إنه القناص، صائد الظل، الرامي المحتجب أو «منتقم القبيلة» كما يسميه فواز طرابلسي في كتابه «دم الأخوين» (الريس ـــ ٢٠١٧)، إذ إن «للقبائل» دوماً «عادلون» وهم المنتقمون المتطوعون لغسل العار بالدم أو الرد على الثأر بالثأر... الخوف من الموت الذي يزرعه القناص، يمنحه سلطة استثنائية على عشرات الألوف من البشر. هنا يكون نشاط القناص التطبيق العملي لتفريد الجماعة بمعنيين: الجماعة ــ جماعته ــ تتجسد هنا بفرد يمارس العقاب باسمها، والجماعة المعادية تصير كثرة من الأفراد يجدر ـــ إن لم نقل يحلو ــــ قتلهم. طرح الشاعر الراحل أنسي الحاج في «خواتم» (آب/ أغسطس ٢٠١٣) على صفحات «الأخبار» سؤالاً مخيفاً: «مجرد التفكير في شخصية القناص ترعب. بعد نهاية الحرب، عدنا إلى بعض مألوفاتنا، ومنها المقاهي والمطاعم. فجأة، تنبهت إلى أن هذا الجمع الضاحك قد يكون بينه قناص. ما أدراني أن الذي سلمت عليه بالأمس لم يكن قناصاً؟ وهكذا مرت فترة صرت أتخيل كل مجهول يراد لي التعرف عليه قناصاً». أين أصبح ملوك أسطح البنايات في الحرب الأهلية اللبنانية؟ يمكن أن نلتقي بهم في السوبرماركت، أو أن يكون أحدهم اليوم في السبعين من عمره، يمسد شعر حفيده في قرية جبلية نائية. ليس أكيداً أن الميليشيات المتقاتلة احتفظت بصور وسجلات لقناصيها، وصورهم، وفئات دمهم، وعدّتهم وعتادهم. ومن الأكيد أن لا أحد يرغب اليوم في فتح جروح الماضي القريب والتاريخ. لعل المهمة موكولة للأدب وخاصة الرواية: أن يقف في صف الضحايا، يشرِّح تلك الحروب العبثية وأبطالها، وعلى رأسهم القناص، بعالمه النفسي ودوافع شهوة القتل لديه، وطقوسه بدءاً من اختياره لضحاياه، والتسلية بين قناصَين متقابلين، وطلب المؤونة بالرصاص من تاجر متواطئ، والسخرية منه من قبل مقاتلين يتعرون قبالته، الى مملكته على أسطح مدينة كانت منصة قبل الحرب لإطلاق الطيارات الورقية التي تجرح بأيديها الأيدي الطرية. إنها اليد البشرية: يد تطلق طائرة ورقية، ويد تضغط على الزناد، ويد تسحب امرأة مصابة من وسط الركام، ويد تكتب لنرصد ما كتب عن «منتقم القبيلة» ــ على قلّته ـ في الحرب الأهلية اللبنانية.
جبور الدويهي ـ «شريد المنازل» (دار النهار ٢٠١٠)
ظهر القناص فجأة في باب الشرفة، لم يسمعوا وقع خطاه، وقف مبتسماً بشيء من الحياء الخاص به، سأل عن دورة المياه.
سيأكل وسيدخل أيضاً إلى المرحاض!
لا بد أن هواء البحر في الخارج لفحه، فتحرك بطنه أو أنه شعر بالضجر وحده فاقترب من الضوء. أشاروا عليه في اتجاه الداخل، فعبر بينهم والبندقية مع منظارها الطويل، ثروته، بيده لا تفارقه. سكتوا تماماً فصاروا يتابعون كيف يحاول إغلاق باب الحمّام الصعب المراس وراءه، فلم ينجح تماماً لأنهم لم يسمعوا صوت المزلاج، سمعوا ارتطام أخمص البندقية بالأرض وهو يسندها على الأرجح في الزاوية خلف الباب كي يتمكن من قضاء حاجته. بقوا صامتين لافتراضهم أنه قادر على التقاط أقوالهم من حيث هو جالس. صارت تصِلهم أدنى الأصوات المنبئة بما يقوم به من أفعال متتالية أحرج بعضها شمعون رخّو، فغطى عليها برفع صوته سائلاً من يفضّل القهوة بسكر ومن يفضّلها مُرّة، ولو كان يعرف أذواق الموجودين. توّج عباس إقامته النسبية في الحمّام بضَربهِ سيفون الماء بقوة. طلب منهم عدم المؤاخذة على الإزعاج كما قال. توقّف هو أيضاً أمام صورة القديس جرجس التي اكتشفها أخيراً بالرغم من مروره المتكرر في محاذاتها.
