ماذا بقي من دور البورتريه الفني بعد ظهور الفوتوغرافيا؟ ترافق السؤال مع بدايات التصوير، لكنه يبدي استعداداً لأن يتجدّد دائماً مع كل بورتريه فني، ولأن يكون مدخلاً لدوافع الفنانين التشكيليين وراء ما يسعون إلى تظهيره واستخلاصه من الوجوه... خصوصاً أولئك الذين يتبعون الطرق الوعرة المؤدية إلى الوجه كما في Looming Landscapes. معرض هلا عزالدين (1989) في «غاليري أجيال» يضم بورتريهات لطلابها من اللبنانيين واللاجئين السوريين. يصعب النظر إلى الوجوه بمعزل عن خلفياتها المكانية التي تسندها من الوراء.
وهذا ما يطرح سؤالاً آخر: هل الأمكنة هي التي تتفرّع وتتمدّد من الوجوه أم أن الوجوه هي التي تتقمّص فوضى المساحات الخلفية؟ في كلتا الحالتين، لن يكون الجواب يسيراً، حتى حين تغيب تلك الخلفيات عن الأعمال. في فيلم «الصمت» (1963) لإنغمار بيرغمان، تطوف دبابة أمام الفندق الذي تجري فيه معظم الأحداث. تتوقف وتكمل سيرها في الشوارع الخالية بلا قذائف أو طلقات، لكنها تبدو كما لو كانت معادلاً للتأزمات النفسية والجسدية التي تلمّ بالأبطال في الفندق. ربما يساعدنا المشهد في الإحاطة بتلك العلاقة بين الداخل والخارج في أعمال الفنانة الحائزة جائزة «بوغوصيان» (2015). هناك 15 لوحة بأحجام متفاوتة ناضجة بذاتها التقنية والتركيبية والشعورية. بعد مشاركتها في «بيروت آرت فير» هذه السنة، ينمّ معرضها الفردي الأوّل عن ممارسة تجريبية، تبدو فيها الفنانة داخل ورشة بحث تقني، وتنقيب في أدوات ومواد مختلفة (زيت ــ أكريليك ــ رصاص __ ألوان مائية ــ حبر) أو في طرق تركيب اللوحة، وفي الألوان القاتمة المستخدمة (الرمادي، الأسود، والبني المحروق، والزيتي، والأحمر الغامق) التي تضيئها هنا وهناك بألوان الأزرق الفاتح والأبيض، إلى جانب إقلال في الألوان أحياناً لمصلحة الرصاص أو الأسود.

بورتريهات لطلابها من
اللبنانيين واللاجئين السوريين
أسلوبها التعبيري القاسي والمنفلت يعزّز من هذا التداخل. الشحنات الانفعالية في الداخل والخارج، تكسّرات والتواءات الضربات في الجهتين، خراب عام تظهر فيها بيوت بعيدة أو تمّحي أحياناً، مقابل وجوه تنضح بفوران داخلي. كأن هلا تريد أن تقضي على الهدوء، وعلى الاستكانة التي قد تطال أي مساحة من لوحتها. قد تترك فسحات فارغة في بعض اللوحات، مثل أعمالها الرصاصية، التي ترسم فيها بالرصاص والممحاة وببعض الخطوط الفالتة والصادمة، لكن ذلك لا يأتي إلا مقابل تكثيف للوجه. تحتفظ عزالدين ببعض عوالم الوجوه وملامحها، من دون أن تستسلم لها نهائياً، أو أن يحدّ ذلك من دفق اللوحات أو يؤطرها. العيون هي ما ينجو من الأعمال. النظرات الثابتة والمتوجّهة رأساً إلى عيني المتفرّج بنوع من اللوم أو الإتهام. تلك الملامح الثقيلة هي ما يجمع وجوه الأطفال، وهي التي تبدو جزءاً أساسياً ودقيقاً من خيارات الفنانة، ومن النتيجة النهائية التي تعبرها اللوحة. تنطلق من عنوان عام لكنه ناتج من تجربتها الشخصية. هؤلاء الذين نراهم هم طلّابها في المدرسة في عرسال من اللبنانيين ومن اللاجئين السوريين. بدأت من التلقاط صورهم ورسم اسكتشات لهم في الصف. في اللوحات التي تحمل أسماء الأطفال الحقيقية (حلا، منير، شهد، أحمد، تسنيم، مروة، الحمزة... )، نراهم واقفين أو جالسين. لا ترأف هلا بوجوه موديلاتها. الطفولة هنا ليست مُلزمة بالبساطة أو بالبراءة السهلة. تصادم جوهري كهذا يكاد يكون الركيزة التي تبني عليها لوحتها: تضارب الخطوط التي لا يمكن القبض على حركة واحدة فيها إذ تنهال من كل الجهات. وجوه الأطفال التي تفيض عن أعمارها وهوياتها وأحجامها لتصل إلى حالة بشرية أشمل وإلى الأثقال التي يحملها الأطفال في هذه البقعة من الأرض. فجاجة ثنائية الضوء والظلال التي تتمثل أحياناً بكتل داكنة. سيل تعبيري صارخ للأطفال، ومشهدية تجتاح اللوحة شيئاً فشيئاً. وفي حين يسعى البورتريه إلى التعريف عن شخوصه وهوياتها الفردية والعامة، تملك عزالدين المعادلة التشكيلية الصائبة لتقديم هويات عاطفية. رغم سماكة اللوحة، وطبقاتها اللونية وخطوطها المتداخلة بعنف، فإن الضربات الحادّة تترك انطباعاً بما يشبه الحفر والنبش للوجوه. استخراج ما هو تحت، ما لا تفلح في تظهيره عشرات العدسات المكبرة. كأنها عملية تفريغ متفلّتة أي حسابات سوى نقل الشحن العاطفي بكل نزقه وتدفّقه. قد تنقلب السماء وتسقط شجرة على رأسها، وقد تلجأ إلى خلفية ضبابية حمراء متشحة بالأسود تبدو كما لو أنها تبتلع الشخوص، أو قد يخرج الوجه على شكل كتل لونية سميكة بمفردها ضمن دوامة من الضربات المتلاطمة التي يمكن أن تسمع جلبتها من اللوحة. كل ذلك يصنع ملامح ممارسة فنية تجريبية، خارجة من صلب المدارس التعبيرية، وظّفتها الفنانة لتقديم يوميات العنف العربي المعاصر كجزء من مآزق البشرية الأشمل.

معرض Looming Landscapes لهلا عزالدين: حتى 25 تشرين الثاني (نوفمبر) ــ «غاليري أجيال» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/345213