كلما أصدر مصرف لبنان ميزانيته نصف الشهرية، أثارت أرقامها جدالاً بشأن ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان، إذ يتّهم الحاكم بالإنابة وسيم منصوري، بأنه يحتجزها في إطار سياسته النقدية الرامية إلى تجفيف النقد بهدف السيطرة على سعر الصرف. ادعاء كهذا، يُعدّ هزلياً، ولا سيما أن منصوري أكّد من اليوم الأول لتولّيه مركز الحاكمية بالإنابة أنه لن ينفق من خارج القانون، ولكن هذه الأرقام تعكس واقعاً أشدّ: التناغم بين السياسة المالية والسياسة النقدية على هدف التقشّف. هذا الواقع يشير إلى أن نموذج الاقتصاد السياسي في لبنان يعمل بكفاءة عالية.

في الإصدار الأخير للميزانية نصف الشهرية التي تتضمن الأرقام حتى 15 تموز، بلغت ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان 461637 مليار ليرة، أو ما يوازي 5.15 مليارات دولار. هذا المبلغ لا يعبّر عن صافي العلاقة بين مصرف لبنان والخزينة، إنما هو مبلغ متراكم في حسابات الدولة لديه بمعزل عن حجم الالتزامات المترتبة على الدولة التزامات تجاه مصرف لبنان، وبمعزل عن طبيعته، أي إذا تضمن دولارات مصنّفة «فريش» أو دولارات مصنّفة «لولار». وبحسب المعطيات المتاحة، فإن هذا المبلغ هو خليط من أموال فريش ولولارات وليرة لبنانية تراكمت على مدى السنوات الماضية، وخصوصاً في مرحلة ما بعد 2022 حين بدأت السلطة تعيد تسعير الضرائب سواء بالدولار النقدي أو بالليرة بما يتناسب مع ارتفاع سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
حجم المبلغ المتراكم يعدّ كبيراً، إذ إنه يوازي 150% من الموازنة العامة البالغة 3.44 مليارات دولار، و28% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 18.1 مليار دولار. بمعنى أوضح، لدى الخزينة قدرة إنفاقية مرتفعة، إنما يتطلّب إنفاقها أمرين: الاتفاق على شكل الإنفاق ليكون تشغيلياً أو استثمارياً، وأن يكون الإنفاق مقونناً ومنصوصاً عنه في الموازنة العامة أو صادراً بتشريعات واضحة. وكل خيار من هذه الخيارات يفتح مساراً مختلفاً عن الآخر. فلو اتفق على أن يكون الإنفاق تشغيلياً، فإن تراكم المبلغ لا يكفي لتوازن الموازنة العامة، بل يجب أن يكون الإنفاق مرتبطاً بإيرادات. أما إذا كان الإنفاق استثمارياً، فأي مشروع سينال الأولوية: معامل كهرباء، نظام نقل عام مشترك...
كل هذه المسائل، بما فيها قوننة الإنفاق وصدوره بتشريعات، تأتي ترجمة للسياسات العامة التي تنتهجها السلطة. وبالتالي إن حاكم مصرف لبنان هو جزء منها ولا يفترض به الهيمنة عليها، أو الهيمنة على القرار الاقتصادي فيها. منصوري لا يدّعي ذلك، إنما كل ما يقوله هو أنه من دعاة «الحوكمة» أو «الحكم الرشيد» الذي يفترض أن مخالفة قواعد الانتظام العام هي خطأ جسيم رغم أن قانون النقد والتسليف يمنحه السلطة للقيام بذلك. هو يمارس السلطة من الباب الضيّق تطبيقاً للقواعد المعروفة والمتّبعة، وليس من أي باب آخر مهما قيل غير ذلك. فما يقوم به منصوري اليوم، هو ليس قراره وحده، بل هو قرار اتخذته قوى السلطة في الموازنة العامة بالتناغم مع ما يريده المصرف المركزي لجهة كبح ضخّ الليرة في السوق. وهذه السلطة، بكل مكوّناتها اتّبعت مذهب التقشّف الذي يطبّق على حساب كماش الاقتصاد وعلى ظهر فئات اجتماعية. فالسلطة تمتنع عن تصحيح أجور القطاع العام حتى لا تزيد الإنفاق وتبقى الموازنة «متوازنة». هؤلاء جزء أساسي من حركة الاستهلاك، إذ إنهم يمثّلون نحو 350 ألف أسرة من أصل 1.2 مليون أسرة مقيمة في لبنان. كما أن السلطة، من خلال تطبيق التقشّف، تخنق الاقتصاد أكثر. ففي السابق كانت الموازنة العامة تمثّل أكثر من ربع الناتج، إذ بلغت في ذروتها في السنوات العشر الأخيرة 32% من الناتج (2018)، ولكنها تراجعت بعد الأزمة لتبلغ 19% في 2024. وفي السياق، انخفض الناتج من 54.9 مليار دولار في 2018 إلى 18.1 مليار دولار في 2023 مع توقعات بمزيد من الانخفاض في 2024. أما الإنفاق الاستثماري للخزينة، فقد تراجع من 930 مليون دولار في 2018 إلى 350 مليون دولار في 2024.
هذه الأرقام تشير إلى أن السلطة ترفض الإنفاق وتتقشّف في سبيل الامتناع عن ضخّ النقد لأن ما يهمّها حالياً، وما تراه أولى أولوياتها هو الحفاظ على سعر الصرف. لذا، يبدو واضحاً أن التناغم بين أداء السلطة في رسم السياسات العامة، وتناغمها مع رغبات المركزي في السيطرة على سعر الصرف، منسجمان جداً، إنما كلاهما يدرك بأن هذا الأداء هو «شراء للوقت» على حساب الاقتصاد والمجتمع. كل من يعتبر هذا الأداء «إنجازاً» هو بوق من أبواق السلطة التي أتاحت تكيّف المجتمع مع الأزمة، من خلال تبديد ما يزيد عن 20 مليار دولار على الدعم.
ما هو واضح الآن، أن النموذج الذي كان يعمل منذ عقود بلا أهداف اقتصادية واجتماعية، تكيّف هو أيضاً مع الانهيار، ليعود إلى نشاطه السابق بكفاءة عالية مع فرق بسيط: كان يوزّع «نتاج السرقة»، ولكنه الآن يوزّع الخسائر التي نتجت من السرقة.