I ـــ المقدمة
أقولُ مكرراً، إنَّ النِظرةَ (بكَسْر النون)، الإيكولوجيَّة إلى التيَّاراتِ المعماريَّةِ الرئيسَةِ، التي سادَتْ خلال العقود الثلاثةِ الماضيةِ في بلدان المركزِ الرأسماليِّ المتقدِّمة، وفي بلدانِ الأطرافِ التَابِعة، تُظهرُ التيَّاراتِ المعماريَّةَ المُعولمةَ، وقد تبنَّت طروحاتٍ خاطئةً مدَّمرةً للإنسان، وللبيئة معاً.

فتعلُّق المعماريِّين المُعَوْلَمين اللَّجوُج راهناً، هو تعلقٌ بلغةٍ معماريةٍ، ترجِعُ بصُورِها إلى الحُلْمِ الصناعيّ والتكنولوجي الذي سادَ في بدايةِ القرنِ العشرين. وقد أنتجَ هذا التعلُّقُ الفجُّ، طُرزاً معماريةً مطبوعةً بكلِّ أنواعِ الذكرياتِ المسترجَعَةِ، ذكرياتُ المفحِّماتِ، والسُفنِ، والصواريخِ، والتوربيناتِ، والمحطَّات الفضائية، والمناطيدِ القابلة للتوجيه... وغيرها، كما ذكرتُ في نَصٍّ سَابقٍ حول «هُوية الأمكنة، والعمارة المحلية» (10)
تُوقِظُ هذه الطُرز المعماريَّةُ، الرغْبَةَ في إنتاجِ تشكيلةٍ واسعةٍ من المصنَّعاتِ، لا يجمعُها سوى كونُها لا علاقةَ تربُطُها بالأرضِ، بالأرضِ الأمِّ، بالتراب. (1)
إنها نوعٌ من «النيو– مكننة»، أكرِّر، تنتشرُ اليومَ، وتُبذِّرُ المحروقاتِ الأُحفورية، وترتكزُ على مفاهيمَ تقنيةٍ فجَّةٍ، في تصوُّرِها للمسكنِ الإنساني. تمعْدنَتْ مدُننا معَها، وتزجَّجت. فهي كتلٌ ضخمةٌ معدنيَّةٌ زجاجيَّةٌ، أُكرِّر، متتابعةٌ متراصَّةٌ دونَ أي معنى، تَتباهى بهيكَلِها الإنشائيِّ الراقصِ حيناً، والمتحذْلِق المتلوِّي أحياناً، والممشوقِ الشامخِ الارتفاعِ أحياناً أخرى. نبرِّدُها في المناخاتِ الحارةِ، وندفِّئها في المناخاتِ الباردة. والمساكنُ فيها أشْبهُ بأقفاصِ العصافيرِ، تَسْجُنُ الناسَ خلفَ زجاجِها الخارجيِّ الملصوقِ الملوَّن.
وإذا طلبنا من مجموعةٍ من هؤلاء المعمارِّيين المعولَمين، أن يتصوَّروا مبنى مستقبلياً «لعالمِ الغد» كما يقولون، فإن النتيجةَ ستكونُ واحدةً مع فُروقاتٍ طفيفةٍ، وهي خُطَيطَةٌ «طليعيَّةٌ» كما يرونها، يُمكن أن يرسُمَها بنائيُّ روسيُّ عاشَ في الربع الأول من القرن العشرين، مِيلنيكُوف، أو تَاتلين، أو تشِيرَنيكُوف، أو واحدٌ غيرهم... لا فرق.
