صدر أخيراً حكم قضائي قضى بسجن صاحب مستودع لحوم فاسدة في منطقة الأشرفية، تبيّن أن لحومه «ملوثة جرثومياً». العقوبة كانت سنة سجناً فقط! وهي العقوبة الأقصى في القانون، الذي، بحسب الخبراء، يحتاج إلى تعديل لتحقيق معنى «الزجر» الحقيقي. إنها، مرة جديدة، إشكالية عدم تناسب العقوبة مع الجرم... وهو هنا يُهدد صحة المواطن وحياته.الأمن الغذائي في لبنان ليس بخير. هذا ما تكشفه، على الأقل، الملفات القضائية التي تتوالى يوماً بعد يوم في المحاكم، والتي تتناول شكاوى عن لحوم فاسدة هنا، أو لحوم منتهية الصلاحية هناك، أو حتى لحوم ملوثة جرثومياً. إليكم ما حصل في قضية، صدر فيها حكم قضائي لافت أخيراً.
توالت الشكاوى على مستودع يملكه أحمد ياسين بأنه يبيع لحوماً ودجاجاً منتهية صلاحيتهما في محلة الأشرفية. بعد ذلك تحركت مديرية حماية المستهلك، وأخذت عينة من تلك اللحوم، التي ضبطت كميات منها وهي منتهية الصلاحية داخل المستودع المذكور، وجرى حجزها داخل البردات ريثما تنتهي الاجراءات اللازمة. عمد مراقبو دائرة «قمع الغش» في مديرية حماية المستهلك، وتنفيذا لقرار صادر عن النيابة العامة، إلى ختم البرادات داخل المستودع المذكور بالشمع الأحمر تمهيداً لاتلاف اللحوم. بيد أن صاحب المستودع تمكن لاحقاً من فك مسكات البرادات المختومة بالشمع الأحمر، وقام بإخفاء وتهريب اللحوم المنتهية الصلاحية.

هنا ترجح أطراف متابعة لهذا الملف أن يكون صاحب المستودع قد قام في وقتها بإعادة بيع تلك اللحوم في السوق، لكن لم يعلم أحد كيف استطاع هذا الأخير تحدي القرار القضائي، ثم المضي قدما بالعبث بصحة الناس وأرواحهم.
لم ينته الموضوع عند هذا الحد، أي موضوع صلاحية اللحوم في المستودع، ليتعداه إلى أخطر من ذلك، إذ إن الفحص الجرثومي الذي أُجري على عينة من الدجاج في معهد البحوث الصناعية أظهر أن هذه العينة «ملوثة جرثومياً».
برغم ذلك استطاع المدعى عليه صاحب المستودع أن يتوارى عن الأنظار، محاولا التملص من العقاب، في سيناريو يتكرر كثيراً في قضايا مشابهة. بسحر ساحر تنشقّ الأرض لتبتلع أكثر الأشخاص خطورة والمطلوبين للقضاء، لتخرج القوى الأمنية وتعلن عدم عثورها عليه، علماً أن أماكن وجوده وحركة تنقلاته معروفة. هذه النقطة لا يُسال عنها القضاء، بقدر ما تسأل عنها الأجهزة الأمنية، مع عدم إعفاء القضاء، بالتأكيد، لما له من سلطة على الضابطة العدلية.
سنتان على تلك الحادثة ويصدر، أخيراً، الحكم القضائي عن القاضي المنفرد الجزائي في بيروت باسم تقي الدين. الحكم غيابي، وهو يقضي بإدانة «تاجر اللحوم الفاسدة» بالمادة 109 من قانون حماية المستهلك، والمتعلقة بالاتجار بمواد غذائية فاسدة أو ملوثة، وبالتالي «حبسه مدة سنة وتغريمه 50 مليون ليرة». يُذكر أن هذا سقف العقوبة، بحسب نص القانون، لتلك الجريمة، كما نص الحكم على تجريم الشخص المذكور بالمادة 74 من القانون نفسه، معطوفة على المادة 422 من قانون العقوبات، لكونه «أقدم على إخفاء هذه اللحوم المحجوزة قانونياً بعهدته، مما حال دون تنفيذ قرار النيابة العامة بإتلاف هذه اللحوم، وحبسه سندا لذلك مدّة سنة وتغريمه 100 ألف ليرة، مع إدغام هاتين العقوبتين بحيث تنفذ بحقه الأشدّ، أي سنة و50 مليون ليرة غرامة، وبالزام الأخير لصق خلاصة الحكم على باب مستودعه سندا لأحكام المادة 122 من قانون حماية المستهلك».
