تحت التهديد والضغط، ألغت جمعيّة «براود ليبانون» مؤتمراً كانت ستنظمه في فندق مونرو في بيروت، أمس، بمناسبة اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثليّة الجنسيّة والتحوّل الجنسي. نجحت «هيئة علماء المسلمين»، تحت شعار «مكافحة الرذيلة»، في تجنيد «الدولة» واستخدامها كقوة قهر لفرض معتقداتها ضد فئة مهمّشة من المجتمع، في تعدٍّ متمادٍ على الحريّات المصونة في الدستور.


درجت العادة سنوياً على تنظيم هذا المؤتمر، بهدف دعم قضية حقوق المثليين والمثليات والمتحوّلين جنسياً في لبنان، ومناهضة العنف والتمييز المُمارس بحقهم، والدفع نحو مجتمع يحترم حقوق الناس من دون تمييز. ولكن، منذ صباح السبت الماضي، بدأت جمعيّة «براود ليبانون» تتلقى رسائل نصيّة عبر خدمة «واتساب»، تهدد وتتوعّد إن لم يُلغَ هذا المؤتمر. أُتبعَت هذه الرسائل ببيان صادر عن المكتب الإعلامي لـ«هيئة علماء المسلمين»، تحت عنوان «حرب الفضيلة على الرذيلة»، تحذّر فيه من مغبة استكمال هذا «المهرجان العلنيّ الذي يشجّع على الشذوذ تحت شعار رهاب المثلية»، وتدعو فيه وزير الداخليّة والمدير العام للأمن العام للاستجابة لطلب مفتي الجمهوريّة وإلغاء النشاط الذي صنّفته بالخارج عن القانون «باعتبار أنّ الحضّ على ارتكاب الجريمة يعتبر بذاته فعلاً جرمياً يعاقب عليه القانون»، كذلك توجّهت إلى النيابة العامّة «للادعاء على المرتكبين»، وإلى المرجعيّات الدينيّة والرؤساء الثلاثة «للقيام بواجباتهم ووضع حدّ فوري لهذا التمادي الذي يهدّد أمن المجتمع والقيم الأخلاقيّة والصحّة العامّة وبنية العائلات اللبنانيّة»، وإلّا فإنها تحمّل المسؤولين «مغبة تداعيات نزول الغيارى على العفة والشرف لمنع المؤتمر المؤامرة».
بدلاً من أن تقوم الدولة بواجباتها في حماية المؤتمر وحرية الاجتماع، تلقّى مدير الجمعيّة بيرتو ماسكو اتصالاً من الفندق يطلب منه انتظار اتصال من الضابط في الجيش اللبناني المسؤول عن أمن الفندق (باعتبار أن الفندق مملوك من الجيش اللبناني). يقول ماسكو: «انتظرت طول اليوم دون أن أتلقى الاتصال من الضابط، ومساءً اتصل بي القائمون على الفندق لإعلامي بإلغاء الحفل لأسباب أمنيّة، إذ إن هناك تهديدات بالقيام بتظاهرات عنفيّة أمام الفندق بالتزامن مع انعقاد المؤتمر، ولا يمكن الجيش أن يضمن سلامة المشاركين». علماً أن المؤتمر يعقد في المكان نفسه للمرّة الثالثة على التوالي، وكان سيتخلّله عرض تقرير أعدّته الجمعيّة حول «مجتمع المثليين في لبنان»، اطلعت عليه لجنة مناهضة التعذيب في الأمم المتحدة، ويعرض حالات تعذيب وتعنيف تعرّض لها بعض أعضاء هذا المجتمع.
تصوّر «هيئة علماء المسلمين» إلغاء المؤتمر بمثابة «انتصار لها ولكل الغيارى على القيم»، فهي نجحت في فرض اعتقاداتها على «الجمهوريّة اللبنانيّة» التي ارتآها الدستور مدنيّة، وجعل كلّ مواطنيها سواسية أمام القانون في ممارسة حريّاتهم والتعبير عنها. يقول رئيس «هيئة علماء المسلمين» رائد حليحل إنه «لم يتواصل مع الفندق، بل مع مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة ووزير الداخليّة والأمن العام، التي قامت بواجباتها لوقف عمل يتنافى مع الشرع ويخالف القانون ويشجّع على الشذوذ المُدان قانوناً». يمتعض الشيخ حليحل من سؤاله عن التهديد الذي أطلقه في انتهاك فاضح لأحكام الدستور وشرعة حقوق الإنسان، وردّ قائلاً: «ما قمنا به ينسجم مع قناعاتنا، أنا لم أوقّع إلّا على الامتثال لله، وليس على شرعة حقوق الإنسان. وهذه الممارسات المرضيّة لا نريد تكريسها في مجتمعنا. من المفترض مساءلة من تجرأ على مخالفة الدين والأخلاق والقيم».