ومنذُ منتصفِ السبعينياتِ من القرنِ الماضي، سيطرَتْ تَفاصِيلُ التِكنُولوجيا المتقدِّمة أو «الهاي تك» على البُنى في كلِّ المنشآت، وغَزاها الزجاجُ دون تَمييز، وكبَّلتها الهياكِلُ الإنشائيَّةُ المعدنيَّة، والهياكلُ المجاليَّةُ منها بالتَخصِيص. والحضورُ الأيقونيُّ المدمِّرُ للبيئةِ، لكلِّ هذه المكوِّناتِ العتيقةِ، وقد أَلهمَتْها الصناعةُ التي كانتْ صاعدةً منذ تسعين عاماً، تشكِّلُ اليومَ الركيزةَ لتصرُّفٍ أكاديميٍّ متحجِّرٍ، هو المُوازِي راهناً، للتصرُّفِ الأكاديميِّ الجامِدِ العتيقِ، الذي سادَ في مدرسةِ «البوزار» الباريسية. (2)
وكلُّ نقدٍ جذريٍّ للعِمارة المُعولمةِ الراهِنةِ، هو نقدٌ يرفضُ النِظرةَ الأيقونيَّة إلى التِكنولوجيا والصِّناعة. كما يرفُضُ التأليفَ الباحثَ عن الشكلِ لذاته، أو للإبهارِ، وللإعلانِ، وللترويجِ. فيُدينُ محاولاتِ التمديدِ للحداثةِ المُتَهالكة، ومحاولاتِ التمديدِ المُماثلة للبنائيَّةِ الروسيَّة العتيقةِ بدورِها. ويَرى هذا النقدُ الجذريُّ، أنَّ هذِه التوجُّهات، إنما تقودُ إلى نِسيانِ المشهدِ المبنىِّ، والمشهدِ الطبيعيِّ، على السواء، وإلى غيابِ الإلتزامِ بقضايا المجتمعِ وبالبيئةِ، في العِمارة.
ويرى البعضُ اليومَ، في هذا النقدِ الجذريِّ، تعبيراً متخلِّفاً عن حنينٍ لزمنٍ مضَى... في حين أن الواقعَ والنقدَ المهنيَّ يؤكِّدان معاً، أن النِظرة الأيقُونيَّة إلى الصناعةِ وإلى العهدِ الصناعيِّ، هي التعبيرُ الصارخُ عن الحنينِ المرَضيِّ إلى الزمنِ الذي مضَى بالفِعل. وتُنتِجُ هذه النظرةُ الأيقونيةُ إلى العهدِ الصناعيِّ راهناً، في الزمنِ ما بعدِ الصناعيِّ كما يُسمَّى، عِمارةً، هي في شكلِها وفي مَضمُونِها، نقيضةَ العِمارة الملائمةِ والمطلوبةِ، لزمنِ المدينةِ البيئيةِ، مدينةُ الناسِ ومدينةُ الحياة.

II ـ المنطلقاتُ النظريَّةُ، والمقولاتُ العامة

كلُّ دراسةٍ موضوعيَّةٍ للتيَّاراتِ الإيكولوجيَّة في العِمارةِ الراهنةِ، تؤكِّدُ من جهةٍ، أن بعضَ ما أُنجِزَ يتميَّزُ بقيمةٍ إبداعيَّةٍ استثنائيَّةٍ، تخدُمُ قضيَّة التأليفِ المعماريِّ الإيكولوجيّ. كما تؤكِّدُ من جهةٍ أُخرى، أنَّ هذه الجهود لم تُثْمر إلى الآن في مجتمعَاتِنا التابعةِ خاصةً، وعياً جدِّياً لهذهِ المسألةِ، مسألةِ الإيكولوجيا والمناخِ في العِمارة.

منذُ منتصفِ السبعينيات، سيطرَتْ تَفاصِيلُ التِكنُولوجيا المتقدِّمة أو «الهاي تك» على البُنى في كلِّ المنشآت


والتفسيرُ العقلانيُّ لهذا العجزِ، يكمُنُ في غيابِ نوعٍ من فلسفَةِ التوافُقِ حولَ هذه المسألةِ، أو في ما يُمكِنُ أن نُسمِّيه، غياب إيمانٍ جديدٍ أو عقيدةٍ جديدةٍ تُكرَّسُ للأرضِ، وتَزْرعُ في المجتمعِ قوَّةً مؤثِّرةً تُعطي بعضَ المصداقِيَّةِ لهذهِ الجهود. (1)
إن مفهومَ العِمارةِ الإيكولوجيَّة، يُنظَرُ إليهِ راهناً في بلدانِ المركز المتقدِّمة حيثُ المجتمعاتُ الاستهلاكيَّةُ النَهمَةُ، بكونِه مفهوماً جانبيَّاً، عليهِ أن لا يَطالَ الحقُوقَ المُطلقَةَ بالاسْتِهلاكِ الخارجِ عن كلِّ قيدٍ. تلكَ الحقوقُ التي لا تُمَسْ.
