من مرفأ بيروت إلى كلّ بقعة في لبنان ترك انفجار الرابع من آب بصماته على ملامح الوجوه والأجساد، وفي النفوس والذاكرة الجماعيّة. لم يحصد فقط الأرواح بل قتل الأحلام أيضاً، حتّى من بقي بعده على قيد الحياة، لم ينجُ منه سوى جسدياً!
رحلة صيد أخيرة
قصص مؤلمة لا تُحصى كان الانفجار وراءها. الرجل الستينيّ الياس الهريرا، أحد المصابين، لم يدر أن حبّه للبحر وصيد السمك سيقوده إلى نقطة مفصليّة في حياته فقط لأنه اختار مرفأ بيروت لممارسة هوايته. «كنت بعيداً عشرة أمتار عن مكان وقوع الانفجار وعندما سمعت صوتاً مدوّياً هرعت إلى السيارة، ثمّ أغمي عليّ فور وقوع الانفجار». يستحضر مشهد إنقاذه الذي لا يزال عالقاً في ذهنه حتى اليوم، «استعدت وعيي بعدما عثر رجال عليّ أثناء عملية البحث عن الضحايا وبدؤوا بسحبي من السيّارة. من يرىَ بأي حالة كانت سيّارتي لن يصدّق أنّني خرجت منها حيّاً».

الياس

تسعة أيّام قضاها الياس في المستشفى خضع خلالها لعمليّة في رأسه. تغيّرت حياته... فهو لم يعد قادراً على العمل وإعالة عائلته، بعدما تسبّب له الانفجار بضرر في أذنه اليسرى وسمعه، وفي ذراعه اليسرى التي لا يستطيع أن يحرّكها باتجاه الأعلى رغم خضوعه لعدد من الجلسات الفيزيائيّة، وخلل في أعصاب يده اليمنى التي لم يعد يتحسّس الأشياء بها. سنتان مرّتا على الانفجار، تابع الياس علاجه خلالهما، متحمّلاً بمفرده تكاليف الفحوص الطبية والصور الشعاعيّة والأدوية من دون أي دعم من الدولة والجهات المختصّة!

شهر واحد من الزواج
لا يُحصر الانفجار ببقعة معيّنة. على الرغم من وقوعه في العاصمة، إلّا أنّ الشظايا التي لم تصب الأجساد هناك، أصابت حتماً القلوب في أي منطقة كانت.
«كنت أظنّ أن الحياة جميلة، لكنّني اكتشفت أنها جميلة لأنّ إيلي كان موجوداً فيها»، بألمٍ تستعيد الشابة نانسي ذكرياتها مع زوجها إيلي خزامي، عنصر فوج إطفاء بيروت الذي سقط ضحية في خلال تأدية مهمته. خبر الانفجار الذي انتشر ونزل كالصاعقة على عائلة إيلي وزوجته وأصدقائه، لم يمنعهم من التمسّك في البداية بأمل عودته إليهم، إلّا أنّ هذا الأمل اندثر بعد العثور على جثّته.
لم يكن إيلي الزوج المحبّ فحسب، بل كان صديق طفولة نانسي. قصّتهما بدأت في السابعة من العمر، كبرا معاً في الحيّ نفسه في بلدة عمشيت، وشهد عقد من الزمن على تمسّكهما ببعضهما البعض على «الحلوة والمرّة». إنّما، لم يكن في الحسبان أن لحظات يمكن أن تخطف أحدهما، بعد شهر واحد من الزواج.

إيلي ونانسي

«كانت أحلامنا بسيطة لكنّها بالنسبة إلينا كبيرة جداً، وكنا نحلم بتكوين عائلة، إلّا أننا حُرمنا من تحقيق ذلك»، تقول نانسي، التي لم يبق لها من هذا الحلم سوى منزلها الذي تعبت مع إيلي من أجل بنائه. انقلبت حياتها رأساً على عقب، حتّى أصغر تفاصيل حياتها تغيّرت، «إيلي كان مفعماً بالحياة والنشاط، وهو سبب ضحكتي وسندي ومصدر قوّتي، من الصعب الاعتياد على عدم وجوده إلى جانبي. الأماكن التي كانت تجمعنا لم تعد لها القيمة نفسها من دونه». وعن مسار التحقيق في الملف، لا تختلف صرخة نانسي عن غيرها من ذوي ضحايا الانفجار، فهي تطالب بتحقيق العدالة في قضيّتهم.

من حلب إلى كندا

سما

من لبنان، الذي أحبّته الطفلة سما إلى حدّ خسارة عينها فيه، إلى كندا التي هاجرت إليها مع عائلتها، قبل 4 أشهر من اليوم بحثاً عن مستقبل أفضل. تجربة قاسية اختبرتها سما في عمر الخمس سنوات في بيروت، يرويها والدها مكحول محمد الحمد، «كنت مع عائلتي في البناية حيث نسكن في الجميزة، حين وقع الانفجار وتسبّب لنا جميعاً بإصابات طفيفة، باستثناء سما التي فقدت عينها بعد تعرّضها إلى إصابة بليغة نتيجة شظايا الزجاج والحديد».
مكحول عاش في الجمّيزة نحو 25 عاماً واعتبرها المنطقة الأكثر أماناً. وفي عام 2016، نقل عائلته، المؤلّفة من زوجته وأبنائه الأربعة، للسكن فيها خوفاً عليهم من الأوضاع الأمنيّة في ريف محافظة حلب. لكنّه، لم يتوقّع أن تخذله بيروت في الرابع من آب 2020، فيخسر عمله ومنزله وتمرّ طفلته بأصعب الظروف.
كنت أظنّ أن الحياة جميلة، لكنّني اكتشفت أنها جميلة لأنّ إيلي كان موجوداً فيها


خضعت سما بعد الانفجار لعملية إزالة عينها التي تضرّرت كليّاً. وبعد ثلاثة أشهر من الانفجار أجريت لها عملية أخرى لاستبدال عينها بعين صناعيّة، وهي لا تزال تخضع حتى الآن للعلاجات اللازمة. سما التي تنظر إلى الدنيا بقلبها وبراءتها تتابع دراستها في كندا، «وهي لا تزال متفائلة ومحبّة للحياة، حتى أن هذه المحنة زادتها قوّة وجرأة وإصراراً على طموحها بأن تصبح طبيبة لتتمكن من علاج الناس»، يقول والدها.
وكما تتمسك الطفلة سما بالأمل، لا يزال المصابون وذوو الضحايا متمسكين بوجوب الكشف عن الحقيقة وإنزال العقاب بالمتورطين لتحقيق بعض من العدالة.