مشاهدو «الجديد» يغضبون على محطّتهم، ويعتبرون أنّها افترت على خطاب الأمين العام لحزب الله. المحطة التي راهنت على الاختلاف والمانعة، تتشنّج في دفاعها عن نفسها، وتُضخّم الرد على الحملات الموجّهة ضدّها. «المؤسسة اللبنانيّة للارسال» تنتهز المناسبة، فتضرب منافستها «تحت الزنّار». الأمر يشبه تصفية حساب مهنيّة أوّلاً، مع انعكاسات سياسيّة تصب في حملة تشويه صورة حزب الله الذي يُصوّر كأنّه لا يحتمل النقد ولا يقبل «الخروج عن الطاعة».
«الجديد» تعود فترد في نشرة أخبارها أمس على تحقيق LBCI العبثي وغير المفهوم، وتفتح ملفّات سيّد أدما: «البادي أظلم، وكما تراني يا ضاهر أراك، فخلّي عينك عالجديد». إنّها الحرب! حروب شخصيّة، حروب عائليّة. حروب صغيرة. حروب كنّا نتمنّى ألا نراها أبداً.
ها هو العدوان على اليمن، ينعكس على الاعلام اللبناني الذي يواجه أزمة مالية مضنية، حالةً من التناهش والتوتّر والهستيريا. المعركة التي انفجرت فجأة أمامنا على الشاشة الصغيرة، وتقاطعت في سياقها المصالح الكبرى والحسابات الصغيرة، هي أحد انعكاسات الحرب الدائرة لمصادرة الفضاء العربي. ما الذي يُسمح لنا أن نراه ونسمعه ونفهمه، في قلب معركة مصيريّة ستعيد صياغة مستقبلنا كأفراد وجماعات وشعوب؟ ليس سرّاً، منذ سنوات مديدة، تبعيّة إعلامنا المرئي، مؤسسات وأفراداً، وخضوعه لمختلف أشكال المصالح والوصايات. لكن، في رمال اليمن المتحرّكة، بات اقفال الفضاء العربي، أولويّة مطلقة. وكل الوسائل صالحة لتعقيم اللغة، ومصادرة النقد، وتضليل الغضب. المطلوب اليوم مصادرة الهوامش التي بقيت، مثل «الجديد»، خارج السرب، وخارج السيطرة، تتمتّع بجرأة ما، بحريّة نسبية في النقد والفضح والاتهام…
وإذا كانت أبلسة إيران هي ذروة الخطاب اللائق سياسياً وفكريّاً، وهي «الموضة» ومعيار «التقدميّة والعصريّة والليبراليّة والثوريّة والديمقراطيّة وحقوق الانسان»… فإنه من شبه المستحيل (إلا على شاشات نضاليّة تخاطب جمهوراً مقتنعاً) تناول نظام آل سعود بصفته يشكّل سلطة قمعيّة استبداديّة. من شبه المستحيل تناول الوهّابيّة التي انتجت منذ نصف قرن أخطر الأصوليّات الدمويّة. تدخّل السعوديّة في اليمن، مع جوقتها المدافعة عن «الشرعيّة»، لا يترك مجالاً لأي ترف.

المطلوب اليوم مصادرة الهوامش التي بقيت خارج السرب مثل «الجديد»

إنّها أم المعارك في خاصرة الخليج. إسدلوا الستار إذاً! النقل المباشر على «الجديد» مثلاً للتجمّع الضخم عند باب اليمن في صنعاء، أوّل أيّام العدوان السعودي، كانت تتعالى منه شعارات وطنيّة وقوميّة. هذا المشهد قد لا نراه مجدداً على الشاشة المذكورة. ممنوع أي قراءة للحدث من خارج الرواية المذهبية، أو، في أفضل الحالات، من خلال رواية «الغزو الفارسي». ممنوع نقد المملكة وسلطتها ومصالحها وممارساتها وبُناها القروسطيّة التي جعلتها مسْرباً لكل المساومات والخيانات، وأيديولوجيّتها الانحطاطيّة التي جعلتها مصنعاً للارهاب والتكفير.

إن مقدّمة أخبار «الجديد» المشؤومة
التي أقامت الدنيا مساء السبت، وحركت احتقاناً مقلقاً، وقد تغيّر معادلات في المشهد التلفزيوني… هي اعلان عن مأزق. خيار مؤلم، يبدو الاقل كلفة من وجهة نظر صاحبه. ليس من السهل تحمّل عواقب النقد القاسي إنما الهادئ والعقلاني الذي وجّهه سيّد المقاومة لـ «التنابل» صنّاع التكفير. هذا الكلام يفكّره معظم الناس، لكنّه لا يقال على التلفزيون. لا يقال لايف على «الجديد» التي تشاهدها شرائح متنوّعة في المنطقة الخصبة من الرأي العام التي يمكن التأثر فيها. بعد كلمة السيّد دقّت ساعة التلطيف والاستدراك، والخيارات المؤلمة. هكذا تدافعت ـــ بين تبرير واصرار ومكابرة ـــ المواقف التراجيكوميديّة التي تعبّر عن أزمة عميقة، ومخاض التموضع الجديد، وسط دهشة المشاهدين واحتجاجهم. لكن، أليس من حق أي وسيلة اعلامية أن تنتهج الخط الذي تختاره؟ الأمر لا يتقبله بالضرورة جمهور تماهى مع هذه المحطة، ويطلب منها أن تحتضن خياراته كما تعوّد. ليس الطلاق سهلاً في هذه الحالات، رغم انّه لا يكلّف المشاهد أكثر من كبسة على الريموت كونترول.
ليست مسألة «خروج عن الطاعة» حسب عبارة LBCI الخبيثة التي تبنّتها «الجديد» في ردّها، بعدما حوّلتها عنوانَ تمرّد واستقلاليّة. المسألة اختيار الموقع الذي ننظر منه إلى الحدث. تراهن «الجديد» حالياً على تعاطٍ «موضوعي» هادئ مع الحرب في اليمن. أي تحاول أن تبقى على مسافة واحدة من المتمرّدين والغزاة، كطرفين متساويين في حرب تجري على كوكب آخر. بعد أن ينقشع غبار الخناقات الجانبيّة ، سيكون علينا أن نكتشف أي حرب تلك التي تدور أمامنا على الشاشة. في هذه الأثناء واصلوا المشاهدة. لا تتركوا «الجديد» وحيدة.