يوسف رخا
زمن السكون موت مغربي. عودة الأب الضّال.
مَن أنا لأنعى نجيب محفوظ؟
«هذا شعورك؟» – بتوجّس – «ابدأ بهذه الجملة إذاً».
لولاكِ لم أكن لأفكر في ادّعاء أيّ صلة بالمعلم.
«نعم يا روح أمك؟»
أقصد في الفترة التي اجتمعت فيها بكِ.
«فعـ...لاً!»
فقط لو تسمعينني...
لم أكن لأفكر في ادّعاء الصلة ليس لأنه عالمي، ولا لكونه – قبل ذلك – أديب البورجوازية الصغيرة. معكِ حق: لستُ من التواضع بحيث أستكثر على نفسي معرفته. حتى وضاعتي ليست سبباً في الابتعاد.
«ماذا تقول؟».
يغيظني سكان رواياته كأنهم جيران مزعجون، أكره محل إقامتي بسببهم. وحتى في الأعمال الفكرية – تعرفين؟ – أحسّهم مثل أقارب ثقلاء يلحّون في زيارتك، وأنت لا تريدين استقبالهم. «طنط فايزة مثلاً؟» أوضاع ومناظر على كل حال، من السذاجة والسكون بحيث لا يمكن أن تدفع على الحياة. لا ثورة ولا موقف فردياً. أحداث تلو أحداث ولا سؤال حقيقياً عن الوعي، ولا وعي.
أقول: أفكر في كل هؤلاء المربوطين على شبر مكعب من الإنسانية – من أمينة إلى سعيد مهران – ولا أفهم ضرورة أن أقرأ حياتهم. أناس لم يسمعوا بالوجودية الفرنسية، ولا الإسلام السياسي، ولا أحمد عدوية. كيف يصبح كاتباً واحد لم يعرض نفسه مرة، أسأل نفسي، أو يدع نقلة واحدة تمنحه غير وجود؟
«تعرف؟».
هذا إحساسي الطاغي تجاهه...
«تحتاج صفعة على قفاك!».
وأعود أستمع لحكاياتك – صحبة أميركية ممتعضة وفلسطيني “من إسرائيل”، جاء يسجل مع نجيب محفوظ حتى يتعرف إلى القاهرة – عن تصميمه الكريم على أن ما يقال عن عذوبة ابتسامته والحفاوة التي يبذلها للغرباء، عن نور عينيه المختبئ وراء نظرة توحي بأنه يرى كل شيء.
كان كلما هممت بالذهاب يشير إليّ لأميل عليه فيعطيني قبلة – هكذا تحكي الأميركية، فيبين بياض قلبها عبر غشاء الامتعاض، ذاكرة لقاءاتهما في الفترة الأخيرة، حيث وضعوا له جنديين خارج غرفة المستشفى، وفاتهم أن يضعوا ممرضاً داخلها، فوقع للمرة الثانية وانتهى الأمر – إلى أن أصبح هامداً تماماً فوقفت لا أدري ماذا أفعل. نفخت قبلة في الهواء – تقول – لكنه ظل يجرب النهوض من سريره ويصدر أصواتاً محشرجة، كأنه يقول: لا يمكن أن تذهبي قبل أن تأخذي قبلتك. هل انفجرتْ في البكاء؟
لا أتأثر. ولا أتأثر من ذكرى لقائي الوحيد به في فندق “شبرد”: جواري علي سالم، بجسمه الهائل وكلامه الذي لا ينتهي عن حكمة السادات. أما هو ففي الجهة الأخرى، واثنان يحيطان به – كأنهما عين وأذن – فلا يمكنكِ الوصول إليه إلا من خلالهما... ولا يمكنك أن تقولي له شيئاً مفيداً على كل حال. ما الذي يمكن لأمثالنا أن يقولوا؟ ولدت وقد جاوز الستين، ثم نال الجائزة الكبرى ولم أجاوز الثالثة عشرة. مغرور ربما، لكنني أفهم الزمن وفرق السّن، بكل ما يترتب عليهما من مفارقات.
أحترم العمر والهزال.
«والموت؟».
كان دائماً يحتضر.
لا أدّعي الحديث عن جيل من الأدباء. فقط وعيت وهو كذلك. ربما لم يكن يحتضر جسدياً، لكن ضعف الحواس أجبره على الاختزال، ولم يكن في رأسه موضوع سوى الموت، الأمر الذي أعاد الحياة للموظفين والفتوّات وشباب ثورة ١٩١٩، فيما اختفت أسماؤهم. صاروا أشباحاً نشطة داخل أساطير لم تعد بعيدة كل هذا البعد، ولا غير مألوفة. عندما قرأت الأحلام وأصداء السيرة، أخيراً، أحببت نجيب محفوظ. كأن ضعف بصره كان ضرورياً حتى ينقل إليّ بصيرته. كأننا على موعد مؤجل رغم كل شيء.
أنا وأنتِ في سفرتنا الأولى سويّاً – هذا ما أحاول أن أقوله لك – وقت تبدّت دروب المغرب قريبة الشبه بهذه النصوص القصيرة العصية على المعنى، فكرت – حال مشت معي الكتابة – أن أهدي الرحلة إليه، ليس بصفته الكاتب الجليل، لكن فقط صاحب الأحلام. وتمنيت حقيقة لو تحمل مناماتي شيئاً من السكون والعمق الذي يكتنفه. بعدها نويت أن آخذ له نسخة من النص وأزوره...
«أنت غريب إلى حد المرض».
ماذا تقولين؟
«لا شيء» – بنفاد صبر – «لا شيء مطلقاً».
ها هي الدموع تتعلق بجفني: بهذا المعنى يمكنني أن أنعى نجيب محفوظ.