يوسف رخا
«هَيّجَت» الدراما غرائز كنّا نحسبها قُوِّضَت لدى جمهور رمضان. ما كاد يطلع آخر رعيل محمد علي على شعب مبارك حتى أُسقط في يد اليسار. حتى أنّ «الملك فاروق» يعاد بثّه حالياً على قناة مصرية محلية، رغم أنّ تهمة الانحياز الإيديولوجي لبست السلطات بالفعل. السيناريو مكتوبٌ منذ 15عاماً، والجهات الرسمية لم تدّخر جهداً في عرقلة الموكب العلوي: حُجبت تصريحات التصوير في السرايات المُؤممة، ورُوِّج لمسلسلات أقل جودة، ولم تُذع الحلقات سوى على mbc... بعد الخاتمة حيث يذهب «فاروق»، على حد صلاح جاهين «بعيد، ورا البراميل»، اجتمعت هيئة تحرير جريدة موالية، لبحث صيغة الدفاع عن الجمهورية... وأصدرت ملحقاً جيداً على غير عادتها.
بين ليلة وضحاها، أصبح تيم الحسن ـــــ على هيئة «الملك المفترى عليه» ـــــ «هاملت» الطبقة المتوسطة المصرية. فرط العقد، ومضى سائقو الأجرة يخبرون زبائنهم بأن الثورة كانت غلطة منذ البداية. أينما ذهبتَ، أناس يسبّون الدين للثورة: اليوم فقط بدأت قوى الشعب العامل تتحالف على إعادة النظر، الساداتيون والناصريون سواء. فهل كنا بحاجة إلى مسلسل ما بعد ـــــ حداثي لندرك أنّنا، منذ 55 عاماً، أُخذنا على حين غرّة؟ كأن أحداً لم يشك قبلاً بأنّ تاريخ مصر منذ حركة الضباط مُنحَدَر واحد كارثي.
اليوم، وإن غضضتَ الطرف عن كون وفاء عامر في دور «نازلي» أقرب إلى صاحبة ملهى ليلي من حفيدة سليمان الفرنساوي، أو زوجة ابن الخديوي إسماعيل، ماذا عساك تقول لمن بقي من المعوّقين يحتسون بيرة «ستيلا» في مقهى «كريون»، ويحدثونك عن الفلاّحين والعروبة والاستقلال؟ أننا مستَعمرون أكثر من قبل؟ أن النظام الملكي شرّع شبابيك أوسع لتداول السلطة؟ أن سكان العشوائيات أوفر عدداً وأشد جوعاً من كل المستفيدين من «الإصلاح الزراعي»؟ أم أنّ المشروع العروبي لمحمد علي باشا كان أجدى من حرب اليمن والجمهورية العربية المتحدة، ولم يكن ليؤدي ـــــ ببساطة «كامب ديفيد» ــــ إلى إهدار فلسطين؟
ليس الحنين ما يدعو إلى الدهشة في رد الفعل العارم على المسلسل. لكن الغريب أن الناس يناقشون الموضوع كأنهم لم يكونوا هناك، وقت أُعلنت الجمهورية. كأن التحول حدث في بلد آخر، أو لشعب استُبدلَ خلسة ذات يوم حار في تموز (يوليو) 1953. مَن هلّل، و«الشلاليت» تدق على مؤخرة محمد نجيب؟ من بنى لعبد الناصر مقاماً، وحوّل الرئيس المؤمن إلى «بطل الحرب والسلام»؟ «فاروق» لم يثر مثل هذا التساؤل، لحسن حظّه. اليوم وهو يمازح خادمه الأسود، أو ينتفض غضباً فيما تخابره أمه من القدس، إلى حيث انتقلت مؤقتاً، لا أحد يسأل نفسه: كم في المئة من المصريين كتب في خلصائه تقارير، واعتدى على الأبرياء، واستحوذ على الموارد ليبددها؟ كم روّج للشمولية، ثم الوهابية؟ طوال 55 عاماً، كم عذّب وتعذّب ومثّل دور الإنسان من دون أن يكون إنساناً؟ ألم نعامل أهل الخليج كبراميل بترول، وندّعي أن المغاربة لا يتكلمون العربية... ونخذل، ثم نحتقر الفلسطينيين؟ كم منا نهض من على سجادة الصلاة ليتمتم بضمير مطمئن: «أنا ما باتكلمش في السياسة»؟ هؤلاء، اليوم، هم الذين تهيّجت غرائزهم، كأنهم لم يروا سوى اللحظة الراهنة.
هم عانقوا الثورة وصعدوا على أكاذيبها. وعن طيب خاطر، أقرّوا ما جذّره نظام بوليسي من استبداد بالسلطة وتوسيع للمسافة بين الكلمة ومعناها وانهيار عسكري واقتصادي. هم والوا وتوالوا واصطنعوا المعارضة حتى صارت الدولة مسخ دولة، والشوارع لا تطاق. مَن غير الشعب المصري قنّن للسرقة والمهانة، وقطع الطريق على المعرفة، وتاجر بالدين؟
كنّا على استعداد لفرض الخاص من مصالحنا حتى أتينا على العام تماماً، فبأي حق اليوم نتحسّر على دستور 1923؟
إنّ رد فعل «فاروق» ليس بصحوة سياسية، ولا الغرائز التي أثارتها الدراما نبوءات وعي. إنها، على العكس، ليست سوى الوجه الخيالي لشعب يرفض أن ينظر إلى نفسه في المرآة. شعب لا يزال ـــــ بعد خمسة وخمسين عاماً ـــــ يُنكر شبهة أن يكون له دور في التاريخ.