لطالما ظلّ موضوع المثلية في فلسطين مهمّشاً ومتروكاً عرضة لواقع اجتماعي يرفض المختلف، ولاحتلال يستغلّ ويبتزّ هذه الشريحة التي لطالما وجدت نفسها محاصرة بخيارات ساحقة محدودة، تمثلت في الخضوع للمجتمع الذي ظل رهيناً للاستعمار ومخلفاته، وغابت عن مؤسساته أسئلة الحريات وحقوق الإنسان، أو بالارتماء في حضن المستعمر (منذ أسابيع قليلة صدمنا بحادثة طعن فتى فلسطيني مثلي في تل أبيب من قِبل أخويه)، أو بالهرب والهجرة من كل المنطقة، ويبقى الخيار الأخير هو الأصعب لدى الفلسطينيين، وخصوصاً في المدن المحتلة عام 67 أو في غزة، نظراً إلى وثائق السفر التي يحملونها. عرف الاحتلال منذ سنوات طويلة كيف يلعب بورقة المثليين الفلسطينيين، على أكثر من صعيد، منها المحلي والسياسي والثقافي. على الصعيد المحلي، كثيراً ما سمعنا عن قصص مثليين استهدفهم الاحتلال بمخابراته وأجهزته الأمنية المختلفة لإجبارهم على التعاون معه. وللأسف، فإنّ جزءاً كبيراً من هذه القصص لم توثق بعد، وسياسياً ظلت الورقة رابحة لتلميع صورة الاحتلال، وبالتالي تشويه صورة الفلسطيني من خلال «الغسيل الوردي» الذي مارسه الاحتلال من جهة، والتسويق لـ«إسرائيل واحة الحريات والديمقراطية» في المحيط «الهمجي المتخلف» كما جاء أكثر من مرة على لسان رئيس وزراء الاحتلال.
وبما أن الآلة الثقافية الإسرائيلية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بتلك السياسية رسمياً وشعبياً، وبما أن السينما هي الوسيط الفني الأكثر تأثيراً وانتشاراً؛ تعثرنا في السنوات الأخيرة بالعديد من الأفلام الإسرائيلية التي تصوّر «عذابات فلسطينيين مثليين في بيئتهم القامعة الذكورية الموبوءة» وقصص «الحب الممنوع» و«الهوموفوبيا الفلسطينية» المرتبطة دائماً بالخلاص الإسرائيلي. ظلت هذه الأفلام تطوف المهرجانات العالمية ورأينا ملصقاتها موسومة بشعار وزارة ثقافة الاحتلال على باصات النقل العام والمساحات الإعلانية في المترو والشوارع والأماكن العامة في العديد من المدن الأوروبية.
هذه بعض الأسباب التي أوجَدَت مؤسسة «القوس» الفلسطينية، التي تقدم الدعم للمثليات والمثليين، وثنائيي الميول الجنسيّة، ومتحوّلي النوع الاجتماعيّ في فلسطين التاريخية، وقد تعرضت منذ أيام إلى حملة تشويه وتحريض مخيفة من قبل شرطة السلطة الفلسطينية، على خلفية إقامة نشاط لها في مدينة نابلس.
الشرطة العاجزة التي تختبئ عند أول ظهور لعربة عسكرية إسرائيلية (نقول ذلك بحزن وأسى)، والتي هي امتداد لسلطة ممعنة في الإخفاق والانحدار وإضاعة الحقوق الفلسطينية منذ أكثر من ربع قرن، كانت قد أصدرت بياناً بأنها «ستمنع أيّ نشاط لتجمّع المثليين الجنسيين» متهمة «القوس» بـ «جهات مشبوهة تحاول خلق الفتنة والمساس بالسلم الأهلي للمجتمع الفلسطيني»، متوعدةً بالملاحقة والقبض على المنظمين. وطبعاً لم يغفل البيان استخدام الأسطوانة المشروخة نفسها التي نسمعها كل مرة عند الحديث عن أي موضوع يتعلق بالحريات في البلدان العربية بأن «مثل هذه النشاطات تعتبر ضرباً ومساساً في المثل والقيم العليا للمجتمع الفلسطيني». الأنكى من كل ذلك أنّ بيان الشرطة تضمن تحريضاً مباشراً، لا بل دعا المواطنين إلى التحول إلى مخبرين «للتواصل مع الشرطة والإبلاغ عن أي شخص له علاقة بهذا التجمع» مع «ضمان سرية المعلومات التي سيقدمها للشرطة»! بيان من هذا النوع وجد وشجع كمّاً كبيراً من رواد مواقع التواصل الاجتماعي الذين انهالوا بالتهديدات بالقتل والضرب والحرق وبالتعليقات الساخرة والمهينة لمؤسسة «القوس» ولكل المثليات والمثليين والمتضامنين معهم. لم تتأخر وسائل الإعلام الإسرائيلية عن تناقل الخبر، الذي انهالت عليه أيضاً تعليقات تكشف عن مشاعر التشفي والكره والسخرية من كل ما هو فلسطيني أو عربي، وطبعاً لم يغب الخبر عن العديد من وسائل الإعلام الغربية.