أما عندَنا في البلدانِ التابعةِ، حيث يقومُ النموُّ على الإمعانِ في الاستهلاكِ، وعلى توسيعِ دائرةِ الاستيرادِ ليطالَ كلَّ شيٍّ في حياتِنا تقريباً، وعلى الخُضُوعِ التامِّ «للدارجِ» و«الموضةِ» تعمِّمُها الإيديولوجيَّاتُ الغربيَّةُ السائدةُ، وعلى ضَياعِ الشخصيَّةِ الوطنيَّة المستقلَّةِ والهُويَّةِ القوميَّة، أما عندنا، فإن مفهومَ العِمارةِ الإيكولوجيَّة يبقَى هامشيَّاً، ولا يلامِسُ وعيَ الناس. (3)
فنَرى في هذا الإطارِ العامِّ:
■ بعضَ المعماريِّين يُبالغون في خياراتِهم التأليفيَّةِ، مُعتَمِدين آخرَ الإنجازاتِ الهندسيةِ، والتكنولوجيَّةِ، وأكثرَها تعقيداً وكلفةً.
■ في حين نرى بعضَهم الآخر، يتَّجِهُ في اختيارٍ صحِّيٍّ واضحٍ، نحو دروسِ الماضي، واستعمالِ الأساليبِ التقليديَّةِ والموادِّ المحليَّةِ المُتاحةِ، والتوجيه الملائمِ، والتبريدِ والتهوئة الطبيعيَّين.
■ وهناك فريقٌ ثالثٌ يعتَبرُ المُعطَى الطُوبوغرافيَّ، والغِطاءَ النباتيَّ، والطاقةَ الشمسيَّة، والأرضَ، حاملةَ حياتِنا وكلَّ مصنَّعاتنا، وسائلَ تسمحُ بالوصولِ إلى مفاهيمَ أكثر شموليَّةٍ للمباني الإيكولوجيَّة والعُضْويَّة. والهاجسُ التنظيميُّ، والحاجةُ المعرفيَّةُ، يدفعاننا إلى تصنيفِ المُنطَلَقاتِ النظريَّةِ، والمقولاتِ العامَّةِ الفاعلةِ في عمليَّةِ التأليفِ المعماريِّ الإيكولوجيِّ والعُضويِّ، انطلاقاً من قولٍ للمِعمار لوكوربوزييه في آخر حياتِه: «الحياةُ هي على حقّ، أمَّا العِمارة فمُخطِئة»، نصنِّفُها ...، في لائحةٍ شبهِ حصريَّةٍ، أهمُّ مكوِّناتها:
1- تكامُلُ العِمارةِ عُضويَّاً مع المشْهدِ حيثُ تقومُ، وذَوَبانُ المَباني في مُحيطِها الطبيعيِّ. واستعمالُ عناصرِ الأرضِ، وعَنَاصِرِ الغِطَاءِ النباتيِّ، بطريقةٍ تَظْهَرُ معها هذِهِ العناصرُ، وكأنَّها قد أصْبَحَتْ جزءَاً عُضويَّاً مكوِّناً في مَجْموعةِ موادِّ البناء. (4)
2- تنسيقُ المنزلِ ومَجَالِ حديقتِهِ عندما تُوجدُ، وقد نُظِّم، كلُّ من المنزلِ والحديقةِ، بكونِهِمَا عَالَمينِ إيكولوجيّين مصغَّرين، حقيقيَّين أو مُتخيَّلين. يتحقَّقُ ذلك، بتبنِّي المفهومِ اليابانيِّ حولَ الحديقةِ المُستعَارةِ، وبإنتاجِ لوحاتٍ طبيعيَّةٍ ترمزُ إلى وقائعَ متعدِّدة.
3- استعمالُ دلالاتٍ رمزيَّةٍ تكونُ لصيقَةَ الطَبيعة، لتحسينِ اندماجِ العِمارةِ في مُحيطها الاجتماعيِّ والثقافيِّ، ولتحسينِ تكامُلِها مَعه، ومع مصوَّرٍ رمزيٍّ يتأسَّسُ على الأرضِ وتُرابِها، وعلى ناسِ هذه الأرض.
4- ترجمةٌ إسطاتيكيَّةٌ جماليَّةٌ للتكنولوجيَّاتِ المُلائِمَةِ للبيئةِ، عندَ الاضطِرارِ إلى استِعمَالِها في البنيان، وترجمةٌ مماثِلةٌ في ميدانِ الموادِّ المُستخدمةِ، وفي طريقةِ استعمالها.
