عندما باشرت وزارة الثقافة مشروع بناء «متحف مدينة بيروت» على العقار 208 - المرفأ في وسط بيروت، قبل بضع سنوات، حدثت مواجهة مع «جيران» المتحف وبعض الجمعيات والمختصين بحماية الآثار. يومذاك، ولّدت المواجهة، المسنودة إلى تقارير علمية، سؤالاً عريضاً عن «الغاية» من ردم متحفٍ طبيعي قائم وبناء متحفٍ «صديق للبيئة والجوار» على أنقاضه؟اليوم، لا يزال السؤال هو نفسه، فيما صاحب الجواب، أي الدولة، مستمرة في إنكارها لأهمية المكتشفات الأثرية في العقار (حيث كانت سينما ريفولي سابقاً) الذي يشكّل أحد امتدادات التل الأثري الموضوع على لائحة الجرد العام للأبنية الأثرية. يحدث ذلك، رغم التقارير العلمية المتخصصة التي تؤرشف قصة مكتشفات وجدت في الموقع تعود إلى آلاف السنين. آخر تلك التقارير وضعته خبيرة الآثار لدى منظمة اليونيسكو، كيارا ديزي بارديتشي، من دون أن يلقى صداه لدى الدولة، برغم صدوره في الثامن عشر من حزيران من العام الماضي.
في إطار تقييمها لوضع الموقع الذي سيقام متحف مدينة بيروت فوقه، تؤكد بارديتشي أن «ما نراه هو مجرّد لمحة من رأس جبل الجليد». إذ أن هذا الموقع «يحمل أكثر من 5000 سنة من التاريخ الحضاري الإنساني، حتى قبل العصر البرونزي (...) وهو يؤرخ لكل الحضارات التي تعاقبت عليه، من الكنعانية إلى الإغريقية والهيللينية والرومانية والأموية والعباسية والصليبية والمماليك، وصولاً إلى العثمانية». وتخلص الى أن ما يوجد هنا هو متحف طبيعي قائم بذاته، والإكتشافات المتتالية تجعل من هذه الرقعة الجغرافية كنزاً حضارياً متكاملاً، كما أن هذه الاثار تشهد على كل المتغيّرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الحربية/ العسكرية/ الدفاعية لبيروت بأسوارها.
انطلاقاً من ذلك السرد التاريخي، يصبح السؤال المشروع: لماذا الإصرار على بناء متحفٍ فوق ما هو موجود أصلاً ويمكن أن يكون متحفاً بذاته؟ وماذا عن التصميم الذي وضعه معماري المتاحف الشهير الإيطالي رينزو بيانو ويراعي فيه دمج الماضي بالحاضر؟ وهل ستكون الدولة قادرة على مراعاة ذلك الدمج، خصوصاً أن ما قام سابقاً تحت هذا العنوان لا يبشّر بالكثير من الخير؟
جزء من تلك الإجابات أوردته بارديتشي في تقريرها، إذ حذّرت من أن الآثار المكتشفة عرضة لـ«الإزالة»، برغم أهميتها التي تعيد بناء خارطة تل بيروت بشكل شبه متكامل. بنت الخبيرة تقريرها على المعطيات الميدانية والكشف المباشر الذي أكّد أن الموقع هو امتداد لتل بيروت الأثري، من دون أي لبس، وهو اساسي لفهم نشوء المدينة وتطورها ويجب الحفاظ عليه في المكان عينه. وتلفت الى أن ما جرى الكشف عنه حديثاً يمكن أن يغيّر معطيات كثيرة بخصوص تاريخ المدينة خلال الفترة البيزنطية، وأن هناك إمكانية لاكتشافات جديدة.
على هذا الأساس، يصبح الحديث عن بناء المتحف، وفقاً لتصميمه الحالي، ضرباً من ضروب القضاء على الآثار لا الحفاظ عليها، إذ ستكون «له آثار سلبية جداً لناحية القضاء على هذا المخزون الاثري نهائياً، فما هو موجود يشكل قيمة مضافة لمتحف مدينة بيروت، واذا ما جرى الحفاظ على هذا المخزون، سيؤكد بالتالي غاية تأسيس المتحف، فهو الشاهد الأصدق على المدينة القديمة وهو نافذة لتلك المدينة الاثرية، وبالتالي هو بذاته متحف المدينة».
