لندن | ليست كلير دوني، مخرجة اعتياديّة. هي معروفة بأعمالها الجدليّة في السينما الفرنسيّة التي كثيراً ما ينقسم النقاد بشأنها من دون حلول وسطى نظراً إلى طبيعتها التجريبيّة التي دائماً تتحدى الأنساق التقليديّة للعمل السينمائي. هي فوق ذلك، في حضورها الشخصيّ ومقابلاتها الصحافيّة شديدة المباشرة والصراحة تسميّ الأشياء بمسمياتها إلى درجة البذاءة، تماماً كما يليق بالمخرجين الفرنسيين. منذ بعض الوقت، تحاول دوني اقتحام ساحة السينما الأميركيّة، وقد عملت لذلك ضمن فريق إنتاج مؤلف من مخرجين أميركيين، كي تتعمق في أساليب العمل على الجانب الآخر من المحيط الأطلسيّ قبل أن تسنح لها الفرصة أخيراً لتخرج باكورة أعمالها باللغة الإنكليزية (هاي لايف ـــ 2018 ـــــ 110 دقائق). متابعو دوني، وحتى الجمهور الذي لم يسمع بها مسبقاً، توقّع كثيراً من هذا الفيلم الذي يجمع تجربة السينما الأوروبيّة المتحررة فكرياً مع طاقات الإنتاج الماديّ الهائلة في السينما الأميركيّة، وممثلين لهم حضور شخصيّ مشحون بالوعود من طراز روبرت باتنسون وجولييت بينوش. ربما جرعة منعشة من الغراميّات الحميمة التي تعيد ألق مشاهد الحبّ التي قتلتها سينما هوليوود أو كادت، أو قراءة انطباعيّة متفلسفة لموضوع خيال علميّ تكرر طرحه في أعمال أميركيّة سابقة كثيرة ولم يصل مرّة واحدة إلى منتهاه (الفيلم يحكي قصة طاقم من البشر على متن سفينة فضائيّة تائهة)، أو على الأقل تقديم رؤية كاميرا واقعيّة تدرس وتفكك تفاصيل محاكاة مستقبل رحلة التيه البشري على متن كوكبنا المعلّق في الفضاء بحثاً عن قدر محتم سيأتي في وقت ما. لكن النتيجة كانت مخيّبة للآمال بكافة المقاييس: إذ أن دوني في «هاي لايف»، قصّت أجنحتها بنفسها، وتخلّت عن هويتها الفنيّة الأوروبيّة لتلتزم دليل العمل ذاته المتّبع في هوليوود بكل قواعده المكتوبة وغير المكتوبة... لينتهي شريطها كفيلم أميركيّ باهت آخر، بلا مضمون ولا عمق ولا حتى صورة خلابة تؤهّله لينافس بجدارة على جوائز أسوأ أفلام الموسم.


ورغم محاولات بعض النقّاد غير المحترفين منح «هاي لايف» سحراً ليس فيه، فإن الأعداد القياسيّة المتزايدة من روّاد السينما الذين سجل خروجهم مبكراً أثناء عرضه في الصّالات تعطي صورة أصدق عن فداحة ما أقدمت عليه دوني. يحكي الفيلم قصّة طاقم سفينة تبحر في الفضاء، بحثاً عن ثقب أسود اختيروا من رواد السجون المحكومين بالإعدام أو المؤبد ليكونوا كما فئران تجارب على متن رحلة لا أمل في عودتها يوماً إلى كوكبها الأم. وتلعب جولييت بينوش دور عالمة مجنونة تجري أبحاثاً مخبريّة لإنتاج الأطفال من خلال تلقيح بويضات تأخذها من إناث الطاقم بحيوانات منويّة تستخلصها من الرجال يومياً كأنهم ثيران مزارع. ولكي يلتزم الجميع بتقديم مساهماتهم تلك، فإن السفينة ستتوقف كليّة عن العمل إذا لم يتم إيداع تقرير يومي عن مجمل النشاطات فيها كل 24 ساعة. ولكي يمكن للطاقم الاستمرار في هذه الدورة من الخصوبة الإجباريّة، فإن السفينة تحتوي على ما سمي بـ «صندوق النكاح» (The Fuckbox) وهو غرفة مظلمة فيها معدات ميكانيكيّة تساعد في عمليّة الاستمناء، ثم تغسل ذاتها تلقائيّاً فور خروج المستخدم أو المستخدمة. روبرت باتنسون - الذي يلعب دور قائد السفينة - وحده لا يخضع لهذا الروتين ويفضّل الاحتفاظ بسوائله لنفسه. هذا التبتل يثير شهوة العالمة المجنونة التي يصبح همها الأوحد أن تنجب منه. وهي لذلك تلجأ عند تمنعه إلى غزو غرفته ليلاً للحصول على سائله المنوي. ندرك لاحقاً أنه استخدم في تخليق الطفلة الوحيدة التي تبقى على قيد الحياة مع أبيها البيولوجيّ بعدما فني جميع الطاقم بسبب فيروس غامض.