5- البحثُ الملائِمُ، عندَ الضرورةِ، في مسألةِ التأليف المعماريِّ الإيكولوجيّ، وفي مسألةِ التكنولوجيا البيئيةِ، لوضعِ أسسِ عِمارةٍ مسؤولةٍ في مُصطَلَحٍ إيكولوجيٍّ، وفي مصطَلحِ الديمُومةِ في الزمن.
6- أفكارٌ في التأليفِ المعماريِّ الإيكولوجيّ، تتلاءَمُ مع تقنيَّاتِ البنيان، التي تكونُ قد ساعدَتْ في تثبيتِ توافقٍ جديدٍ على ما قد يسمّى العِمارةُ الخضراءُ، وعلى الذوبانِ العُضويِّ للمَباني في بيئَتِها.
7- مواقفُ بيئيةٌ قد لا تكونُ صافيةً إِيكولوجيَّاً، إلا أنَّ لها انعكاسات مباشرة على الجِسمِ المعماريِّ الممارِسِ، وذلكَ في مجموعِ المُصطَلحاتِ العائدةِ إلى الفكرِ المفهوميِّ الإيكولوجي. (1)
8- أفكارٌ رؤيويَّةٌ ومفهوميَّةٌ، تُعْتمَدُ في العِمارةِ وفي التنظيم المدينيِّ، وتَقْتـَرِحُ رؤىً مُستقبليَّةً، تقومُ على متغيِّراتٍ تطالُ التواصلَ على المنسوبِ العالميِّ، وعلى منسوبِ المؤثِّراتِ السياسيَّةِ والاجتماعيَّةِ، وعلى منسوبِ التأليفِ المعماريِّ، والتي يُمكِنُها مُجْتَمِعةً، أن تنعَكِسَ على السياساتِ البيئيَّة، وعلى «فنِّ البنيان»، مُستَعيراً، ضيغةً لفيوليِّه لودوك (5)

III ـــ خطواتٌ عملانيَّة نموذجية ومَعاييرُ تفصيليَّة

والمُكَمِّلُ المنطقيُّ لتصنيفِ المُنطَلقاتِ النظريَّةِ، والمَقولاتِ العامَّة والفاعِلةِ في عمليَّةِ التأليفِ المعماريِّ، هو تصنيفٌ مماثلٌ، للخطواتِ العملانيَّةِ وللمعاييرِ التفصيليَّةِ المُرافِقَة، أهمُّها:
1- الحِرصُ في التَنظِيم المدينيِّ البيئيِّ، أن تكونَ كُتلُ المباني متواضعةَ الأحجامِ (دون المساسِ بعامِلِ الاستثمارِ العامِ القانوني). إنَّ في ذلكَ بديلاً منطقيّاً يواجِهُ اعتداءاتِ المنشآت الضَّخمةِ على الأرضِ وعلى المواردِ الطبيعيَّةِ.
والتصدِّي العقلانيِّ للتضخُّم السكَّانيِّ في العالمِ، وإلى تمركُزِ الناسِ في المدنِ، يتمُّ عَبْرَ مجالاتٍ سكنيَّةٍ مجمَّعةٍ في نسيجٍ متضامٍّ شبيهٍ بالنسيجِ المتضامِّ في المدنِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، أو عَبْر مجموعةٍ متراصَّةٍ من المباني، المتجاورةِ أحياناً وربما المتلاصقةِ أحياناً أخرى، والمتوسِّطة الارتفاع، بحيثُ لا تتعدَّى السَبعة طوابق، مع معالجاتٍ ملائمةٍ للحيِّز العامِّ، وللمجالاتِ الخضراءِ الضروريَّة.