ولذلك يجب - بحسب بارديتشي - إعادة النظر بتصميم المتحف، للتأكيد على الحفاظ على المناطق الاثرية في مكانها ولإدخالها في تصميم مشروع المتحف، بحيث تكون متاحة للزوار، وذلك «من خلال الحد من عدد الطوابق السفلية من أربع الى اثنين للحفاظ على ما هو موجود في الأسفل». واقترحت الخبيرة الأثرية - استبعاداً لخسارة بعض الطوابق من المتحف المزمع إنشاؤه - توزيع المساحات المتبقية للطابقين السفليين الاخيرين على أجنحة/ pavilion إضافية تمتد على مساحة الموقع الأثري تتيح الفرصة للزوار لرؤية الاثار بشكلها الحقيقي.
من ذلك الموقع، تنطلق بارديتشي في مقترحاتها إلى ما هو أرحب. إلى إعادة النظر ودراسة الآثار التي جرى اكتشافها في بيروت سواء من قبل المديرية العامة للآثار أو من قبل البعثات الدولية، انطلاقاَ من الحفريات التي أجرتها مديرية الاثار في تل بيروت الاثري، ووسط المدينة خلال الفترات السابقة. كما طلبت بأن تضمّ الدراسة الموسعة منطقة ساحة الشهداء والسراي الصغير ومراجعة كل نتائج هذه الحفريات «فكل ذلك أساسي لإعادة استكمال هذا المتحف، كعمل ناجح وكجزء لا يتجزأ من التل الأثري. وبالتالي تصبح الزيارة الى المتحف والى التل الاثري زيارة واحدة».
بناء المتحف وفقاً لتصميمه الحالي سيقضي على مخزون أثري يشكّل كنزاً حضارياً وفق اليونيسكو


ثمة جانب آخر يفترض أن يكون أكثر إلحاحاً، وهو أن ما سيبُنى ليس مجرد بناء خاص، ولا هو شأن خاص بالتالي، وإنما متحف للآثار، وهو نقطة إضافية كي تعطى مساحة أرحب للتمحيص والتفكير والتعديل، فحريّ هنا أن يتم أخذ هذا الجانب في الإعتبار، وهو ما تشدّد عليه الخبيرة. أكثر من ذلك، ثمة جانب أخلاقي يفترض مراعاته، وهو أن «بناء متحف للآثار لا يدمر الآثار التي يبنى عليها، بل يتكامل معها بواسطة دمجها في مكانها». وهذا ليس معياراً خاصاً بذلك الموقع، وإنما معيار عالمي، التزمت به «متاحف راقية في بلدان تحترم تاريخها وآثارها». تعدّد بارديتشي بعض تلك المتاحف، منها متحف الأكروبوليس في أثينا ومتحف آثار مدينة برشلونة والمتحف البلدي للآثار في مدينة كرتاجينا في اسبانيا، ومتحف نارونا في كرواتيا، وغيرها الكثير.
كل تلك المتاحف أبقت الآثار التي تم الكشف عنها خلال الحفريات في مكانها. لم تعمد إلى تفكيكها، وإنما عملت على تعديل المخططات التي كان قد اقترحها معماريون، ومنهم رنزو بيانو، بحيث جرى دمج المكتشفات الأثرية في الهيكل المعماري للمتاحف كي يتاح للزوار التعرف إليها والتفاعل معها بطرق حديثة تحترم أصالتها وبنيانها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا ستفعل وزارة الثقافة ـ المديرية العامة للآثار ـ في الآثار المكتشفة في موقع متحف تاريخ مدينة بيروت؟ هل «ستشغّل» هذه المرة حسّها الوطني، وتعمل على تعديل التصميم القائم حالياً من أجل الإبقاء على هوية بيروت؟ أم أنها ستكمل بسياستها السابقة التي لم ينتج عنها سوى الدمار وطمر الآثار؟