الجنس في «هاي لايف» ـ ورغم مركزيته في إطار القصة ــ يأتي حزيناً وميكانيكيّاً ومثيراً للرّثاء ليس فقط بالنسبة للممثلين، بل كذلك للمشاهدين الذين لا يحصلون على مشاهد غراميّة صريحة أو ايروتيكيّة بمعنى الكلمة، ويُكتفى معظم الوقت بإيحاءات مبسترة لا تقنع أحداً، لا سيّما في زمن الإنترنت حيث أفلام ومقاطع البورنو متوافرة بكثافة للجميع وعبر مختلف المنصات التقنيّة. في الوقت عينه، لا تبخل دوني في تقديم جرأة زائدة في تصوير سوائل الجسم المختلفة (خذ مثلاً بطلة الفيلم تجري حاملة بيديها دفقة من منيّ البطل كي تستخدمها لتلقيح نفسها لاحقاً في المختبر).
دوني التي اعترفت للصحافة بتعمدها ستر فيلمها عن المشاهد العارية، ها هي تلتحق بموجة الطهرانيّة المتأخرة التي عمّت السينما الأميركيّة في السنوات الأخيرة. طهرانية تأتي كنتيجة طبيعيّة لسعي هذه السينما المحموم إلى تعظيم الرّبح عبر تجنّب طرح موضوعات جدليّة أو مشاهد عريّ قد تتسبب في تصنيف الفيلم للبالغين فقط. تصنيف يكفل فشل الفيلم تجارياً في أغلب الأحيان، إذ إن قاعدة الجمهور المستهدف عندها تتضاءل بشدّة. وبالطبع ليس الأمر متعلقاً هنا بنوازع أخلاقيّة أو فلسفيّة بقدر ما هو توافق غير معلن بين شركات الإنتاج الكبرى الخمس التي تسيطر على حصة الأسد من الإنتاج السينمائي الأميركي، على إنتاج أعمال كبرى، طفوليّة الطابع وساذجة الطرح.
ليس الأمر متعلقاً بنوازع أخلاقيّة أو فلسفيّة بقدر ما هو توافق غير معلن بين شركات الإنتاج الكبرى

أعمال مرفقة بخدع تصوير مبهر مع محتوى شبه مسيّس وحكم مستعارة يتم تعقيمها وعزلها لتتوافق مع ثقافة النخبة السياسية الأميركية ورؤيتها إلى العالم من دون امتلاك القدرة على تقديم نقد متكامل لتجربة المنظومة الرأسمالية المتوحشة التي تفتك بحياة الشعب الأميركي كما بقيّة شعوب العالم. بالطبع، ما زالت صناعة البورنو تتضخم سنوياً في الولايات المتحدة، كما أنّ هناك قطاع سينما المثليين الأكثر مباشرة وحميميّة في تقديم العري، لكنّ تلك الأعمال تكتفي بمخاطبة قاعدة من جمهور متخصص، ولا تستهدف أن تصل إلى موقع فيلم الموسم الذي يستهدف دائماً القاعدة الأوسع من المستهلكين، مصدر ثراء الشركات الأساس. واللطيف أن تقديم مثل تلك الأعمال الباهتة لا يتسبب عادة في إقصاء المخرج المعنيّ عن ساحة الإنتاج، إذ لا يلبث أحدهم أن يمنح له عقداً لإنتاج فيلم جديد لا يطرح أسئلة ولا يقترح إجابات، بينما يتولى جيش من المروجين مدّعي النقد الترويج له وتقديم قراءات سياسيّة متخليّة عن طروحاته.
«هاي لايف» لا يقع في فخ هذه اللعبة التجاريّة الأميركية فحسب، إنما يفشل أيضاً في تقديم مناخ وأجواء تصوير يمكن أن تغني عن المضمون، ليأتي تصميم المركبة الفضائيّة ذاتها شاحباً وأقرب إلى أجواء السينما السوفياتيّة في السبعينيات، مع أخطاء تنفيذيّة كثيرة تعاكس المعارف العلميّة الحاليّة. لكن الأدهى من كل ذلك أن شريطاً بقصّة واعدة بالطروحات الفلسفيّة الممكنة، انتهى إلى صوم تام عن تقديم أيّ قراءات أو طرح أسئلة أو حتى إبلاغنا بماذا تريد دوني منا بالتحديد، بينما تداخلت فيه مسارات الأحداث على نحو يسبب الشدّ العصبيّ أحياناً ومن دون داع درامي مقنع سوى اصطناع بصمة «دوني» دائريّة الطابع كما في أفلامها الفرنسيّة الأخيرة. الاستثناء الإيجابي الوحيد في كل الشريط هو الأداء الرائع للطفلة الرضيعة التي لعبت دور ابنة قائد السفينة، لكنّها لم تكن بمكان إنقاذ الفيلم كلّه وحدها.
في «هاي لايف»، خسرت دوني نفسها، ولم تكسب العالم.