«انتظار» من نوع انتظار تحريك حجر في لعبة شطرنج. هنا كل خطوة مدروسة في إطار التأليف، وكل حركة لها مفعولها في إطار التوازن التشكيلي. هي اللعبة البصرية الجذابة الديناميكية والثابتة في آن عند محمد عمران (دمشق ــ 1979).
أشخاص ينتظرون على رقعة اللوحة الورقية، وآخرون بأحجام مختلفة ينتظرون على مقعدهم الحركة التالية في صنع قرار التشكيل. يحرك عمران عناصر التكوين بيد لاعب واثق. يغير معالم التكوين البصري على طاولة العرض، يقدم لنا تنوعاً مدهشاً بين التركيب المسطح والتشكيل بالأحجام: النحت. في غاليري Art On 56th، اختتم أخيراً معرض «الانتظار» الذي ضم أعمالاً أنتج معظمها بين 2015 و2017، وانقسمت إلى قسمين رئيسيين ليس نسبة للأقدمية وإنما نسبة للتقنية المستخدمة.
في القاعة الأساسية للعرض، يدخل عمران. يحرك الأحجار التي لا يتعدى كل منها عشرة سنتيمترات على الطاولة. «يمكننا تحريكها كما نريد» يقول بفرح. لكن مهلاً، هذه ليست أحجار شطرنج؟ هذه شخوص «منتظِرة» من الريزين Résine نحتها الفنان الشاب عام 2016. «أنجزت 12 تمثالاً، وقلت لنفسي إنّه من خلالها أقدر أن أصنع تأليفاً لانهائياً. في كل معرض أقوم به، أؤلف من جديد، وألعب على تغيير موقع الأشخاص كما أريد. الجانب الذي يدخل فيه اللعب ممتع! وهو كذلك للمتلقي. يمكننا أن نعيد تشكيل هذه المنحوتات الصغيرة –الشخوص- بالطريقة التي نريد. وكل مرة نركب فيها تأليفاً جديداً، نعطي معنى جديداً ومختلفاً كلياً للعمل».
في القسم الأول هذا، يتخطى عمران الأطر المسطحة، ويدخل في عالم تشكيل الأحجام من الـ «ريزين». ثم يلون بعضها بالاكريليك أو يتركها بيضاء. مجموعات من الشخوص النصفية المنتظِرة أو كاملة على الكرسي، يختار منها 12 للعرض كما ذكرنا آنفاً، أو ستة أو اثنين أو أربعة ملونة بأزرق توركوازي يميل إلى الأزرق المحيطي، وهي أول مجموعة بعد انقطاع عن النحت. تلك الشخوص الصغيرة كانت نتاج مرحلة انتقالية بين الرسم والعودة إلى النحت.
«منذ أن بدأت احتراف الفن عام 2002، كانت الثيمة العمل على علاقة الجسد في المكان المتموضع عليه، أي الكرسي. العلاقة بين المتحرك والثابت. كنت دوماً أدرس العلاقة بين هذين العنصرين، وكنت أبالغ جداً في الحركات. كان الجسد غالباً في حالة تشنج عالية، على كرسي ثابت جداً. في المرحلة اللاحقة، أصبح الكرسي والجسد البشري متلاصقين حتى تخالهما كائناً واحداً، ثم تحول إلى وحش، ثم بدأ يتحول إلى جمهور. عام 2005، بدأت نحت جمهور، جمهور واضح ككتلة واحدة. لكنّ العمل كان تعبيرياً أكثر. أما هنا في هذا المعرض، فالعمل أكثر واقعية. اهتممت بالتفاصيل بدل التعبيرية الانفعالية التي سادت المرحلة السابقة. هنا الجسد بدأ يستقر أكثر، وصار العمل أكثر هدوءاً وثباتاً في حين أنّه كان أعنف بكثير في السابق».
ينتقل عمران إلى الجزء الثاني من المعرض داخل صالة العرض الأساسية: «هنا أيضاً تنويع على الشخص نفسه عبر إنجاز أربعة شخوص له. في معرض قديم، وضعتها على طاولة مستديرة. لكن هنا، ارتأيت أن يكون المتفرج هو من يتخيل الفضاء ويبنيه كما يريد. وكلها يمكننا أن نلعب بها». يمسك عمران أحد الشخوص ويقلبه باتجاه معاكس، أو 180 درجة عن قبلته الاساسية: «إذا وضعت واحداً هنا، والثلاثة في صف أمامه، صار لديكِ لجنة تحكيم». يغير توزيع الشخوص أمامك مجدداً بمهارة وخفة، مضيفاً: «والآن وضعناها عن يمين الشخص، فأصبح كأنه ينتظرها. هكذا يتغير كل المعنى مع تبدل التأليف»... لعبة تستدرج الجميع إلى التجربة.

