يقع مقر «جمعية جيل المستقبل» في حي الوتوات في بيروت. للوهلة الأولى، تبدو كأنها جمعية تابعة لـ «تيار المستقبل». الالتباس في الاسم، أدى إلى تكسير مركزها في أحداث 7 أيار 2008، لكنها، في الواقع، الجمعية التركية الأنشط في لبنان. فقد تأسست عام 1997، واشترت بتبرعات أبناء الجالية مقراً قيمته 120 ألف دولار.!<--break--> وهي التي نظمت الاستقبال الشعبي لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، يوم زار لبنان في تشرين أول 2010. المنتمون إليها، هم الذين اصطفّوا أمام فندق فينيسيا وأجبروا الزائر على الترجل والمصافحة، ولاحقاً، على إرسال موفدين من وزارة الخارجية الى بيروت للاطلاع على أوضاع الجالية التي لم تكن مكتشفة بعد. وشباب الجمعية، أيضاً، هم من ينظمون باستمرار زيارات تهنئة للكتيبة التركية العاملة ضمن القوات الدولية في جنوب لبنان أثناء الأعياد. وإلى ذلك، يستقبلون الجنود الأتراك أثناء مرورهم في بيروت، وينظمون لهم جولات سياحية قصيرة للتعرف على العاصمة. فوجئ موفدا أردوغان عندما علما أن تعداد الجالية التركية التي قدمت الى لبنان منذ مئة عام طلباً للرزق يصل إلى 80 الف شخص. تكشف غولشان ساغلام المنتدبة من سفارة بلادها لمتابعة شؤون الجالية التركية مع السلطات اللبنانية أن زيارة الموفدَين أثمرت سريعاً، حيث سيُفتَتح في القريب العاجل مركز ثقافي تركي مؤلف من طبقتين في وسط بيروت بإدارة مندوب من أنقرة للتعريف بالثقافة والفنون التركية، وتعليم اللغتين التركية والإنكليزية واستضافة نشاطات متنوعة.
عملياً، بدأ لسان بيروت يرطن بلغة كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية، الذي أطاح الحرف العربي واستبدله باللاتيني. قبل نحو عامين بدأت جمعية «جيل المستقبل» تنظيم دورات لتعليم اللغة التركية في بيروت، على يد أساتذة منتدبين من وزارة التربية التركية. الإقبال فاق التوقع: ذوو الأصول التركية يدفعهم الحنين إلى تعلم اللغة الأم، واللبنانيون معجبون بـ«تركيا أردوغان».
ومنذ سنوات، بدأت الجالية تحيي المناسبات التركية. في 19 أيّار الماضي، احتفلت بيوم الشباب والرياضة. اليوم الذي أعلن فيه أتاتورك تحرير «جونسون» من الفرنسيين. في 23 نيسان، احتفلت بعيد الطفل، وذهب 23 طفلاً من دار الأيتام الإسلامية الى أنقرة والتقوا أردوغان ورئيس الدولة عبد الله غول، وقدموا رقصة فولكلورية لبنانية. وطبعاً، سيُحتفل بعيد إعلان الجمهورية الذي يصادف في 29 تشرين أول الجاري.
أخيراً، بدأ أتراك لبنان يتململون مما يسمونه «التهميش». وبدأت تُسمع منهم لغة جديدة مستوحاة من تصاعد الدور التركي السياسي في المنطقة. قرر هؤلاء المطالبة بحصة من «قطعة الجبنة» اللبنانية والخروج من شرنقة الحريرية السياسية. تكشف ساغلام ذات الاطلاع الواسع على شؤون الجالية التركية وشجونها عن «لقاء جريء» جمع شتاء 2010 الأمين العام لتيار المستقبل أحمد الحريري وممثلين عن جمعية جيل المستقبل، ورابطتي الصداقة التركية ـــــ اللبنانية في طرابلس وصيدا. في ذلك الاجتماع، أبلغت ساغلام الحريري، بلغة لا تحتمل الالتباس، أن الاتراك في لبنان يرغبون في شكل جديد للعلاقة مع آل الحريري. علاقة طرف مع طرف، لا علاقة طرف محسوب على طرف، وأنه «لم يعد مقبولاً من أحد عدم أخذ الحيثية التركية في الحسبان». بعد صمت قال الحريري «أنتم محسوبون علينا». فجاءه الرد على شكل تنبيه بمقاطعة الانتخابات اقتراعاً: «إذا كنا محسوبين على الطائفة السنية فأعطونا حصة، كما الأرمن وبقية الأقليات. في انتخابات 2013 لن نقبل أن نَنتخب فقط، بل يجب أن نُنتخب أيضاً».
