يتكئ شريط «رجل وثلاثة أيام» للمخرج جود سعيد، على قصة حقيقية حدثت وقائعها خلال السنوات الأولى من الحرب السورية، والمكابدات التي رافقت نقل جثمان أحدهم من دمشق إلى أقصى حدود البلاد. لكن في الشريط الذي تنطلق عروضه التجارية في دمشق الشهر المقبل، سنقع على سردية مختلفة تستثمر الرحلة العبثية للتابوت على نحو فانتازي، ينطوي على أسئلة وجودية عن فلسفة الموت (هل نحن أحياء حقاً؟).
العبور من مستنقعٍ آسنٍ، مروراً بحقل قمح، نحو بيت قروي متواضع، لإيصال رسالة تحمل خبر موت ضابط تختزل المأساة السورية بضربة واحدة (التناوب البصري المحكم بين عفونة المستنقع، واللون الذهبي للقمح). يستلم الأب (عبد اللطيف عبد الحميد) الرسالة بهدوء، كأنه يتوقع خبر موت ولده في أي لحظة، أو أنه ينتظره، وكان كل ما يشغله هو دفن جثمانه على عجل. يتصل بابن خال الشهيد في العاصمة بقصد استلام الجثمان واعادته إلى القرية. كان «مجد» (محمد الأحمد ـ جائزة أفضل ممثل عن دوره في «مهرجان الاسكندرية السينمائي» الأخير) الذي يعمل مخرجاً مسرحياً وممثلاً في المسلسلات المدبلجة، مشغولاً ببروفات عرضه «نساء الموت»، فلم يرد على هاتف الأب واتصالاته المتلاحقة.

إدانة صريحة لزيف المثقف وأقنعته وعدم اكتراثه بما يحدث للآخرين


ثم سينشغل بحفلة راقصة تنتهي باتفاقه على الطلاق من زوجته (ربا الحلبي) إحدى ممثلات الفرقة المسرحية. وحين يصله خبر موت صديقه أخيراً، ينهمك بإجراءات استلام الجثمان، إلى أن يحضر التابوت إلى كواليس المسرح بمساعدة رجل أمن رافقه في هذه الرحلة العبثية، قبل أن ينقلاه إلى منزل المخرج، وسط صخب وعربدة الأصدقاء الذين لم يعبأوا بوجود جثة في بانيو يتوسط أرضية إحدى الغرف، كأنها جزء من الأثاث، في إدانة صريحة لزيف المثقف وأقنعته وعدم اكتراثه بما يحدث للآخرين، وفي ذلك التناوب البصري المحكم، بين نساء القرية المجللات بالسواد، والتراجيديا الإغريقية على الخشبة بوصفها لعباً مسرحياً عبثياً، تصنعه هويات مزيّفة غارقة في النميمة والعلاقات الغرامية الفجّة، وآثام الجسد، وتالياً، الانفصال العميق عن الواقع المجاور والشرس، ببلاغة جوفاء تهبّ منها رائحة عفونة أخلاقية في المقام الاول. تفشل المحاولة الأولى في إيصال التابوت إلى القرية، إذ تتعرّض عربة الاسعاف إلى رصاص قنّاص، فيضطر مجد للعودة إلى المنزل ثانيةً بمساعدة رجال الهلال الأحمر، فيما يراكم الأب ونساؤه خيبته باستلام الجثمان في المطار، وهو يرى الآخرين يستلمون توابيت أبنائهم من جوف الطائرة.
