وتضاف إلى أعداد المهاجرين المسجلين حالات تهريب البشر والهجرة غير الشرعية عبر «قوارب الموت»، وخصوصاً في طرابلس وشمال لبنان، وأعداد أخرى لا تزال تنتظر دورها للمغادرة. وأشارت مؤسسة «غالوب» العالمية لاستطلاعات الرأي إلى أن 63 في المئة من المشاركين في استطلاع أجرته هذا العام قالوا إنهم سيغادرون لبنان إذا استطاعوا، علما بأنه «منذ عام 2007، وخلال اثني عشر عاماً، كانت الرغبة في المغادرة تتراوح بين 19% و32%»، بحسب التقرير الذي نشرته «غالوب» قبل أيام. وكانت كندا أكثر الوجهات المرغوبة لدى اللبنانيين (28%)، تليها ألمانيا (19%). وارتبطت دوافع المغادرة أساساً بعدم القدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية. فقد أعلن 85% من المشاركين أنهم يجدون صعوبة في التعايش مع الأزمة الاقتصادية. وفي التفاصيل، تحدث 53% عن افتقارهم إلى المال لشراء الطعام، و31% عن عدم قدرتهم على تأمين تكاليف السكن. و«بلغت الحالة النفسية هذا العام أسوأ معدلاتها منذ بدء الاستطلاعات عام 2006، وذلك في ما يخص اختبار مشاعر التوتر (74 في المئة) والحزن (56 في المئة) والغضب (49 في المئة) لفترات طويلة خلال اليوم».
الموجة الثالثة من «التهجير» تعيد تموضع السكان حسب انتماءاتهم
اللافت في موجة الهجرة الثالثة أنها «تطال الكوادر الكبيرة والمتوسطة وذوي الكفاءات العالية والمؤهلات التي تجعلهم موارد ذهبية للبلدان التي يقصدونها، في حين حصلت موجة الهجرة الثانية بإلحاح الضغوط الأمنية والاجتماعية، وطالت بشكل أساسي أصحاب الكفاءات المتدنّية وغير المتعلّمين»، وفق الباحث المتخصص في علم الاجتماع زهير حطب. والمعروف عن هجرة الكوادر أنها «هجرة دائمة وطويلة الأمد»، ما يهدد بخسارة الرأسمال البشري اللبناني الذي يعوّل عليه في إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد. وهي خسارة «يصعب أن يعوّضها الجيل القادم الذي أثّرت جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية سلباً على تكوينه التربوي ورفعت مستوى التخلف العلمي لديه».
يتوقّع حطب أن تؤدي موجة الهجرة الراهنة إلى تغيير وجه لبنان السكاني والاجتماعي ليحاكي بقية الدول العربية. ويتحدث عن ثلاثة مصافٍ للتراجع السكاني: «هجرة أعداد كبيرة من اللبنانيين وخاصة فئة الشباب الذين يعوّل عليهم لتجديد السكان، تراجع معدلات الإنجاب جراء الأزمة الاقتصادية، واستبدال عشرات آلاف اللبنانيين بمئات الآلاف من النازحين». ولا يحدث ذلك، بحسب حطب، ببراءة، وإنما «هناك استراتيجيات إقليمية وتوجهات سياسية لاستبدال ونقل السكان في لبنان وخاصة في المناطق ذات الانتماءات الطائفية، سواء لإنشاء أحزمة أمنية حول المدن والحدود أو لأسباب أخرى».
لاحظ حطب ذلك من خلال دراسة أعدّها حول النسيج الاجتماعي في الأحياء المختلطة، اختار فيها منطقة رأس النبع نموذجاً، وتوصّل إلى أنه «يجري استبدال المهاجرين في الأحياء المختلطة بأفراد ينتمون إلى فئة معينة لجهة المذهب أو حتى التقليد ضمن المذهب، لتفكيك الحيّز المشترك وإعادة التقوقع وانغلاق كل فئة في منطقة على حدة». الحال، «تهدّد الأمن الاجتماعي لأنها تعيد التجمّعات السكنية ذات الانتماء الواحد كالقبائل والعشائر وخاصة في ظل غياب حكومة فعالة ومجتمعات مدنية راسخة».