في تأملاته، حول العنف، يستغرب سلافوي جيجك دائماً، أن ما لا يكفّ أبداً عن مفاجأة الوعي الأخلاقي الساذج هو كون الأشخاص الذين يقترفون ممارسات عنف مخيفة ضدّ أعدائهم قادرين على إبداء العواطف الإنسانية الدافئة والاهتمام اللطيف تجاه أعضاء مجموعاتهم الخاصة، أو بترجمة لبنانية: جماعاتهم. وإن كانت الحرب الأهلية اللبنانية مستودعاً للعنف ومعرضاً له، فهذا لا يعني انتفاء العنف بعد ما يُفترض أنه نهاياتها. مآلات العنف ماثلة وحاضرة بيننا.تسكننا الحرب. تحت جلدنا وفوقه. تقريباً يتوجب على الجميع أن يتصالح مع وجود الحرب، من دون أن يتصالح مع الحرب نفسها أو مع سردياتها. الحرب التي تسكننا، حسب تعريف آنا آرندت، لا تقيم هناك بسبب وجود رغبة عميقة في القتل عند الجنس البشري، ولا بسبب غريزة عدوانية غير قابلة للقمع. وحسب آرندت، ليست بسبب مخاطر اقتصادية أو اجتماعية يسفر عنها نزع السلاح. وبعد أعوام على الحرب الأهلية اللبنانية، في تأريخها وفي محاولات الالتفاف عليها بالأعمال الفنية وخلافه، يتضح أن ما كان عنفاً في الحرب، لا يزال ماثلاً، بل ارتفع إلى مقامٍ أعلى، ورفع الحرب معه.
لعل أول هذه التمثيلات، هو الشهادة. والشهادة لا تحدث إلا في الحرب، وما زال تفكيكها ممنوعاً، عند أهلها على اختلاف مشاربهم. وإن كان برنار شوفييه لا يعتبر الشهيد متعصباً، بل هو الذي يستخدم عنف الآخر ضدّه، ويجعل الآخر أداةً لبرمجة تدميره الذاتي، فإن مسألة الشهادة التي تطورت في الحرب اللبنانية ليست بعيدة عن هذه القراءة. وحسب ما يخلص إليه أستاذ علم النفس المرضي، في جامعة ليون، فإن ثمة استراتيجية للشهادة، قوامها نقل العنف إلى الآخر. وهذه الاستراتيجية، مبدئياً، هي سلاح الأقليات، لأنها تؤدي دوراً في تعزيز حالة التعاطف معها. والأقليات، إذا أردنا تأويل نظرية شوفييه تأويلاً لبنانياً، لا تدل بالضرورة على الأقليات العددية، أو الديموغرافية، كما هو متعارف لبنانياً. فالأقليات هي الأضعف، وإن كان العامل العددي لعب دوراً في تحديد موازين قوى، من دون أن يؤدي ذلك دوراً مرجحاً لعنف أكثر، أو عنف أقل. وما هو مذهل فعلاً، في استنتاجات الباحث الفرنسي، أن التعبئة العاطفية والفعلية للشهود تدفع بالاحترام والمشاعر للمغلوب، ما يعزز اقتناع الجماعة بأن النصر هو للجماعة التي تضحّي بنفسها، وتالياً تضحي بأهلها. وفي المثال الأخير، يمكن مراجعة شريط «وهلأ لوين» للمخرجة اللبنانية نادين لبكي، الذي يفسّر بوضوح منابع عنف الجماعة، بوصف الأخيرة مقدّساً، طرأ العنف عليه، كما لو أن العنف ليس صنوه أصلاً. الطريف أن اللبنانيين تهافتوا على مشاهدة الشريط على نحوٍ غير مسبوق.
جزء واسع من الخطاب النقدي لظواهر الحرب، يقدّمها كإنجازات للجماعات


يحيل الحديث عن الشهادة، الحاضرة بيننا كإنجاز من إنجازات الحرب يتباهي به أصحابه، إلى إحدى لقطات سيوران: التعصب هو موت الحوار، لأن الحوار ليس ممكناً مع من يرشح نفسه للشهادة. يستوجب البحث عن أثر العنف الباقي، أو العنف الذي يتناسل، المرور بهدوء على تنويعات آنا آرندت عن العنف. في كتابها الشهير عن العنف، تميّز بين السُلطة والقوة والعنف، والمزج الخبيث بين جميع هذه المفاهيم. فالسلطة تعني قبول الضحايا باستقبال العنف. القوة، وهي حالة تفوق معلن، أو ما يمنع إنتاج العنف. العنف، بحاجة إلى أدوات: لحظة صراع على القوة، أو لحظة صراع حقيقي على السلطة. وإن كان العنف نائماً في حقبة ما بعد الحرب، فلأن القوة تأخذ مكانه كحالة ردعية، وكجزء من مشروع أوسع هو السُلطة. ويمكن الاستفاضة في تحديد مكامن العنف في المجتمع اللبناني، كالوجه الاجتماعي للعنف، الذي يتحدث عنه فواز طرابلسي في «دم الأخوين»، خلال استعراضه عملية نهب بيروت 1975 ــ 1976، إلا أن لعنف الحرب الأهلية بعداً أنتروبولوجياً أيضاً، يمكن الرجوع إلى كلود ليفي شتراوس، عندما يقول إن ثمة «نظرة بعيدة»، يجب أن يتخذها من يريد الانفصال عن الأيديولوجيا. عليه أن يضع مسافة زمنية ومكانية بينه وبينها، ونظراً إلى قرب الفرد الشديد منها، فإنه يتأثر بالمركزية لجماعته الثقافية التي ينتمي إليها. وهذا ما لم يحدث. على العكس تماماً: الدولة بشكلها الحاضر، ليست سبباً أساسياً للعنف، وإن كانت إحدى أدواته الحادة، بل أداته الرئيسة التي تملكها الطبقة الحاكمة. فهذه السلطة، ليست في الأداة نفسها، إنما في الدور الذي تلعبه الطبقة في عملية الإنتاج. السلطة لا تقبل أي تبرير، انطلاقاً من كونها لا تقبل أي فصل عن وجود الجماعات السياسية نفسه. ما تحتاج إليه السلطة هو المشروعية فقط. وما يعجز عنه اللبنانيون، مثلاً، هو التمييز بين الأداة والسلطة، فيدغمون بين الأمرين، ويصيرون ضحية عنف متواصل، هم أنفسهم يعيدون إنتاجه في انتمائهم إلى دوامة الجماعات التي تحرس أنماط الإنتاج، وتسنّن حربة الدولة كأداة العنف الأولى.