لم يتأخر الإعلام الإسرائيلي عن تناقل الخبر، الذي انهالت عليه تعليقات تكشف عن مشاعر التشفي والكره والسخرية من كل ما هو فلسطيني أو عربي


«القوس» نشرت بياناً أكدت فيه مواصلة عملها في كافة المناطق الفلسطينية، ووسعت ساعات «خط الإصغاء» الذي تتلقى من خلاله الاتصالات، ونشرت تعليمات وإجراءات أمان لكل من يتعرّض لتهديد أو مضايقة.
ردود الفعل العنيفة والرافضة لكل ما هو مختلف في المجتمع الفلسطيني ــــ حاله كحال المجتمعات العربية ــــ لم تأت من فراغ، بل من مجتمعات ما زالت ترزح تحت تركة الاستعمار، أولاً من ناحية عملية تتمثل بأن معظم الدساتير العربية هي دساتير وضعتها الكولونيالية البريطانية والفرنسية أثناء فترة الاستعمار والتي إما جرَّمت المثلية، أو تركتها محاطة بهالة من التعتيم القانوني الذي يتيح التجريم من خلال قوانين أخرى متعددة، ومن ناحية أخرى متمثلة باستعمار الوعي الذي تجاهل وغيَّب مواضيع الحريات والجنسانية. كل ذلك وجد دعماً كبيراً تمثّل في المد الفكري والديني المتشدد الذي جاء إلى المنطقة مع ثورة النفط وأموال دولها التي مارست نفوذاً وتأثيراً كبيراً على معظم البلدان العربية. من ضمن هذه التأثيرات كان التغييب الكبير لكل المواضيع المتعلقة بالانفتاح والحقوق الفردية، إلى درجة جعلت مجرد فكرة تدريس الثقافة الجنسية في المدارس ضرباً من الخيال.
«القوس» التي تعد واحدة من أبرز المؤسسات الفلسطينية، استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تخلق تغييراً في ما يتعلق بفهم وتقبل الشريحة المثلية في المجتمع الفلسطيني، وقدمت الدعم والملاذ للكثير من الأفراد، هي واحدة من أبرز المؤسسات الفلسطينية ذات الخطاب الواضح والصريح المتعلق بمناهضة الاستعمار وفضحه، وفلسطين لديها هي تلك التاريخية، لا فلسطين «أوسلو» و«السلطة»، وهي واحدة من أبرز المؤسسات التي تسبب صداعاً للمحتل داخل فلسطين وخارجها.
النضال ضد الاحتلال الذي حرمنا من حقوقنا وأرضنا، لا يمكن أن ينفصل بأي شكل من الأشكال عن النضال من أجل نيل الحريات العامة والحقوق الفردية والمساواة، ولا ينفصل عن الرفض القاطع لكل الأنظمة الأبوية والوصاية على الخيارات الفكرية أو الاتجاهات الجنسية والجندرية.
الهجوم على المثليين ومناصريهم في الأيام الماضية، صبّ في صالح الاحتلال الذي لا شك في أنه تلقاه بفرح غامر، وأكد على عجز سلطة عن توفير أدنى الحقوق لشعبها، وكرس حالة من التهميش والخوف والقلق التي يعيشها أصحاب الهويات الجنسية المختلفة، وشوّش على صورة فلسطين، تلك التي لطالما حلُمنا بها: أرض حرة من الاستعمار ومخلفاته، تستوعب اختلافات أهلها وكل من انتمى إليها.