لا شكّ في أن ما حصل يشكّل اعتداءً صارخاً على الحريّات الشخصيّة والخيارات الجنسيّة التي تشكّل جزءاً لا يتجزّأ من حقوق الإنسان. وإذا كان موقف «هيئة علماء المسلمين» الرافض للمثليّة الجنسيّة متوقعاً، يبقى موقف «الدولة اللبنانيّة» المنصاع لرغبة جماعة معيّنة صادماً، باعتبارها أولاً مؤتمنة على حماية الدستور الذي يكفل حرية المعتقد لكلّ المواطنين، كما ممارسة الشعائر الدينيّة لكلّ الجماعات الطائفيّة، وثانياً مسؤولة عن أمن كلّ مواطنيها وحريّاتهم المختلفة، وثالثاً ملزمة بتطبيق الشرعات الدوليّة في ممارساتها القانونيّة.
تبرّر الأجهزة الأمنيّة قمعها الحريّات وانصياعها لرغبات الجماعات الدينيّة بإلغاء المؤتمر، بالإشارة إلى أن «المؤتمر لم يحصل على رخصة»، بحسب المكتب الإعلامي في الأمن العام، ورداً على أن المؤتمر يقام في مكان خاصّ لا مكان عام ولا يحتاج إلى ترخيص، يردّ الأمن العام «أعطيناك جواباً يبرّر ما قمنا به، ولا يوجد ما نضيفه». في المقابل، تشير مصادر وزارة الداخليّة أنها تابعت الموضوع مع الأمن العام بعد تلقيها اتصالاً من مفتي الجمهوريّة، مشيرة إلى وجود مبرّرات قانونيّة للمنع، علماً أن «براود ليبانون» مرخصّة منذ عام 2014 وتعمل وفق القوانين المرعيّة. فيما حاولت «الأخبار» الاتصال بالفندق، إلّا أنهم فضّلوا عدم الردّ، لكون الإدارة غير موجودة يوم الأحد، كذلك امتنعوا عن إيصالنا بأحد من المديرين.
في مؤتمر صحافي عقدته جمعية «براود ليبانون»، أمس، لشرح ملابسات ما حصل، علّق الزميل بيار أبي صعب، قائلاً إنّ «المشكلة لا تكمن بوجود حفنة من المتعصبين تمارس ضغوطاً عنفيّة، بل بكونها تمارس إرهابها وتنجح، ما يعطي انطباعاً بأن الدولة والقانون معها، وهنا مكمن الخطر»، وقال إن «المؤسّسات السياسيّة والأمنيّة ترضخ لها، ولا تقوم بدورها في حماية مواطنيها، ولا تؤدي واجبها في حماية النشاط، عبر منع هؤلاء من فرض معتقداتهم على الآخرين، بدلاً من ممارسة حريّتهم في المشاركة في النقاش خلال المؤتمر»، وأضاف أبي صعب: «عيب على الدولة بكل مسؤوليها والأجهزة الأمنيّة عدم قيامها بدورها كحامٍ للديمقراطيّة وحرية التعبير، وهي التي ستكون عرضة للمحاسبة عن تراجع الحريّات لا المتعصبين الذين هم بطبيعة الحال متعصبون».
واشار المحامي خالد مرعب إلى أن تجاوب الدولة وأجهزتها مع مطالب هذه الجمعيّات المعروفة بارتباطها بجمعيات إرهابيّة ضد جمعيّات تنادي بحقوق الإنسان، يجعل أي مطالبة بأي حقّ مكرّس قانوناً وفي الشرعات الدوليّة عرضة للنسف، عبر التهديد والابتزاز. ويتابع مرعب قائلاً إن «تقاعس الأجهزة الأمنيّة عن تأمين سلامة النشاط والتخبّط في تفسير قرارها، هو عنوان شكاوى على هذه الجماعات بجرم التهديد والتعريض للخطر، وعلى الوزارات المعنيّة التي لم تتحمّل مسؤولياتها، وعلى الفندق الذي فسخ عقداً مبرماً».