وإلى التمثيلين الأخيرين للعنف الباقي، يمكن الإشارة إلى آثار أخرى مقيمة في الحاضر، كاستجابة بديهية للحرب، كمصطلحات الحرب (التطهير، الحسم، إلخ)، ثم نسبها إلى الخارج، وصولاً إلى اختراع الغريب، وإعادة إنتاجه بصورة تلائم العنف القبلي، أكان ذلك في الأدبيات المستخدمة، أم في الأعمال الفنية والتأريخية التي تتطرق إلى الحرب. ما يرشح عن الحرب من عنف، سببه بالدرجة الأولى. ويمكن إعطاء مثل أكثر قرباً في الزمن. ومن المفيد الإشارة هنا، إلى إشارة سلافوي جيجك، لمحاولات أسطرة 11 أيلول، أو ترسيخ دلالات محددة للظاهرة، بترسيخ صورة واحدة مهيمنة. لقد عمل الأميركيون على تحويل لقطة 11 أيلول الشهيرة إلى أيقونة. تلك اللقطة التي يعرفها الجميع، وتعيد نفسها مراراً، ويتوجب على المشاهد أن يحفظها وأن يتعامل معها كلحظة حاسمة. وبما أنه بيننا وبين 11 أيلول مسافة، تتيح لنا ــ رغم كل شيء ــ أن نراقبه من بعيد، وطبعاً من تحت، لأن الطائرة تأتي من فوق دائماً في اللقطة الشهيرة، يجب أن ننتبه إلى الطبيعة الأسطورية والتخويفية للصورة في آن، وهذه هي وظيفة الصورة، التي تتجاوز الجريمة نفسها، وتأخذ مكانها في الذاكرة. وبمراجعة ألبوم الحرب الأهلية، الذي فيه صورة القناص وخط التماس والمعابر والمقنّعون، يتضح أن اللبنانيين ينظرون إليها على ذات القياس الذي يؤسطر حادثة البرجين الأميركيين: يحاولون الخوف من الصورة، لكن الصورة تبقى مبهرة. وحتى جزء واسع من الخطاب النقدي لظواهر الحرب الأهلية وإفرازاتها، يقدّم الحرب كإنجازات للجماعات ينبغي تطهيرها من الحرب، كأن هذه الإنجازات ليست سبب الحرب. أليس لافتاً أن معظم الأفلام السينمائية التي تناولت الحرب اللبنانية، تبحث بجهدٍ عن أشخاص عاديين، ولا تجدهم إلا كظلال لأبطال الحرب؟ وطبعاً تبسيط العنف مشابه، عندما يصير الجهد لتصوير اصطدام الطائرة بالمبنى العملاق، على أنه محاولة شريرة لإفساد الصباح في نيويورك، وبالمنهج نفسه، تصير الحرب الأهلية اللبنانية في صورتها الساذجة: حرب الآخرين، أو عنف الآخرين، الذين خربوا لبنان. وتتواتر هذه القصة الطريفة أحياناً في أدب الخاسرين (نظرية غسان تويني عن الحرب أو كتاب اليمين اللبناني عموماً) وكذلك في أدب المنسحبين (الكتّاب اليساريين المنسحبين من الصورة). ذلك لأن العنف الأهلي الذي نتحدث عنه هو عنف جماعاتي بامتياز، وقد أدت نظريات تسويد الخطر الخارجي إلى سوء فهم كبير. ذلك لأن الانسحاب من الجماعة يعني عملياً، الانسحاب من المستقبل، لاستحالة الانسحاب من الماضي. وطبعاً، لأن الحرب اللبنانية لم تقرأ هيغلياً بعد: الخطر الذي تسمّيه الجماعات خارجياً، وتعمل بإخلاص على صدّه، ليس إلا جوهرها نفسها، وهو متجذر في داخلها.