تنوع مدهش بين التركيب المسطح والتشكيل بالأحجام


«أعماله قوية جداً، وفي الوقت نفسه هو مينيمالي. يمكنكم أن تروا معارضه العالمية»، دعوة فرحة من مديرة الغاليري نهى محرّم إلى دخول عالم عمران. دعوة سرعان ما لبتها «الأخبار» لتلتقط إشعاعات المحبة والإلفة التي يقدمها القسم الثاني من المعرض حيث آخر مجموعة رسمها. قوة تأليفية متوازنة تبدو جلية في كل أعماله. تأليف أشبه بأوتار مشدودة إذا نُقر عليها، خلقت ديناميكية من الأنغام لا حصر لتوزيعها، وكذلك توزيع القيم اللونية. هذه المرة، انتقلت الشخوص المنحوتة إلى اللوحة. أشخاص على مساحات مسطحة مربعة أو مستطيلة، موزعون في ظرف واقعي إلى حد ما، أو في فضاء من نسج خيال عمران، وليس له بالضرورة دلالة حقيقية. الناس هنا جالسون على كراسٍ، وليس هناك ما يربطهم سوى الانتظار وتشابه كبير أراده الفنان قصداً ليزيد التأليف تكثيفاً ومتانة عبر توزيع الألوان والعناصر على المساحة المسطحة.
ثم هناك مجموعة يرتبط فيها التأليف بمكان واقعي اختاره عمران وهو «المقهى». لكن تقنياً هو الحبر والأكريليك نفسيهما اللذين يرسم بهما الفنان شخصياته، ويؤلف بهما عالماً من «الانتظار». لكن الأهم بالنسبة إليه هو التأليف وإحساسه به، فلا بد من أن تدرك أن خلف الكثير من مساحات اللون الصافي داخل التأليف، هناك رسمة شخص ينتظر. لقد محاه محمد باللون ليكتمل تأليفه توازناً وترابطاً ومتانة، فيستقر الفنان على التكوين الذي يريد.
تلوين بالحبر والأكريليك على كرتون قطنيّ والرسم بالـfeutre، هي إذا إحدى ألعاب عمران الأساسية في التشكيل، لكن ما هي اللونيات المعتمدة؟ وبمن تأثر خريج معهد الفنون في دمشق المقيم حالياً في فرنسا حيث يتابع بحثه في تاريخ الفن؟ يجيب شارحاً تفاصيل تلك الشخصيات المنتظرة على الكراسي داخل لوحاته (للمفارقة فغالبيتها بلا عنوان): «هي كلها تنويعات على الحالة نفسها: الانتظار. أحياناً ألعب، أضع شخصاً بعكس المجموعة، وأرى ماذا يمكن أن يعطيني كنتاج بصري. بما يخدم التأليف/ التكوين». هكذا يبدأ بالشرح، لكن مع الانتقال إلى الغرفة المجاورة في المعرض حيث الرسومات بغالبها مربعة القياس، تغلب تقنية التلوين المائي، مع خلفية من تلوين أكريليكي، غالباً من إحدى القيم في سلم اللون الرمادي. يشرح عمران عن بعض شخصيات «الانتظار» وسيكولوجيا الانتظار: «بعضهم كان يسألني عن سبب إخفاء هذه الشخصيات أيديها في جيوبها. إجابتي ربما لأن اليدين هما أكثر أعضاء الجسد التي تظهر التوتر. لذا خطر في بالي مثلاً، أنه عندما يريد أحد أن يصوّرنا، غالباً ما نتلبَّك بأيدينا ولا نعرف أين نضعها. في بعض هذه الأعمال، ربما أخفيت أيدي الشخصيات في جيوبها لأنها متوترة». انتظار يجيد عمران التعبير عنه بالتأليف والرسم وتكوين الفضاء الملائم والأهم اختيار الألوان، وهذا شرط بنيان اللوحة الجوهري. تطغى على المعرض مجموعة من الألوان تتصدرها الرماديات والزهري الدافئ، وطبعاً جاء الرسم بالأبيض والأسود. يطيل عمران الشرح عن طبيعة التأليف وتغير المسارات داخل اللوحة الواحدة، وعملية إضافة العناصر، أو اختزال عناصر. يدلك على خطوط أضافها، أو فَصَل كتلة الرأس عن الجسد عبر مساحات أعاد تلوينها لصالح التأليف، فالهم جمالي/ استيتيقي بامتياز. يحول الرأس إلى كتلة تجريدية موحدة بحيث يصبح ممكناً تكرارها، وهذا التكرار «يخلق علاقة مختلفة مع المتلقي» وفق ما يقول لنا. يكبر النسب أو يصغرها بعيداً عن الالتزام الزائد بالتشريح الجمالي. لهذا تقترب أعماله من الكاريكاتور قليلاً، ولو أنّه ليس كاريكاتوريست على حد تعبيره، إنما «ألتقي تقنياً معهم، وفي عملي طبعاً، هناك تأثيرات كثيرة أولها مشاهداتي من الحياة اليومية. أما عن تأثيرات كبار التشكيليين في العالم، فهم كثر ولو بطرق مختلفة. يمكن أن نجد بوضوح تأثير لوسيان فرويد مثلاً. أما على مستوى آخر، هناك نحات سوري اسمه ماهر بارودي يعيش في فرنسا كان له أيضاً تأثير كبير على أعمالي بالذات عبر أعماله الساخرة».
عمران الشاب الطموح المجرب والهادف، حصل على عدد من الجوائز، وشارك في عشرات المعارض في المنطقة العربية والعالم. دخلت أعماله العديد من المجموعات الفنية الهامة أبرزها المتحف البريطاني. يحافظ الفنان الشاب على ميزة قل نظيرها في هذه الحقبة وهي الجمع بين شغف الفنان وتواضع العارف. لا شك في أن الساحة الفنية العربية والعالمية ستترقّب معارضه الجديدة وتحولات شخوصه ولوحاته وتجاربه.