يُحافِظُ هذا التنظيمُ على تجانُسِ المشهدِ المديني، ويَحدُّ من تمدُّد الضواحِي بلا حُدود. (6)
وتحضرُني من زاوية هذا المفهومِ، بيروتُ الستِّينيات من القرنِ الماضي، ودمشقُ اليومَ وبالأمسِ، وحلبُ، وعَمَّان، عمَّان التي التصقت بالجبالِ التي تُزنِّر مجالَها المركزي. كما تحضُرُني كلُّ المقترحاتِ لإعادةِ تنظيم باريس الكُبرى. أخصُّ منها بالذكرِ، مقترحاتُ ريتشارد روجرز المميَّزة.(7) دون أن نَنسْى حُلُولَ نورمَن فوستر في مدينةِ «مَصْدر» في أبو ظبي، ومقترحاتُ نورمَن فوستر، وجِنْسلر، الخاصَّةِ بمشروعِ مدينةِ الملك عبدالله للطاقةِ الذريَّة والطاقةِ المتجدِّدة في أحدِ وديانِ الرياض. (8)
2- استعمالُ موادِّ البنيان المتجدِّدة، والمُمكِنُ تدويرُها وإعادةُ استعمالِها. إن هذا التوجُّه، يفترِضُ اهتماماً كبيراً عندَ الاختيارِ الأولِ لموادِّ البناء. والاختيارُ الجيِّدُ، هو في الموادِّ التي توفِّر إمكاناتٍ أكيدةً لإعادةِ استعمالِها، بما يؤمِّنُ قدرةً متكاملةً يُمكِنُ استخدامُها بشكلٍ دائمٍ.

كلُّ نقدٍ جذريٍّ للعِمارة المُعولمةِ الراهِنةِ، هو نقدٌ يرفضُ النِظرةَ الأيقونيَّة إلى التِكنولوجيا والصِّناعة

3- استعمالُ عناصِرَ الخشَبِ القديمِ المُجمَّعَةِ من المواقِع. فبمُواجهةِ التدميرِ الوحشيِّ للغاباتِ، والمستمرِّ منذ آلاف السنين وفي كلِّ الأمكنةِ تقريباً، من الضروريِّ توجيهُ كلّ القُدراتِ وكلِّ المدَارِك، كي يُستعمَلَ في البُنيانِ وفي المَفروشاتِ، وِفْقَ المُستَطاعِ، الخشبُ القديمُ المجموعُ من المواقعِ المختلفةِ، وكي يتمَّ الامتناعُ، وفْقَ المُستطاعِ أيضاً، عن استعمالِ الأخشابِ الإكزوتيكيَّةِ المستورَدَة.
4- المياهُ هي عنصرٌ أساسيٌّ للحياة. نُلاحظُ رُغمَ ذلكَ، تبذيرَها بكثيرٍ من اللامبالاة. ومسؤوليةُ تغذيةِ المباني والمنشآتِ بالمياهِ النقيَّةِ، لا تَنْحَصِرُ في إقامةِ بعضِ الخزَّاناتِ المحليَّةِ وصيانتِها، بل تتعدَّاها إلى معالجةِ المياهِ المبتذلةِ المُستعملةِ في المباني والمنشآتِ، وإعادةِ استعمالِها. كما تتعدَّاها إلى التزامٍ واضحٍ من السُّلطاتِ المعنيَّةِ ومن السكَّانِ، بتَجميعِ مياهِ الأمطارِ وخَزنِها، وإعادةِ استعمالِها بالطُرق الملائمةِ، بما يُساعدُ بالتزويدِ الدائمِ بالمياه في الأوقاتِ الحارَّةِ وفي فُصولِ الجفاف. (8)
5- نظام لصيانَةِ المباني، غيرُ متطلِّبٍ وغيرُ مُكلفٍ وسَهلِ الاستعمالِ. إنها ميزةٌ أكيدةٌ لكلِّ أشكالِ السكَنِ، وكلِّ أشكالِ الانتفاعِ بالمباني. فهي تلحظُ تَسهيلَ الصيانةِ غيرِ المُكلِفةِ، كما تَلحظُ توفيرَ المحروقاتِ الأحفوريَّةِ في أنظِمةِ التبريدِ والتدفئةِ، وتطويرَ تقنياتِ البنيانِ وطرقِ البنيانِ، التي تتلاءمُ معَ المناخِ حيثُ تقومُ المباني والمنشآت.
