في «الرأس المرفوع» الذي يعرض حالياً في سينما «متروبوليس أمبير صوفيل»، ترسم المخرجة الفرنسية إيمانويل بيركو بورتريه حميمياً عن حياة المراهق الجانح مالوني. منذ طفولته، يحال مالوني إلى القضاء والمؤسسات الاجتماعية ومراكز إعادة التأهيل المختلفة التي باتت جزءاً من حياته.
تشكل المراهقة ثيمة المخرجة المفضّلة، إلى جانب العلاقات الملتبسة وغير المألوفة التي شاهدناها في فيلمها الروائي الطويل الأول «كليمون» (2001)، وفي «الكواليس الخلفية» (2005). يبدأ الفيلم الذي افتتح «مهرجان كان السينمائي» هذه السنة بمشهد لمالوني في الخامسة من عمره، يجلس في حجرة قاضية الأطفال (كاترين دونوف) برفقة أمه الشابة المضطربة (الممثلة سارة فورستييه) التي تدافع عن نفسها بالبكاء والصراخ، مؤكدة حبها لأطفالها في وجه اتهامات القاضية لها بالإهمال وسوء الرعاية.

تؤدي كاترين دونوف دور قاضية الأطفال التي تصبح أمّاً ثانية للبطل

رغم ذلك، تغادر بعدها برفقة ابنها الأصغر، تاركة إياه للقاضية كي تهتم به. مشهد يعيد إلى أذهاننا فيلم «مومي» (الأم) لكزافييه دولان الذي عرض أخيراً في «صوفيل» والذي يصور مراهقاً مضطرباً وعنيفاً تجمعه علاقة أوديبية متأزّمة مع الأم. كذلك في مجمل ما تبقى، يتشابه «الرأس المرفوع» مع «مومي» في تصويره لبورتريه المراهق الجانح والمضطرب وحتى العلاقة الأوديبية مع الأم، ولو أنّها في «مومي» تبرز كمحور الفيلم، في حين تضيء إيمانويل بيركو عليها بشكل عابر في بعض المقاطع. هناك أيضاً عامل آخر قد يشرح طبيعة هذه العلاقة الملتبسة. أنجبت الأم مالوني وهي مراهقة، فلم تستطع أن تلعب دور الأم أو حتى دور الامرأة الراشدة. لكن الجانب الأهم بالنسبة إلى المخرجة هو تشريح علاقة مالوني بقاضية الأطفال والمساعدين الاجتماعيين الذين يشرفون على إعادة تأهيله، والمراكز المختلفة التي يتنقل بينها. أما الجدل الذي يطرحه الفيلم فيدور حول مدى فعالية هذه المؤسسات، وإذا ما كانت إيجابياتها أكثر من سلبياتها على المدى البعيد. هي من جهة، تنقذ الطفل وتحميه من الأهل غير المؤهلين لرعايته، لكن عدم الاستقرار والتنازع اللذين يعيشهما الطفل قد يكونان مدمرين أيضاً. مالوني هو ابن الدولة المتمثلة بالقاضية التي تصبح أماً ثانية له، وتسعى إلى إنقاذه من أمه الحقيقية ومن نزعته إلى التدمير الذاتي، كما تقول. هو بورتريه حميمي وغير مألوف، ترسمه المخرجة عن علاقة مالوني بالقاضية أو بمرشده الاجتماعي. قد نستطيع تسميتها أيضاً علاقة الحب ما بين الدولة والمواطن، أمر قد يصعب فهمه من وجهة نظر اللبناني، وخصوصاً إذا ما تخيلنا مراهقاً لبنانياً غاضباً كمالوني في الفيلم؛ يهرب من المدرسة، ويسرق السيارات، فإن أقصى ما ستقدمه الدولة لمساعدته، كما رأينا أخيراً هو الضرب أو الاستجمام في السجن. ولإقناعه بالالتحاق بأحد مراكز إعادة التأهيل، يقول المرشد الاجتماعي لمالوني إنّ الدولة تدفع ما يعادل 260 يورو يومياً، مصاريف لإقامته في هذا المكان، حيث لكل طالب أستاذه الخاص للتعويض عمّا فاته في المدرسة. لا يمنع ذلك القاضية من أن تقرر في ما بعد إرسال مالوني لقضاء فترة في السجن بعد فشل كل محاولاتها الأخرى لإنقاذه. رغم لامبالاته الظاهرة، تمثّل القاضية بالنسبة إليه وجه الحنان والدعم الأمومي الذي لم يحصل عليه من والدته. تفاصيل تلك العلاقة الخاصة التي تجمع الاثنين ببساطتها هي أكثر ما يلفت في الفيلم. مثلاً، يسرق مالوني منديل القاضية ويشمّه في سرّه، وحين تزور مركز إعادة التأهيل في عيد ميلاد مالوني تدعي أنها صدفة، إلا أنّ الاثنين متشابهان إلى حد ما في ادعائهما للقسوة، كل لأسبابه الخاصة. يلتقي مالوني أيضاً المراهقة تيس التي تشبهه لناحية الشكل وتنجح تدريجاً في تحطيم دفاعاته، بالإضافة إلى المساحة الملتبسة ما بين العنف والرقة اللذين تلعب عليهما المخرجة في تصوير العلاقة بينهما. في اللغة السينمائية التي تعتمدها المخرجة، تتلصص الكاميرا على الشخصيات، تقترب منها في حميمية دافئة في بعض المقاطع كما في حجرة القاضية. تبتعد أيضاً وتتخذ وضعية المراقب مثل مشاهد العلاقة الجنسية بين تيس ومالوني التي يحاكي إيقاعها قلق هذا الأخير وطبعه المتفجر. أما نبض الفيلم فهو التفاعل بين كاترين دونوف والممثل الشاب رود بارادو الذي يقدم دور مالوني في أداء لافت.

«الرأس المرفوع»: يعرض حالياً في «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية ــ بيروت). للاستعلام: 01/204080