باريس | لم يبخل علينا التاريخ والأدب بقصص الحب المحظور. تعددت أسباب المنع والاستحالة من صراع بين القبائل والعائلات، إلى التباين الطبقي والاجتماعي أو القيود العرقية والدينية، فكانت الثنائيات الخالدة من قيس وليلى، وجميل بثينة، إلى روميو وجولييت، وليس آخرها الشاعر الفلسطيني محمود درويش وحبيبته اليهودية تامار المعروفة في أشعاره باسم ريتا. لعل القاسم المشترك بين هذه القصص هو السحر الخاص للممنوع من جهة، وأبطالها ــ من جهة ثانية ــ الذين كانوا جميعاً محكومين بإرث ضارب في الزمن، لم يستحضروه أو يشاركوا فيه، بل حلّ عليهم من دون دعوة، ملقياً بثقله على كاهلهم، تاركاً بَصمتَه في قصصهم ومخلداً ذكراهم. لم يمرّ لقاء الكاتب والمخرج المسرحي الكندي ــ اللبناني وجدي معوض (1968) بالمؤرخة اليهودية ناتالي زيمون دافيس من دون أن يترك علامة فارقة في مسيرة هذا المهاجر منذ سن الثامنة من شرقٍ ناء بجراحه. كان لقاؤهما العقدة الأولى التي انطلق منها معوض في إنجاز مسرحيته الجديدة «الكل عصافير» (Tous des oiseaux) التي شهدت نهايةُ العام آخر عروضها على «مسرح لاكولين الوطني» في باريس (يتولى معوض إدارته منذ خريف عام 2016)، لتنتقل بعدها في جولة بين مدن أوروبية عدة.
هذا العرض الممتد على ما يقارب أربع ساعات وأربعة فصول (ناطق بأربع لغات هي: الإنكليزية، الألمانية، العبرية والقليل من العربية) تناول أزمة التآثر الجدلي ــ كأن الأمر غير محسوم بعد ــ بين العالم العربي والسرطان المزروع في جسده والمتمثل في القومية الإسرائيلية، من خلال إسقاط هذه العلاقة بخطوطها العريضة على العلاقة بين أبطال العمل. اللافت أيضاً، أنّ العرض حظي بدعم وتمويل من القسم الثقافي في سفارة الاحتلال الإسرائيلي في فرنسا، وكذلك من «مسرح كاميري» في تل أبيب.
وجدي معوّض

يُفتتح العرض بلقاء عاصف لا يخلو من الكلاسيكية بين الشاب «إيتان» (الممثل جيريمي غاليانا)، وهو باحث علمي يهودي الأصل متخصص في علم الوراثة والجينات، و«وحيدة» (الممثلة سهيلة يعقوب)، شابة فائقة الجمال لأبوين عربيين، تنكبّ على كتابة أطروحة الدكتوراه عن الحسن بن محمد الوزان المعروف باسم «ليون الإفريقي». تلك الشخصية التاريخية التي كانت بدورها موضوع أبحاث ناتالي ريمون دافيس المؤرخة اليهودية وملهمة وجدي معوض. كان الوزان رحالة ومؤرخاً عربياً ومسلماً ولد في نهاية القرن الخامس عشر، واعتنق المسيحية ثمناً لحريته التي سُلبت عند اختطافه من قبل قراصنة، قبل تسليمه للبابا ليون العاشر.
شهدت إحدى المكتبات في «جامعة كولومبيا» في نيويورك حباً من النظرة الأولى وقوده التلاقي كما التباين بين شخصيتي «إيتان» و«وحيدة» وعالميهما. «إيتان» الوجودي الباحث عن تفسير علمي ومنطقي لكل شيء من دون أن يكون هناك مكان للصدفة في حياته التي ما هي إلا جملة من الإسقاطات لمروحة من العلوم من الوراثة إلى الميكانيك الكمي وما بينهما، و«وحيدة» المتمردة على القدر التي تعيش حالة من النكران لأصولها العربية منذ وفاة والديها، إذ إن تلك الهوية آخر ما بقي لها منهما. وبرغم انغماسها لأقصى الحدود في عملها البحثي، لا تخفي الشابة جانباً شديد التحرر من أعراف أبناء جلدتها وتقاليدهم، لتجاري بذلك أشدّ أيقونات الغرب تحرراً وانفتاحاً.