نظر ملِياً إلى ركوة القهوة التي كانوا يتوزّعون منها على فناجينهم، تباطأ، لم يدعوه لمشاركتهم فخرج إلى الشرفة من جديد.

حنان الشيخ ـ «حكاية زهرة» (دار الآداب ــــ ١٩٨٠)
سامي الذي وضع في بطني هذا الجنين، هل هو الذي يضع في بطني كل هذا الألم؟ هل هو فقط قناص في البناية الحمراء، كما صرخت «القناص في البناية الحمرا»، وهل أخطأني عن قصد؟ وهل هو يتردد في قتلي، أم أني عندما ركضت إلى الرصيف الآخر أخطأني؟ لاحظت أني أحملق في الظلمة، أشعر بالمطر ينهمر فوق وجهي، فوقي، لم أعد أسمع الأصوات، بل أسمع وشوشة بين الحين والآخر، أو ربما لا أسمع شيئاً. الصراخ يؤلمني أكثر، يقتلع حبالي الصوتية المطمورة في قاع قلبي. هو يقتلني، يخطئ رأسي في المرة الأولى، وفي المرة الثانية، ويخطئ جنيني في المرة الثالثة. لم أعد أصرخ ولم أعد أمد يدي لأتحسس الدماء التي تسيل، بل بقيت ساكنة لا أسمع سوى المطر ينهمر فوق الكيس الأصفر الذي ظننت أنه منقذي إلى الأبد (...) بدأت أعتاد الألم المريع كما اعتدت الظلمة وأغلقت عيني للحظات ورأيت نجوم الألم.
«حاجز» لأيمن بعلبكي (أكريليك وقماش على كانفاس ـــ 200 × 150 سنتم ـــ 2009)

عدت فرأيت أقواس قزح في سماوات بيضاء. إنه يقتلني. قتلني بالرصاص الذي كان إلى جانبه وهو يضاجعني. قتلني والشرشف الأبيض حيث تمددت قبل وقت قصير لا يزال. هل قتلني لأنني حبلى أم لأني سألته إذا كان قناصاً؟ كأنّ أحداً يسحبني، هل أصرخ «دخيلكم». حاولت ولم أسمع صوتي، وعدت أغمض عينيّ، أم أني لم أفتحهما، عدت أرى أقواس قزح في سماوات بيضاء. قوساً تلو آخر، سماء تلو أخرى، أقواس قزح فاقعة، واضحة اللون، وسماوات بيضاء ناصعة البياض. المطر هل لا يزال؟ فأنا لم أعد أشعر به. إني أسمع صوتاً «يلا يا شباب»! هل هم ينقذونني الآن من الموت؟ أين أمي؟ هل هي في إحدى الغرف الدافئة؟ ليتني معها في البيت. لماذا أنا وحيدة في العتمة، وقد تحولت إلى خوف، وجسمي قد تحول إلى خوف إنما متقطع كتقطع عضلاته؟ لقد قتلني. من أجل هذا جعلني أنتظر الليل. ربما لم يستطع أن يمد يده إلى الزناد في وضح النهار ويرميني أرضاً. إنهم يسحبونني، أشعر بأن أحداً يسحبني، عدت أشعر بنقاط المطر، إني لا أزال في مكاني، كأني أسمعهم «هيدا القناص بعدو» كأنهم تركوني. عدت أغمض عينيّ، أم تراني لم أفتحهما قبلاً. وعدت أرى أقواس قزح في السماوات البيضاء تدنو مني بكثرة مخيفة.