نجل النائبة بهية الحريري سأل في الجلسة عن عدد الأتراك في لبنان وعمن «يمون» عليهم، واعداً بنقل مجريات الاجتماع إلى (الرئيس) سعد الحريري، وترتيب لقاء معه، لكن اللقاء لم يحصل. السؤال عن العدد أثار حفيظة الحاضرين. تلفت غولشان الى أن «الحريرية السياسية»، من أيام الحريري الأب إلى الحريري الابن، تعاطت مع الأتراك في لبنان كعدد وكأصوات انتخابية، «لكننا لا نقبل أن نكون عدداً. نحن نوعية».
طموح أبناء الجالية إلى احتلال مواقع سياسية يبدأ بعضوية في بلدية بيروت، ويمر بالنيابة، ويصل الى حد المطالبة بمقعد وزاري. تقول غولشان: «لو كان لبنان يحترم ما قدمته إليه تركيا لكان من المفروض الإتيان بوزير من أبناء الجالية التركية»، سائلةً: «لماذا يحق للأرمن بوزيرين؟ هم 120 ألفاً ونحن 80 ألفاً، أعطونا على الأقل نصف ما تعطونه للأرمن». هذا الطلب أسمعه مندوبون عن الجالية التركية الى الموفدَين اللذين أرسلهما أردوغان قبل ثلاثة أشهر، والى المسؤولين في سفارة بيروت. يقول أحد الذين التقوا الموفدين إنه طلب من تركيا ممارسة الضغط على الدولة اللبنانية. ويسأل: «لماذا ايران والسعودية وفرنسا واميركا تدعم أتباعها في لبنان، ونحن لا تدعمنا الدولة التركية؟».
وفي سياق مواز، يطالب الكثير من اللبنانيين الأتراك بنقل السفارة التركية من الرابية الى العاصمة. في لقاء مع شباب أتراك يهمس أحدهم بأن الجالية تدعم السفارة لا العكس. تُرجع غولشان ساغلام السبب الى أن 95% من أفراد الجالية مجنسون، لذلك تتجنب السفارة التدخل في الأمور التي تتعلق بهم، كي لا يقال إنها تتخطى الأنظمة اللبنانية. وتدخلها يقتصر على الأمور المرتبطة بالدولة التركية، كتدخلها «يوم هاجم الأرمن معرضاً للشركات التركية في البيال، ووزعوا مناشير تدعو إلى مقاطعة البضائع التركية».
يتفاعل أتراك لبنان مع بلدهم الأم على كل المستويات. فهم على الصعيد الرياضي، مثلاً، يتابعون دوري كرة القدم التركية بشغف. بعضهم أدى الخدمة الإجبارية في الجيش التركي، وبعضهم الآخر أداها في الجيش اللبناني. وهم يطالبون بتوقيع اتفاقية مع لبنان تنص على الاكتفاء بتطبيق خدمة عسكرية واحدة على غرار الاتفاقية بين تركيا وسوريا، كما يطالبون بخفض بدل الإعفاء من الخدمة والبالغ 5500 يورو. وفي الفترة الأخيرة، عممت السفارة التركية على أتراك لبنان قرار البدء بمنح جوازات السفر لمن لم يؤدّ الخدمة العسكرية خلافاً لما كان سارياً.
اندمج الاتراك في الحياة اللبنانية، لكنهم ما زالوا يحافظون على خيط رفيع من الخصوصية. لا تُؤكل محاشي «الدولما» أو «الكوسر» الشبيهة بالتبولة اللبنانية إلا في بيوت عائلات بيروت التركية، مثل عميرات والحاج وزين وإسطنبولي وفتّاح. ولا يمكن أن تستبدل الحلوى صبيحة العيد بأكلة البرغل واللحم إلا في البيوت التركية أيضاً. أدخلت عادات تركية قديمة على حفلات الزفاف. وقد يتزوج الشباب الأتراك بالفتيات اللبنانيات»، لكن الأفضلية تبقى دائماً «للفتاة التركية الأصل».