«يا» هي إحدى أدوات النداء التي تستخدم لمناداة القريب والبعيد. وفي اللسان الشعبي، يستغيث بها المؤمنون لطلب العون من قوّة لا مرئية: من الله غالباً، ومن أوليائه وقدّيسيه ورسله وأئمّته. أكان تداولها قصداً أو بداهة، فإنّ قائلها لا ينتظِر تلقي أيّ إجابة منها. تقال فحسب. حين لا يُتبِع عادل عابدين (1973) هذه اللفظة باسمٍ للمنادى، فإنه يتقصّد ذلك. يتقصّد إرجاعها إلى أصلها الناقص مشيراً إلى غياب ما. اختار الفنان العراقي «يا» اسماً لمعرضه الفردي الأوّل في بيروت في «غاليري تانيت» (مار مخايل ــ بيروت). في غرفة صغيرة داخلها، نقرأ اللفظة بخطّ صغير نسبة إلى حجم الملصقات البيضاء التي طبعت عليها، والتي تصطفّ على لفافة كبيرة، تتيح لها الدوران إلى ما لا نهاية. قد تُقرأ هذه الـ «يا» سكوناً لفظيّاً للصمت الذي به يُقابل الدم. وهذه لن تكون إلّا قراءة خارجيّة في عمل عابدين، الذي يتلذّذ بإفراغ الأيديولوجيات وتقشير هالاتها، بوصفها مسارح هشّة لرايات المنتصرين في الحروب.

مشهد من فيديو cleansing (30'4 د ـــ 2018)

هنا في بيروت التي لا تستريح من الترهيب الماورائي، ولو كان قد صار لفظياً، يقدّم الفنان العراقي المقيم في فنلندا مجموعة من أحدث أعماله التي تتوزّع على الفيديو، والتجهيزات البصريّة التي يفكّك فيها الرموز السلطويّة في الذاكرة المحليّة العربية، من دون أن يتجنّب السياسات الغربيّة في المنطقة. ثمّة مفردات أساسيّة تمتلئ بها جيوب عابدين. يشتقّ لغته البصريّة من الأيقونات الفنية العالميّة مثل مايكل جاكسون، وسينما الخمسينيات في هوليوود، ومن مشاهد القتل في نشرات الأخبار وفيديوهات اليوتيوب، ومن أشهر اللوحات الفنيّة التاريخية. يوظّف هذه المرجعيّات البصريّة، ويبدّل مواقعها، ويلعب على تناقضاتها المباشرة أحياناً، ليستخرج الحاضر من الأحداث التاريخية، متنقلاً بين السياسي والديني، الفردي والنظامي، الاحتلالات الغربية والحروب الأهليّة الطائفيّة، وهويّات الشرق والغرب. استعان بمشاهد من فترة الاحتلال الأميركي للعراق للترويج لشركته الافتراضيّة ورحلاتها إلى بغداد في تجهيز فيديو «عابدين للرحلات» (2006). وفي «تستَّر» (2014)، طيّر عباءة رجل عربي أسمر كما تطاير فستان مارلين مونرو (في فيلم (The Seven Year Itch)، مبعثراً مفاهيم الجمال والجندر ومقاييسهما. في «ثلاث أغنيات حب» الذي شاهدناه ضمن معرض جماعي في «غاليري تانيت» قبل أعوام، يختبر أوجه السلطة ولغتها، ووقعها، ومعانيها. يجعل من الأناشيد العراقيّة الممجّدة لصدام حسين ونظامه، أغنيات عاطفيّة. «بعيد بينا صبر والعاصية تهون... لأجل عينيك تهون رقاب ورقاب» تردّدها الفتاة الشقراء، بغنج ودلال، كأنّها بهذه المفردات الدمويّة تحاول استمالة الرجال الجالسين إلى طاولات بجانبها، بأسلوب لا تبقى معه اللغة لغة، ولا الدم دماً، ولا الحب حباً.
في مقابلة له مع إحدى المجلّات، قال عابدين إن السخرية والهزء كانا ضروريين للتعبير والنقد في فترة حكم صدام، تجنّباً للتعبير عن آرائهم السياسية بوضوح، خوفاً مما قد يتبعها. بهذه الخفّة، يضع التجسيد الملموس للـ «يا»، في أحد أعمال المعرض بعنوان «معالجة المفهوم». يشتمل العمل على 12 لوحة بيضاء معلّقة على الجدران، بأحجام كبيرة. أمام غياب ما يفترض أن يكون بورتريهاً أو جسداً لأحد الأئمة الاثني عشر، سنرى أغراضاً ورموزاً تختصر قصصهم مثل الأسهم، ولحية، وجرح ينزّ دماً ووجه أسد. في هذا العمل، لجأ عابدين إلى الرسومات الفارسية الأيقونيّة للأئمة في الطائفة الشيعية، والتي تستند إليها الرسومات العراقيّة أيضاً. أثناء بحثه في هذه الرسومات التي تنتشر على جدران الشوارع والبيوت، وتباع كملصقات وتطبع على الأقمشة والأعلام، وجد الفنان تطابقاً بين وجوه الأئمّة في كلّ الرسمات. هذا ما جعله يتخلّى عن الوجه مقابل الأكسسوارات التفصيلية للتمييز بينهم. تفكيك تمثيلات هذه الهويّة البصريّة، ليس تشكيكاً بصحّتها، بقدر ما يبدو تلاعباً بحالات حضورها.