6- إعادةُ استعمالِ المَباني، كنهجٍ مقاومٍ للانتشارِ غيرِ المنضَبِطِ للمباني الجديدةِ، وللوهمِ السائدِ والقائلِ، بأنَّ الموَّادَ الأوليَّةَ هي غيرُ مَحدُودة. إن هذا النهجَ المُقاوِمَ، عليه الالتزامُ بإنقاذِ كلِّ ما يُمكِن إنقاذُه من المَباني والمنشآتِ الموجودَة. والالتزامُ المُوازي، بإعادةِ استعمالِها بشكلٍ ملائم. إن هَذين الالتزامَينِ الضروريين ــــ (1) إنقاذُ ما يمكن إنقاذهُ من المَباني وترمِيمُها، (2) وإعادة استعمالِها ــــ ربَّما شكَّلا النهجَ الأكثر تجديداً، في المُمارسةِ المعماريَّةِ في المُستقبلِ.
وتسمحُ هذهِ المقاربةُ بالمحافظةِ على البيئةِ المبنيَّةِ المحليَّةِ، وعلى قياساتِ المدنِ. فلا تضيعُ منا آثارُ الماضي، ونحافِظُ بذلكَ على هُويَّةٍ مدينيَّةٍ فريدةٍ.
7- الحدُّ من استعمالِ المنتجاتِ الكيميائيَّةِ المُضرَّةِ بطبقَةِ الأوزون. إن هذا التوجُّه ضروريٌّ، لأنَّ طبقةَ الأوزون مع انتشارِ هذه الموادِّ تُصبحُ أقل سماكةً، ممَّا يشكِّلُ التهديدَ الأكبرَ لاستمرارِ حياةِ الجنسِ البشري. والبحثُ عن حلٍّ لهذه المسألةِ، يطالُ البنيةَ الرئيسةَ للاقتصادِ في كلِّ المجتمعاتِ الاستهلاكيَّةِ، في بلدانِ المركزِ المتقدِّمةِ بدايةً، وبعدَها في البلدانِ التابعةِ، بلداننا. والبحثُ عن هذا الحلِّ يُوصلنا بالضرورة إلى المسائلِ المتعلِّقَةِ باختيارِ الموادِّ في البنيان، وبالتدويرِ وإعادة الاستعمالِ، وبالبحثِ عن مصادِرَ بديلةٍ للطاقة.
8- حمايةُ البيئةِ الطبيعيَّةِ، هي اليوم مهمَّةٌ ملحَّة. فالتعدِّياتُ الوحشيَّةُ على المشاهدِ والمواقعِ الطبيعيَّةِ الموجودةِ، هي مصدرُ قلقٍ كبيرٍ لكلِّ الإيكولوجيِّين.
يُمكن القولُ بدايةً، إنَّ شجرةً صغيرةً واحدةً، تَسمحُ لأربعةِ أشخاصٍ بأن يتنَّفسوا بشكلٍ صحِّي، وبأن غيابَ المجالاتِ الخضراءِ في مراكزِ مدننا وفي بيروت خاصَّةً، تُنتِجُ تَكاليفَ باهظةً في ميدانِ الصحَّةِ العامَّةِ، وتولِّد اضطراباتٍ نفسيَّة مُتعبة. وانتشارُ البنيانِ، والبنيانُ الضخمُ خاصةً والمرتفعُ تحديداً، هو العدوُّ الأوَّلُ للطبيعةِ وللإنسان. ومن الضروريِّ اتخاذُ كلِّ التدابيرِ التشريعيَّةِ الممكنةِ، (تعديلُ قانونِ البناء بدايةً)، لتجنُّب طوفَانِ البنيانِ والبنيانِ البرجيِّ خاصةً، في المُدن.
9- ولا تقلُّ إِلحاحاً عن مهمَّةِ حمايةِ البيئةِ الطبيعيَّةِ، مُهمَّةُ تَرشيدِ استخدامِ الطاقةِ وجعلِه أكثر فاعليةً، واللجوءُ إلى مصادِرَ مختلفةٍ ومتعدِّدةٍ للطاقة مثلَ، الطاقةِ الشمسيةِ، وطاقةِ الرياح، وطاقةِ التيَّاراتِ المائية. والتوجُّه الرئيسُ في حقلِ البنيان، هو في عمارةٍ تحتَرِمُ المناخات المحليَّةِ حيث تقومُ، كما تَحترمُ مؤثِّراتِ المحيطِ الطبيعيِّ، وتكونُ بالتالي أقلُّ ارتهاناً للمحروقاتِ الأُحفوريَّةِ. (8)
10- التوجيهُ وحُسنُ استعمالِ مسارِ الشمسِ، هما مسألتانِ رئيستانِ في التنظيم المدينيِّ، وفي التأليفِ المعماريّ. والمطلوبُ هنا، هو الذهابُ بعيداً في مسألةِ الفعاليَّةِ في ميدانِ الطاقة. يتحقَّقُ ذلك في التنظيمِ المدينيِّ، بلحظِ كلِّ المباني في مواقِعَ تُعطيها ميزةً كاملةً في الإفادةِ من مسارِ الشمسِ، ومما تختزنُه من طاقةٍ، وذلكَ في كلِّ الفصول.
