثارة ليست بالسذاجة التي يعتقدونها، وأنَّ أسئلتهم العلميَّة ذات البداهة الظاهرة تعجُّ بالإشكاليّات الفلسفية. فما يعيبونه على العلوم الإنسانيَّة، وتعيبه هذه الأخيرة على ذاتها، في دوّامة كره الذات التي أورثتناها العلمويَّة، يشبه من يرى القذى في عين العلوم الإنسانيَّة ولا يرى الخشبة في عينه.
ويوسع ليفي-لوبلوند مروحة الغيريات النقديَّة التي ينبغي أن يتعرَّض الباحث العلميُّ لصدماتها، إلى أبعد من العلوم الإنسانيَّة، إلى الأدب والفنون. والحال، لا يعود العالِم نفسه بعد قراءة الفصل الثالث من «ويليام شكسبير» لفيكتور هوغو وهو بعنوان «الفن والعلم» والذي يتناول موضوعات تقع في صلب الإبستمولوجيا المعاصرة وكثير من أفكار فييرابند ودوهيم وبوبر. أو رواية فلوبير غير المكتملة Bouvard et Pécuchet، عن البلادة الملازمة للروح العلميَّة التي لا تستطيع التقدُّم من دون «طمَّيشات»، أو مسرحية برشت الأخيرة «حياة غاليلي» وسواها.

خاتمة
يحتاج العلم أن يلعب الشطرنج مع آخر. من شأن ذلك أن يمنعه من أن يتوطم نفسه ويتأسطر ويتحوَّل إلى قناع عقلانيّ لانهزام العقل. من الضروريِّ، لذلك، أن تثمِّن الفلسفة موقعها كبرانيَّة ضروريَّة للعلوم، وأن تخرج العلوم الإنسانيَّة من دوّامة كره الذات وتسوُّل علميَّة استعراضيَّة تتراوح بين السذاجة الابستمولوجيَّة والتعنُّت الأيديولوجيّ. فمن أفضل منها موقعاً ليعرف أنَّ الرقم في ذاته ليس ضمانة منهجيَّة، بل قد يكون الشكل الحديث للتفاهة. تريد أن تكون في صلب العمليَّة العلميَّة، ووظيفتها أن تكون على هوامشها، شرط أن تذكر ما قاله يوماً غودارد جواباً على من اتهمه بالبقاء في الهوامش: «إنَّما تُمسَك الصفحات من هوامشها».
وبعد، هل من موقع لنا، نحن العرب، في ورشة علاج العلوم؟ لا أظن أنَّ في مستطاعنا، في حدود وضعيتنا الثقافية الحاليَّة، أكثر من أن نعدَّ طريق العلم ونجعل سبله مستقيمة، تماماً كما فعل النهضويُّون، قبلنا بما يناهز القرنين. نحن ما زلنا هناك ما لم نكن قد تراجعنا، ولا فائدة ولا معنى من نقد العلم، ونقد نقد العلم، حيث لا مكان للعلم بعد. بل قد يكون نقد العلم هنا مضراً وخطيرّاً، لأنَّ النقد (فكيف بنقد النقد؟) كالخمر، لا يجوز أن يؤخذ على معدة فارغة.
* أكاديمية لبنانية