ربيع جابر- «طيور الهوليداي إن» (دار التنوير ــــ ٢٠١١)
في منتصف حزيران، تسللنا إلى النبعة وجرح نقولا برجله. رصاصة تحت الركبة. سحبته ورجعنا، تمركزنا في نقطة هناك كنت أقدر منها أن أرى بالناظور أو من دونه، سطح بنايتنا في حي العبد. كانت مميزة. أولاً لأنها طويلة. وثانياً لأن حائط السطح مدهون بلون نيلي. غابت الشمس. نقلوا الجرحى وبقيت وحدي. راقبت الشبابيك على الطابق الفوقاني. معتمة. وبعضها مسدود. على شرفة السادس، رأيت لمبة مضادة. هذا إهمال. كان المفروض أن أقوّصها. اللمبات تجذب أنظار القناصين وتهدد حياة الأهالي. تركتها. شارل كان يطلب مفتاح السطح من أجل الطيّارة الورق. يصنعها من القصب. يشق القصبات طولياً بالنصف. يربطها متقاطعة. ثلاثة أضلاع ويلف عليها خيط الحرير ويبرم الخيط دائرة على محيط الأطراف. يحفر بالسكين آخر القصبة حتى يعلق الخيط. ثم نلصق على الهيكل ورقاً ملوناً. أحمر وبنفسجي وأزرق. كنا نأخذ الورق من وراء دكان الخضرجي. من كعب صناديق الدراق الفارغة، نلصقه على القصب والخيط بـ«غري» صمغ مثل صمغ النجارين، نعمله نحن (في علبة حلاوة) من طحين وماء. أهم شيء في طائرة الورق هندستها وتوازنها وذيلها الطويل. كنا نعقد كذا كبكوب خيطان حرير، ينتهي الأول ونعقد من طرفه الثاني ثم الثالث ثم الرابع، لأن الهواء يأخذها حتى البحر. أحياناً من شدة الريح في الطبقات العليا، يجرح الخيط يدك. إذا لم تفلته وتعطِ الطائرة مدى بسرعة، ترفعك من مكانك أو ينقطع الخيط ونراها تبتعد فوق الكرنتينا وتلال النفايات. جرح الحرير ليس بسيطاً، خصوصاً وأنت صغير واللحم في بطن اليد طري. قنصوا علينا من النبعة وأصابوا واحداً سودانياً أطول من النخلة كان يوزع علينا الشاي والسكَّر. سقط هو والصينية. تدحرج الإبريق وووقع الشاي على جزمتي. السائل والورق. تناثر السكّر على الأرض، الكؤوس الزجاجية لم تتكسر. لكن المسكين نزفت رقبته ومات قبل أن نسعفه. الكؤوس ذاتها تراها في كل مكان. في جميع البيوت والدشم. أقداح شاي برقبة في وسطها وحلقة ذهبية متقشرة أعلاها. دخنت سيجارة ونمت وأنا أتذكر المرحوم شارل وجلساتنا الليلية مع النمور على رصيف الريفولي في ساحة الشهداء، سأقول شيئاً قد يبدو غريباً لكم: كلما قُتَل واحد أمامي أشعر بأخي قاعداً جنبي يبتسم.

شارل شهوان ـ «حرب شوارع» (الريس ـــ ١٩٩١)
زعقت الفتاة وأشارت إلى موضع في الغصن تحركت فيه الأوراق. ثم شاهدنا معاً رأس صديقنا ستيف يطلع من بينها مبتسماً ماداً لنا لسانه. لم نتمالك نفسينا من الضحك. كان منظره طريفاً، وهو يطل كغلام عاهر قبّلناه من بعيد. كنا نفعل بشفاهنا حركات كالقبلات المحمومة ونبعثها إليه في الهواء. نهض هو ونفض عنه أوراق الشجر، ثم أشار إلينا بيده أن نصمت وألا نحدث أي صوت. كذلك أشار إلينا أن ننظر إليه ونفعل كما يفعل هو. رحنا نقلده، بينما شرع يخلع عنه ثيابه. القميص ثم البنطال ثم الملابس الداخلية، وحين أصبح عارياً تماماً، صرنا مثله عاريين. رحنا بعدها ننظر إلى أعضاء بعضنا الذابلة بفعل الحر، وبالتأكيد لم يكن للفتاة عضو مشابه لعضوينا أنا وستيف، لكن حلمتَي نهديها بدتا منتصبتين وحمراوين كأنهما ملتهبتان. أدنيت فمي وداعبت بلساني إحدى الحلمتين. لكني أحببت طعمها، فتابعت أمتصّ حتى ضربتني بيدها على رأسي.