لا يدوم سحر الحب العاصف بينهما طويلاً، إذ سرعان ما يصطدم برفض من ناحية والدي «إيتان»: «دافيد» (الممثل رفايل وينستوك) و«نورا» (الممثلة جوديث روزمير) اليهوديان الألمانيان وجده «إيتغار» (الممثل رافايل تابور) الناجي من المحرقة. تنضوي تحت هذا الزلزال قصة عائلة شديدة الارتباط ظاهراً وشديدة التفكك باطناً... عائلة تقبع فوق تاريخ من الأزمات والموروثات والعصبيات، وقبل كل شيء، فوق أسرار دفينة.
«إيتان» الذي لا يشبه عائلته في شيء، قام ضمن ما قام به من أبحاث بتحاليل جينية، علّه يثبت بطلان بنوّته لهذين الأبوين، فإذا به يكتشف دونما احتمال للخطأ أن والده «دافيد» ليس الابن البيولوجي لجده «إيتغار». في رحلة للبحث عن أجوبة لأسئلته الكثيرة، يتوجه «إيتان» بصحبة وحيدة إلى الأرض المحتلة عله يجد شيئاً منها عند جدته لوالده «ليا» (الممثلة ليورا ريفلين) التي آثرت البقاء هناك بعد انفصالها عن جده «إيتغار» دونما اكتراث بمصير ابنها «دافيد» الذي رافق والده إلى برلين في عمر الخمسة عشر عاماً. ترفض الجدة «ليا» لقاء حفيدها. وبعدما فقد «إيتان» الأمل بالعثور على أجوبة، يعود أدراجه مع «وحيدة»، فإذا به يصاب في عملية فدائية قام بها الفلسطينيون على مقربة من الحافلة التي كانت تقلهما على جسر ألنبي فوق نهر الأردن، الذي يربط، بل يفصل، الضفة الغربية عن الأردن.
«وحيدة» التي لم يمنع عنها تماسك شخصيتها الوصول إلى شفير الانهيار لشدة وقع مصابها واحتمال فقدانها حبيبها، تحاول التواصل مع عائلة «إيتان» لإبلاغها، فلا تلاقي إلا حصة وافرة من التجريح والإهانات الفجّة. وعلى المقلب الآخر، لم تشفع لها جنسيتها الأميركية من التعرض للإذلال من قبل الضابطة الإسرائيلية «عدن» (الممثلة داريا شيزاف) التي لم تتمكن من تمالك نفسها أمام جمال «وحيدة» حين قامت بتفتيشها عارية. في إحدى نوبات الهستيريا التي أصابتها، تعترف «وحيدة» لـ «إيتان» بموقفها حيال أصولها العربية، والتحول الطارئ على سلوكها بعد وفاة والديها، لترمي بذاك الثقل، وربما العار بنظرها، عن كاهليها. تفضّل «وحيدة» باعترافها أن ُتنادى بالعاهرة على أن تُنعت بالعربية. رغم تماثل «إيتان» للشفاء، تقرر «وحيدة» الرحيل بعد إدراكها عظمة العوائق التي تحول دون حبهما. تقتنع بأن مكانها على الطرف الآخر من جدار الفصل العنصري، بين أولئك الذين لم يكفوا عن مناداتها: يا أختي... يا بنتي... أولئك يملكون جميعاً صوت والديها، ملامح والديها، ورائحة والديها.