تجهيز «يا» (لفافة ورق على هيكل معدني ــ 2018)

تغييب نلمسه في جملة مصنوعة من النيون بحجم كبير: «جئنا لنقتل والدكِ». نقل عابدين العبارة من جملة هدّد بها بعض المقاتلين طفلة خلال الحرب الأهليّة في فنلندا عام 1918. لكن بتجاورها مع الصور الممحية للأئمّة، يصبح وقع الجملة مختلفاً، وآنياً في الوقت نفسه. من هو الأب هنا؟ ذلك الذي يقتل في الحروب؟ أو الذي من أجله يُقتل الناس في الحروب؟ ربّما ستعيدنا الإجابة إلى سبب إخفاء عابدين للوجوه، كأنه هو نفسه يسعى لأن يقتل أباً ما. داخل مكعب زجاجي في الصالة نفسها، ركنت بقايا اسمنتية من جدران مهدّمة في العراق، كانت قد رسمت عليها أيقونات وشعارات دينيّة في بعض الشوارع والأحياء التي أرفقت أسماؤها بكل حجر من الحجارة: الكرخ، الغيرية، الرصافة، الصدر... والآن، يبقى هذا الركام الاسمنتي، بنتف الصور العالقة عليه، كقطع بازل ذات رمزيّة مكثّفة تحمل تدميراً مزدوجاً: ليس سقوط الحجارة وحدها، بل تفسّخ صور الآباء معها. في غرفة أخرى، نقرأ جملة Politically Correct (صائب سياسيّاً) بنسخ متتالية مصنوعة من المعدن. جملة بعد جملة، تتبدّل ملامح الأحرف، التي تتقلّص إلى درجة التشويش التام. بصريّاً، يقدّم عابدين هذه العبارة على أنها أداة رقابة صلبة (المعدن)، لكنها ليست إلا مصطلحاً هلامياً، مجرّد لغو كلامي يتسع لكلّ المفاهيم ويرفضها بالطريقة نفسها وفق الأحداث السياسية والتاريخ. ما كان متداولاً في سنين ماضية مثلاً، بات يعدّ غير صائب سياسياً الآن فيما يمكن لما هو صائب سياسياً اليوم ألّا يصبح كذلك في المستقبل.
يشتقّ لغته البصرية من سينما الخمسينيات والثقافة الشعبية واللوحات الفنية ونشرات الأخبار


مقاربة عابدين للتاريخ ستظهر بوضوح في فيديو «مناديل التاريخ» الذي انطلق فيه من «التاريخ كمجموعة أكاذيب متّفق عليها» و«التاريخ يكتبه المنتصرون». لا تقدّم العبارتان أيّ جديد لفهم التاريخ. لكن عابدين يعطي المتفرّج حق اختيار الأحداث أو التخلّص منها بتهكّم مزعج. يقوم الشريط على مونتاج للقطات تتوالى بعبثية وتحاكي مشاهد الذاكرة المتفلّتة من أيّ تسلسل. تمرّ أمامنا مشاهد عنيفة لحروب وهراوات الشرطة، ومعتقلات، ولتماثيل متهاوية، ولهتلر... وكما يتمّ محو بعض الأحداث من التاريخ، يكسر عابدين هذا العنف الصافي ببعض التعليمات التهكمية التي يقدّمها صوت امرأة آلية باللغة الإنكليزيّة لكيفية تخلّص المتفرّج من الذكريات الثقيلة والصدمات: للتروما الشخصية يمكنكم المسح بشكل أفقي، وفي حالات العنف الجماعي يمكنكم المسح بشكل دائري. هناك يد بقفازة خضراء تطبّق هذه التعليمات بالمسح على الشاشة، كأنما لتذكّر المشاهد بأن لا يد له في تبديل الذاكرة والتخفيف من صدماتها لأنه ليس منتصراً. في فيديو cleansing، يصنع عابدين صورته من مشاهد ألفناها في السنوات الأخيرة. تنقسم الشاشة إلى طرفي صراع، بالاستناد إلى لوحة «غيرنيكا» لغويا. يصطف شابات وشبان شقر بثياب بيضاء ويصوّبون، تحت إشراف رجال من الشرطة، أنابيب المياه إلى أشخاص بأجساد مكسوّة بالوحل والألوان. وإن كان الماء هو الذي يتدفّق من الأنابيب وليس الرصاص، فإن ذلك لا يبعد وقع القتل. يصنع عابدين «غيرنيكا» معاصرة ومتحرّكة، لصراع بين رجال الشرطة البيض وأشخاص قد يكونون من اللاجئين، أو ممن يحملون جلوداً أو أفكاراً مغايرة، تسعى الأنظمة لسلخها وتطهيرها مثلما يسيل الوحل فوق كانفاس كبيرة، على مرأى من بعض الأشخاص الذين يقتربون ويبتعدون لتصوير المشهد بهواتفهم الذكيّة. بهذه المعركة المائية، يقدّم عابدين بذكاء تصوّراً مثالياً عن كيف يمكن للاستعارة أن تتفوّق على الحدث الحقيقي.

* «يا» لعادل عابدين: حتى 20 آذار (مارس) ـــ «غاليري تانيت» (مار مخايل ــ بيروت). للاستعلام: 01/562812