قنصوا علينا من النبعة وأصابوا واحداً سودانياً أطول من النخلة كان يوزع علينا الشاي والسكَّر

عدنا ونظرنا إلى ستيف. اشار إلينا وفهمنا أنّنا سنطلع فجأة نحن الثلاثة عراة قبالة المسلحين في الأسفل، ونعرض لهم مؤخراتنا ثم ننبطح أرضاً ونعود زاحفين. كانت فكرته في منتهى الروعة. انتظرنا بضع دقائق، ثم أومأ إلينا بيده أن ننطلق معه. انبرينا أمامهم بغتة ودفعة واحدة، وأطلقنا باتجاههم بهاء مؤخراتنا وارتمينا بعدها على الأرض بجنون. طار صوابهم. كنا نسمع أصوات شتائمهم أكثر ارتفاعاً من قوافل الطلقات التي أمطرونا بها (...) حين وصلنا، شرعنا نرتدي ثيابنا من جديد، ونحن في أقصى حالات الحبور. قررنا بعدها أن نغادر، وكان علينا أن ننتظر ستيف حتى يعبر من الجانب الآخر. حين انتهى من ارتداء ملابسه وحمل سلاحه، طفق يعدو نحونا والرصاص يلتاع حوله من الأسفل. وفجأة قبل أن يصل بخطوة أو ثلاث، رأيناه يتعثر ويسقط أمامنا. قفزنا في الحال وحملناه. كان قميصه ملطخاً بالدم.

أحمد علي الزين ـــ «العرّافة» (دار الساقي ـــ ٢٠١٧)
هناك رجل آخر سبعيني، يتلصص من خلف شجرة، يظهر ويختفي، يمد رأسه ثم يخفيه مسرعاً كأنه يخطط للفرار. قالوا لي إنه كان مقاتلاً في الحرب الأهلية، كان قناصاً على خطوط التماس، اصطاد حسب اعترافه ألفاً ومئتي كائن، من بشر وقطط وكلاب داشرة كانت تملأ المدينة المهجورة، وقد رسم على جدران المبنى الذي كان يقنص منه خانات بوّب فيها أصناف الضحايا التي كان يقتلها، رسمها بأحجام صغيرة كرسومات الأطفال، فجعل خانة للرجال وأخرى للنساء وخانة للقطط وأخرى للكلاب، وخانة للطيور التي يبدو عددها أقل بكثير من الناس، وخانة للأطفال رسم فيها طفلين. التاريخ 8/7/76 و9/10/77، وجعل خانة للمفرقات رسم فيها وحشاً غريب الشكل، ربما ضبعاً، وجعل خانة أخرى للملاحظات، دوّن فيها صفات الضحية وملابسها وعمرها التقريبي، وكيف أطلق عليها النار، وكيف هوت، وكم بقيت من الوقت، وكيف سُحبت بالحبال التي في أطرافها خطّاف يشبه تلك التي في أجساد القراصنة، لكنه مصنوع من الخشب، كي لا يحدث جروحاً أو أضراراً إضافية في الأجساد التي كان يرمى باتجاهها لسحبها. (...) حصلتُ على بعض الصحف التي تناولت الخبر، ومع صورة لبعض صفحات دفتره، كتب عليها بخط غير سوي هذه التفاصيل في وصف عملية القنص:
«شفت خيالو سابقو نطرت ما بَيّن، اختفى الخيال، قطة سوداء ١، كلب سلوقي أبيض مرقط ١، رجل زمط (أي لم يصبه إصابة قاتلة)، صبتو بكتفو واختفى خلف سينما الريفولي أخو الشليتة حظو بيفلق الصخر. تسليت بتمثال الشهداء حاولت توسيع الثقب اللي بالكتف بست طلقات من دون منظار (...)» لكن وصفه في الصفحة الثالثة للحشاش فريد، يصلح لكوميديا سوداء. كان فريد يتقصد الجلوس في مرمى النار، يأتي بكرسي ويجلس ويلف سيجارته، ويضع شريطاً في آلة التسجيل لأغنيات أحمد عدوية. ثم حين يريد القناص التحدث إليه، يطلق عياراً قريباً من ساقيه، وهذه الطلقة عبارة عن رسالة مفادها: أنه يريد «المُونة». يشير له فريد أنها اليوم غير متوفرة. فيطلق طلقة ثانية بعيدة وهذه تعني أنه مقطوع، يشير فريد بيده بما يعني أن ينتظر. ينهض ويختفي قليلاً خلف الجدار، ثم يعود وبيده ورقة كتب عليها الرقم 150 يرفعها عالياً. فيطلق طلقتين في الهواء وهذا يعني الموافقة، وتتم الصفقة. كانت الأمور تتوتر بينهما أحياناً، فيهدده بطلقات بين رجليه. أصابه مرة في بطة رجله، وصار يشتم نفسه على هذا الخطأ. بعد تلك الحادثة، صار فريد يبتزّه بالسعر (...) لا أدري إذا بقي فريد على قيد الحياة، فهو لم يروِ كيف انتهت العلاقة. قال إنه صار يشتاق لفريد.