هكذا يجد مجد نفسه في وحدته مع التابوت المفتوح أمام أسئلة لم يواجهها قبلاً بمثل هذه الخشونة، مستعرضاً سيرته العبثية وهشاشة وجوده أمام رهبة الموت، في محاكمة قاسية لذاته وسلوكياته وزيف حياته، بالمقارنة مع نزاهة صديقه. يستيقظ متأخراً، على تراجيديا ملموسة، لا تشبه ما يحدث على خشبة مسرحية مستعارة، وإذا به حيال درس يبتكره الموتى وحدهم كي يمنحوا الأحياء معنى العيش، بعيداً عن الغيبوبة التي كان غارقاً في بئرها العميقة بكل طحالبها المتراكمة ومياهها الملوّثة، وذكوريته التي تنطوي على بدائية لا تتلاءم مع ادعائه الثقافي. يقظة متأخرة، كانت بمثابة جرس إنذار لترميم مرايا روحه المغبّشة، ما يضعه في فضاء حياتي آخر بتأثير درس الموت القاسي، وعتبة مهتزّة نحو البراءة الاولى المفتقدة. هكذا يدفن صديقه الآخر، بائع الكتب (عبد المنعم عمايري) الذي اختار موتاً لائقاً، كنوع من الاحتجاج على حياة بلا طعم، عند سور حديقة المتحف الوطني، في قبرٍ مجاور لتماثيل المتحف، في إشارة إلى العمق الحضاري للمكان. كما سيتمكن من نقل تابوت الشهيد أخيراً، كأنه خرج من تابوته الشخصي، خالعاً المسامير الصدئة التي كانت تكبّل حياته بالأوهام، بعد طول إقامة.
يحيل الشريط الذي أنجزته ورشة عمل جماعية، قبل أن يأخذ صيغته النهائية بتوقيع مخرجه، إلى مرجعيات أدبية مختلفة. هو يتقاطع بشكلٍ ما، مع رواية البرازيلي جورج أمادو «كانكان العوام الذي مات مرتين» لجهة «الفكاهة الهجائية». في الرواية، يحتفي أصدقاء الميت بجثته، في نزهة أخيرة على الأماكن التي كان يتسكع إليها، ببزة أنيقة، واحتفالية صاخبة تليق بتاريخه العبثي، فيما يتجوّل مجد ومرافقه بالتابوت في الشوارع وصولاً إلى بيته. ستحضر الفكرة نفسها في رواية خالد خليفة «الموت عمل شاق» عن نقل جثة وكيفية عبورها حواجز أمنية متتالية، على خلفية تمزّقات عائلية. على أن هذه الإحالات لا تؤذي خصوصية هذا الشريط لجهة الفكرة المركزية، وهي ثيمة الموت. ذلك أن السيناريو يذهب إلى مقاصد أخرى تنطوي على سخرية سوداء في تفكيك لحظة مجتمعية مضطربة، وإن كانت تحتاج إلى حذاقة أكبر في تأثيث الفضاء البصري، في ما يخص الكثافة اللفظية، فالشعرية التي افتتح بها الشريط بروفة مسرحية «نساء الموت»، تفترق عن العناصر السردية الأخرى بمسافة واضحة، ولو أتت من باب إدانة سلوك الشخصية وزيف أطروحتها الثقافية، على الأرجح بسبب كثرة طبّاخي السيناريو الأولي، وتالياً، صعوبة توليف الحدث وسبكه درامياً بالسيولة المرتجاة ــــ بالمقارنة مع التكوينات البصرية المشغولة بمهارة ـــ نظراً إلى تعدد الخلائط السردية في التحرير النهائي للنص المكتوب. نحن بالكاد نقع على الخيط الذي يجمع المخرج وبائع الكتب بفلسفته الحياتية المختلفة لفكرة الموت، كما أننا لن نهضم بسهولة ارتجالات وحماقات وكاريكاتورية رجل الأمن (مصطفى المصطفى) التي كانت تحتاج إلى ضبط أكثر حزماً، في رسم ملامح الشخصية وسلوكياتها في البطش بالآخرين. ثم ماذا تبقّى من نساء الفيلم الكثيرات؟ نكاد أن ننسى حضورهن. لعلها إدانة إضافية لغياب صوت الأنثى المؤثر خارج جسدها المنتهك بتوابل وعلل الثقافة الذكورية.