مثقلاً بحزن الفراق، يتابع «إيتان» بحثه عن الأصل والهوية، بخاصة أن الحادث الذي أصابه كان مناسبة للقاء والمواجهة بين والديه وجده من جهة، وجدته من جهة أخرى بعد سنين طوال، فإذا به يدخل دوامةً تسحب به إلى قعرها. تتسارع وتيرة الأحداث في سلسلة من مشاهد المواجهة بين أفراد العائلة المتقوقعة على ذاتها ظاهراً، والواهية المتفككة واقعاً. فإذا بنا أمام اعتراف «إيتغار» الناجي من المحرقة بأنه بينما كان يقتحم منزلاً أخلاه أهله في إحدى القرى الفلسطينية خلال حرب عام 1967، سمع أنين رضيع ملفوف بكوفية فلسطينية أخفته والدته ربما في علبة في خزانة. لا تخفى على عين الناقد محاولة وجدي معوض التركيز على الجانب الإنساني لدى «إيتغار» حيال هذا الرضيع، إذ ما كان منه إلا أن نسي ما قدم لأجله، وحمله عائداً به إلى زوجته «ليا»، مانحاً إياه اسم «دافيد» أسوة بالملك. لم تتمكن «ليا» بكل ما تحمله من عصبيات من الميل إلى هذا الطفل ونسيان أصوله الفلسطينية من أبوين فلاحين، ففارقته وهو في عمر الخامسة عشرة في مشهد تزامن مع اغتيال بشير الجميّل عام 1982، وما أعقبه من مجزرة صبرا وشاتيلا والاحتقان الشديد في أوضاع المنطقة آنذاك.
رغم المشهدية المتقنة التي تمتع بها العرض على مدى أربع ساعات، والمؤثرات الصوتية التي خدمت النص والمشهدية، سواء لناحية الموسيقى المرافقة أو المقاطع المقتبسة من نشرات الأخبار (والمأخوذة عن وكالات عبرية فقط)، تغيب كلياً المادة البصرية وكذلك الترجمة عن العربية التي كان يجب أن ترافق المقطع الصوتي اليتيم لمجزرة صبرا وشاتيلا، والذي كان شبه مقتصر على الثواني القليلة التي ترنّ في آذاننا جميعاً لسيدة تصرخ: «وين العرب؟!! صوروا!!». لكن لا صور، ولا ترجمة للحاضرين من غير الناطقين بالعربية.
بالرغم من حسّ الفكاهة الذي حاولت الجدة «ليا» إضفاءه بين حين وآخر على الجو المشبع بثقل الأسرار والأحقاد، سواء من خلال سخريتها الذاتية على ظروف معيشتهم كمستوطنين بين العرب، وكرههم للغريب وكره الغريب لهم، أو من خلال التطرق إلى ما يعرف عن اليهود من البخل، إلا أن هذا لم يخفف من فجاجة رأي «دافيد» الذي كان يرى ضرورة إعادة العرب إلى الصحراء حيث «أصولهم». أتى وقع الخبر قاتلاً أن دافيد الابن البيولوجي لأبوين من أكثر قومية يكرهها، فدخل على إثر ذلك في حالة موت سريري. بعد أن يؤكد لهم الطبيب أن لا يقظة بعد هذا السبات، يخبرهم أن بإمكان «دافيد» إنقاذ حياة ثلاثة مرضى إن وافقت عائلته على التبرع بأعضائه... يا لسخرية القدر! لقد سُلب هذا الفلسطيني كل شيء منذ أيامه الأولى! سُلب أرضه وأهله وهويته وانتماؤه، وهو اليوم ستُسلب أعضاؤه لمصلحة من سلبه آنفاً كل شيء! لكن لعل «دافيد» في غيبوبته هذه لا يختلف كثيراً عن حال أفراد الأسرة التي ربته، إذ إنّ كلاً منهم يعيش حالة سبات في عالمه الخاص، في متاهة أوهامه وموروثاته ومخاوفه.
يقترح عليهم الطبيب أن يحدثوه بلغته الأم، علّ ذلك يساعده على الرحيل عن هذا العالم بسلام، لكن مهلاً، العبرية ليست لغته الأم! أحضِروا «وحيدة» لتحدثه بالعربية!