اسكندر نجار ـــ «مدرسة الحرب» (دار المسار ٢٠٠٢ـــ ترجمة بسام حجار)
قبالتنا الرينغ، جسر الموت، الممتد متعرجاً، إلى ما لا نهاية، بين العمران المخرمة الجدران. كان موسى يقلّني كل يوم سبت للقاء حبيبتي التي تقيم في الناحية المقابلة من خط التماس. يقود سيارة لا عمر لها، «بلايموث» بيضاء ذات واقيين منكَّلين، تشبه لضخامتها حاملة طائرات. هذه العربَة على نحو ما، مسكنه الثاني: فقد عني بفرشها، وحرص كل الحرص على انتقاء الزوائد التي تزينها. من المرآة الأمامية العاكسة، تتدلى سلسلة وقد ثُبِّت بطرفها حجر أزرق من شأنه، كما يقول، «أن يرد صيبة العين» (...) ومن الخارج عند قسطل العادم، علقت فردة حذاء طفل هو بحسب ما قاله موسى، بكر أولاده ويدعى رشيد. «بترد الأذى»، قال مؤكداً بصوته الجهير «صرامي الأولاد بتبعد الشر».
ـ أسرَع يا موسى، أسرَع!
يستقيم موسى في جلسته وراء المقود؛ يلتقط قنينة «جوني واكر» الملقاة على المقود لِصقه، يكرع جرعة كبيرة من الويسكي ثم يمسح فمه بظاهر يده، ويكز على أسنانه ضاغطاً بقدمه على دواسة البنزين. تنطلق البلايموث بأزيز هائل. تتزاحم الأفكار في رأسي، فعبور الجسر بسرعة ١٠٠ كلم/ الساعة يستغرق نحو اثنتي عشرة ثانية (...) ينطلق موسى بسيارته بأقصى سرعة باتجاه الطرف المقابل من الجسر، وليس يدري من سيقابلنا هناك، أهو الموت أم الحياة. ينطلق إلى الأمام بلا تردد، مثل القناص الذي يبقينا في خط مرماه. عبر النافذة المفتوحة إلى نصفها، يدلف الهواء صافعاً وجهي صافراً في أذنيّ، ويشعث شعري. إن كنت أشعر به، فهذا يعني أنني ما زلت حياً. أتقوقع في جلستي على المقعد وأغمض عينيّ. دويّ طلق ناري. يتطاير زجاج إحدى النافذتين الخلفيتين. يدلف الهواء بقوة إلى داخل السيارة ويبعثر نثار الزجاج. «إذا كنا نشعر به، فهذا يعني أنني ما زلت حياً». أعدّ: «ثماني ثوانٍ، سبع ثوان، ست ثوان قبل الخلاص».
(...)ـ الحمدالله عالسلامة!
يتلو موسى العبارة المألوفة.
ـ خلَص؟
بسذاجة أسأله إذا نجونا. يجيبني بهزة من رأسه. أجل.
(…) هيدي العناية الإلهية، أقول.
-ـ لأ، يجيب موسى، وهو يشير إلى فردة الحذاء البيضاء التي تترجح بجنب خزان العادم، «هيدي صرماية رشيد».