11- أما الوصولُ السهلُ إلى وسائلِ النقلِ المشتركِ، فهو ليسَ مسألةً معماريةً بالتأكيد، ولكنَّه مسألةٌ شديدةِ الارتباط بالتنظيمِ المديني. والتقليلُ من حجمِ الانتقالِ بوسائلِ النقلِ الخاصَّةِ لصالحِ وسائلِ النقلِ العام، هو من الوسائلِ الرئيسةِ التي تُوفِّر من استهلاكِ الطاقة، وتُحَسِّنُ جودَةَ الهواء.
ومن المُمِكنِ عند تصميمِ مدينةٍ جديدةٍ، أو امتدادٍ مدينيٍّ، أو وحدةِ مُجاورَة،
من الممكِنِ لحظُ مبانيها، وخاصَّة منشآتها الكبيرة ومؤسَّسَاتِها المُخصَّصةِ للانتفاعِ العام،
من الممكِنِ لحظُها، على مقرُبةٍ من وسائلِ النقلِ العام، بحيثُ يَسهلُ الوصولُ إليها دونَ اللجوء إلى وسائلِ نقلٍ خاصَّة. ومن الافضلِ أن تُنظَّم المدينةُ أو الامتداد المدينيُّ أو وحدةُ المُجاورَة، بحيثُ يكون الوصولُ إلى وسائلِ النقلِ العامِّ سيراً على الأقدامِ، مُستشهِداً مجدَّداً بالمقترحاتِ حولَ تنظيمِ مدينةِ باريس الكُبرى، وخاصَّةً مقترحاتُ ريتشارد روجرز 7، أو حلولُ نورمن فوستر في مدينة مصْدَر في أبو ظبي 6، أو معظمُ المقترحاتِ لمشروعِ مدينةِ الملك عبدالله للطاقةِ الذريَّة والطاقةِ المتجدِّدةِ في الرِّياض. (8)

IV ــــ الخاتمة

في الخاتِمة، خلاصةٌ مكثَّفةٌ، نؤكِّد فيها، دونَ خَطَر الوقوعِ في أيِّ خطأ أو سوءِ تقديرٍ، بأنَّ العِمارة بمواجهةِ دفعِ الحركة الإيكولوجيَّةِ، سوف تتغيَّرُ، خلال العَقدين القادِمين، أكثرُ مما فعلتْهُ خلال قرنٍ كاملٍ.
سوف تقطَعُ العِمارة مع الحوافِز الطرزيَّةِ والنظريَّةِ، التي استعملَها المعماريون المؤلِّفون طويلاً، ليتنافَسوا وليُبهِروا، وليؤكِّدوا نرجسيَّتَهُم وحُضورَهم الشخصيَّ في المسرحِ المهنيَّ المُعولَم.
وسوفَ يكونُ متصوِّرُو المَباني مُلزَمِينَ، بأن يأخُذوا في الاعتبارِ محدوديَّةَ المواردِ الطبيعيَّةِ المتوفِّرةِ، والمستلزماتِ المركزيَّةِ المحليَّة، الجغرافيَّة والمناخيَّة والاجتماعيَّة والثقافية.
وسوف يؤَمِّنُ هذا القطعُ، فرصةَ بنيانِ المُستقبلِ، مستقبلُنا خاصةً في البلدان التابعة، ونحنُ مُلتزمون بمسؤولياتِنا كمعماريِّين على المنسوبين الاقتصاديِّ – الاجتماعيِّ، والبيئي. وربَّما شهِدَت السنواتُ العُشرون القادمةُ، ولادةَ مُنتَجاتٍ معماريَّةٍ، نابعةٍ من علومِ الأرضِ، ومن المشاهِد الطبيَّعية المنتشرةِ عندَنا وعندَ غيرنا. وربَّما قدَّمَت هذه المنتجاتُ أيقونيَّة معماريَّة، تتكلَّمُ بوضوحٍ لغةَ عصرٍ جديدٍ، عصرِ المجتمعات المتحرِّرة، وعصر البيئة.