تأتي «وحيدة» بصحبة الحسن بن محمد الوزان (الممثل جلال الطويل) في مشهد سوريالي. تلقّنه الأحرف العربية وبعض الكلمات.. «دافيد» يفهم العربية جيداً، لكن، كما «وحيدة»، يعيش حالة من النكران تجاه أصوله وهويته، فيأبى أن يردّ إلا بالعبرية. يتلو عليه الوزان قبساً من كتابه «العصفور البرمائي»: «هأنذا، أنا العصفور البرمائي... أنا واحد منكم...» نعم، شاء أو أبى، «دافيد» واحد منهم، أولئك الذين يكره!
لعل هذه الكلمات لم تساعد «دافيد» على الرحيل بسلام، إلا أنها كانت محرك خطواته الأخيرة للاستقرار في مثواه الأخير. يعود «إيتان» وقد جلب حجراً من القرية التي دخلها جده يوماً فعثر فيها على والده ملفوفاً بكوفية فلسطينية، يضع ذاك الحجر على قبر والده. يختم «إيتان» العرض بصرخة وقودها يوتوبيا يغذيها الغضب: «أنا ابن شعبين متقاتلين. أقاتل، لكني لن أتخلص من حزني. لن أجد عزاءً لي».
تصوّر أن صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلاً أو حتى في القدس. ذلك لن يثقل فقط على القلب، ولكن على الوعي أيضاً (محمود درويش)


لا يمكن إنكار الطاقة التي تمتّع بها كل من «إيتان» و«وحيدة» على المسرح طوال أربع ساعات، إذ كانا يتحرّقان لإيصال مزيج من المشاعر والتناقضات إلى الحضور، ونجحا فعلاً في ذلك، فضلاً عن التمكّن الذي تمتع به بقية الممثلين وإتقانهم لغة المسرح وقوانينه، والتنقل الانسيابي لكل منهم بين لغتين على الأقل من اللغات الأربع للمسرحية، كذلك لا يمكن إنكار الحوار المُركّز الخالي من الحشو، رغم مدة العرض الطويلة نسبياً، والمشهدية الاحترافية بأبسط عناصرها وأدقها، إلا أنه كان من الحريّ على وجدي معوض المتحدر من أصول لبنانية أن يُسخّر ما امتلكه من عناصر قوة في النص والحبكة والأداء والإخراج، آخذاً الطرف الأكثر انسجاماً مع أصوله، مُنحّياً الحياد والموضوعية في قضية أَسودها وأبيضها بيّنان من دون لبس، وما مِن مكان للرمادي فيها، وألا يضيع فرصة كهذه أمام جمهور فرنسي بغالبه لإيصال ما لا يوصله له إعلامه الانتقائي المحكوم من قبل اللوبي الصهيوني.
طال تصفيق الحضور، ولكلّ أسبابه الخاصة في ذلك، فمنهم من وجد في العرض راحةً لضميره أو تأكيداً لمسَلّماته بأن اليهود هم المستضعفون في الأرض، «خلقوا ليتعذبوا»، وأن سلوكهم ما هو إلا استردادٌ لبعض ما سُلب منهم، والبعض ممن لا يعرف من السلام إلا زوجَي الحجل وجد ربما في هذا العمل دعوة للتعايش باسم الحب، متمسكاً بالصورة المؤنسنة للغاصب، وربما تلك المشيطنة للعرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً. لا مكان للنهايات المفتوحة أو الرسائل المبطنة التي تدغدغ اللاوعي في قضايا كهذه، ولا تشفع الرومانسية أو الحب الأفلاطوني لتاريخ من الجشع والعنصرية وسلب الحقوق، وما يثير القلق أكثر من أي شيء آخر، أن تقف النخب ممن تمتلك أبلغ الأدوات تأثيراً، في موضع المروِّج لهذا التطبيع الناعم، أسوة بالحرب الناعمة.
أنهت حرب 1967 قصة الحب بين محمود درويش وتامار، ولعله أفضل من وصف مآل التآثر الوجداني بينهما في حواره مع الشاعر اللبناني عباس بيضون عام 1995: «دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية من قبل. تصوّر أن صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلاً أو حتى في القدس. ذلك لن يثقل فقط على القلب، ولكن على الوعي أيضاً».