بالتأكيد من حق البعض أن يكون له مآخذ على حجم العقوبة «الخفيف» الوارد في الحكم، لعدم تناسبه و«الجرم الخطير» الذي ارتكبه صاحب المستودع، لكن، بعد مراجعة المادة المذكورة أعلاه من قانون حماية المستهلك، يتضح أن تلك العقوبة هي الأقصى، وتالياً «لا يلام القاضي هنا، الذي حتى لو رغب في مضاعفة العقوبة، فلن يتمكن من ذلك، نظراً لتقيده بالنص القانوني». هذا ما ردده بعض الخبراء القانونيين تعليقاً على الحكم الصادر. إذاً، اللوم هنا على التشريع لا على القضاء، فالتشريع «الذي يمكن أن يعاقب على جرم السرقة البسيطة بـ3 سنوات سجناً، فيما لا يعاقب إلا بسنة سجن واحدة في جرم يتعلق بصحة الناس، وبتعبير أدق بحياة الناس». هل يمكن مقارنة خطر سرقة سيارة بخطر بيع لحوم فاسدة يمكن أن تودي بحياة عشرات، وربما مئات، من المواطنين المستهلكين؟ هذا السؤال برسم المشرّعين والقضاء معاً، وأيضاً وزارة العدل والهيئات العاملة لديها، التي تُعنى بتحديث القوانين.
تعلق المحامية رلى عاصي على الحكم القضائي، فتقول: «إذا كنا عاجزين عن تعديل القانون في هذا الشأن، فإنه ينبغي على الأقل تعزيز أجهزة الرقابة لهذه الناحية، لما يحمله هذا الموضوع من خطورة تمس أرواح الناس». تستشهد عاصي بحكم صادر عن المحكمة الجزائية البلجيكية في أيار 2012، في قضية مماثلة، إذ حينها «قضت المحكمة بسجن مندوب إحدى شركات بيع اللحوم بالجملة أربع سنوات وبتدفيعه غرامة تبلغ 11 الف يورو، ومصادرة أكثر من 300 الف يورو، وهي قيمة تعادل الأرباح المحققة نتيجة التزوير، بعدما أعاد تغليف منتجات منتهية الصلاحية، وأعطاها تاريخاً مزوراً وباعها للمستهلكين. أما الشركة، التي اعلنت افلاسها، فقد جرى تغريمها بـ 165 ألف يورو مع وقف التنفيذ».
وإلى فرنسا، «الأم الحنونة» للتشريع اللبناني، فإن العقوبة تبدو فيها مضاعفة مقارنة بالقانون اللبناني بشأن الغش أو الاتجار بمواد غذائية فاسدة أو ملوثة أو منتهية الصلاحية. فقانون الاستهلاك الفرنسي يعاقب على هذا الفعل بالسجن سنتين، وبالتغريم 375 ألف يورو، فيما تنص المادة 109 من قانون حماية المستهلك اللبناني على أنه: «يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر الى سنة، وبالغرامة من خمسة وعشرين مليونا الى خمسين مليون ليرة من اقدم، وهو عالم بالامر، على: الغش في مواد مختصة بغذاء الانسان أو الحيوان أو في عقاقير أو اشربة أو منتجات صناعية أو زراعية أو طبيعية. كذلك الاتجار بمواد غذائية فاسدة أو ملوثة أو منتهية مدة استعمالها أو التعامل بها. كذلك حيازة منتجات أو مواد من تلك الموصوفة في الفقرتين السابقتين، إضافة إلى الحض، بإحدى الوسائل المنصوص عليها، على استعمال احدى المواد المذكورة في هذه المادة».
هكذا، تظهر هذه المقارنات الأهمية العالية التي تعطيها أوروبا لصحة غذاء المواطن فيها، في مقابل «خفة» مستغربة في نصوص القانون اللبناني في موضوع الأغذية الفاسدة. يقال إن فلسفة العقوبات، في القوانين، هي «زجر» كل من تسوّل له نفسه ارتكاب جرائم مماثلة. فهل يظن أحد أن تاجر لحوم فاسدة، يجني الأرباح الهائلة ويجمع الثروات، سوف تزجره عقوبة سنة سجنا؟ هذا إن سُجن طبعاً، ولم يبق إلى الأبد «متوارياً عن الأنظار».