وبمقدارِ ما نعتبرُ الأرضَ «آلةً للسكن» بامتيازٍ، فإن تعريف لوكوربوزييه الشهير حول المسكنِ الوظيفي «آلة السكن»، يمكنُ تطبيقه بتأثيراتٍ أكثر شمولاً واتساعاً في العصرِ الاجتماعيِّ الإيكولوجيّ. (9)
ربما ساعَدتِ المنتجاتُ الصناعيَّةُ المتواضعةُ، في بدايةِ القرن العشرين، المعماريِّينَ في الغربِ الصناعيِّ في صياغةِ لغةٍ معماريةٍ مقنعةٍ نسبيَّاً. إلا أنَّ قوَّة الابتكارِ التي تختزنُها الطبيعةُ، ومخزونُ الأفكارِ التي نجدُها في الكونِ أرضاً وفضاءً، تفوقُ أضعافَ المحفَّزاتِ التي حَمَلتها في حينهِ المحفِّزاتُ الصناعيَّةُ الناشئةُ.
إنني لا أبشِّرُ بمنحى طبيعانيٍّ بالتأكيد (Naturaliste). ولكنَّ عَجائبَ الطبيعةِ التي تكشِفُها الإِيكولوجيا، والهِيدرولوجيا، والجِيولوجيا، والفيزياءُ العُضوية، وفيزياءُ الفضاء، إن هذهِ المُعجزاتِ الطبيعيَّةِ، يمكنُها أن تُلهِم المعماريَّين، أكثرَ مما تُلهِمُهُم الهندسةُ البنائيَّةُ، لرافعةٍ برجيَّة تملأُ مجالاتِ البنيانِ اليومَ، أو بعضُ المُصطَلَحاتِ الطَرزيَّةِ الخاليَّةِ من أي مضمونٍ، والمتفرِّعةِ من التكعيبيَّةِ، أو من التفكيكيَّةِ، أو من غيرهما. (1)
إن هذه المقترحاتِ سوف تصدُمُ الأوساطَ المهنيَّة المُغاليةَ برجعيتِها عندَنا، التي ترفُض منهجيَّاً كلَّ مرجعيَّةٍ تنعتُها بالسرديَّة الرِوائيةِ، أو بالإقليمية المحليَّة. وهذه الأوساطُ بالتحديد، هي التي تقودُ اليومَ حملةً شرسةً بوجهِ التغييرِ، التغييرِ الدَّاعي إلى استلهامِ الإقليميِّ المحليِّ، والإيكولوجيّ في آن.
إنها حملةٌ خاليةٌ من أي مضمونٍ، وهي صنيعةُ التكنولوجيا البليدة والملوِّثة.
إنها غيرُ مسؤولةٍ اجتماعياً وبيئياً، وتؤسِّسُ للفكرِ المعماريِّ الأكثرِ تبعية والأكثر رجعيَّة، عندنا.

المراجع باللغة العربية

3- رهيف فياض. من العمارة إلى المدينة. دار الفارابي – بيروت ـ 2010
4- رهيف فياض. العمارة ووعي المكان . دار الفارابي – بيروت ـ 2004
8- مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والطاقة المتجددة - الرياض - إصدار خاص ـ 2011
10- رهيف فياض. خلاصات. دار الفارابي- بيروت ـ 2013
المراجع باللغتين الفرنسية والإنكليزية.
1-L’Architecture Verte – James Wines Edité par Philip Jodidio – Taschen – 2008.
2-A – A n°. 391 L’Architecture D’Aujourd’hui – Paris.
5-Viollet Le Duc – Dictionnaire Raisonnée de L’architecture Française du XI Au XVI Siècle __ Tome Premier B. Bange Editeur – Paris 1854.
6-Atlas Architectures of the 21st Century Africa and Middle East - Luis Fernández Galiano (Ed). Published by Fundación BBVA – 2011.
7-Le Moniteur Architecture (amc) Le Grand Pari(s) - Consultation Internationale Sur L’Avenir De la Metropole Parisienne – 2007.
9-Le Corbusier Vers Une Architecture Flammarion – Paris 1995.
* معمار لبناني