لم يعد مجلس النواب الممدِّد لنفسه يمارس صلاحيته التشريعية إلا لخدمة المال، أو بمعنى أدق، حماية الثروات الشخصية من الضغوط الخارجية. فبعد مرور سنة تقريباً على آخر جلسة تشريعية انعقدت تحت تهويل فرض العقوبات الأميركية، إن لم يعدّل لبنان قوانينه بما يتناسب مع «فاتكا» (قانون الامتثال الضريبي على حسابات الأميركيين في الخارج)، ينعقد مجلس النواب اليوم في جلسة تشريعية، تنعقد أيضاً تحت تهويل فرض منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD)، الاتحاد الأوروبي تحديداً، عقوبات على لبنان، إن لم يعدّل قوانينه بما يتناسب مع "غاتكا" (اتفاقية تبادل المعلومات التلقائية).

انضم لبنان إلى "المنتدى العالمي للشفافية وتبادل المعلومات للأغراض الضريبية"، وأعلن، في أيار الماضي، التزام اتفاقية تبادل المعلومات التلقائية، وأُعطي مهلة حتى نهاية شهر أيلول لترجمة التزامه (مُددت إلى آخر هذه السنة).
تهدف هذه الاتفاقية إلى تمكين الحكومات من محاربة التهرّب الضريبي، ومن المقرر تفعيلها عام 2018. ويجب على لبنان إقرار تعديلات ضرورية على أربعة قوانين أساسية (القوانين المتعلقة بالأسهم لحامله، والتراست، وقانون الإجراءات الضريبية، وقانون تبادل المعلومات الضريبية)، ووضع قواعد محلية لجمع المعلومات والإبلاغ عنها... وهذه التعديلات بمثابة شرط مسبق كي لا يُدرَج لبنان على قائمة الدول غير المتعاونة، وبالتالي لا تُعرَّض معاملاته المصرفية مع مصارف المراسلة لمخاطر De Risking.
الجلسة اليوم ستكون شبيهة بجلسة «تشريع الضرورة» العام الماضي، حينما اجتمع مجلس النواب لإقرار قوانين تبييض الأموال و«تمويل الإرهاب» خوفاً من التبعات التي قد تطاول مصالح قوى اقتصادية. وكذلك، الآن، يجتمع المجلس المعطّل ليقرّ التعديلات المطلوبة، خوفاً من أن يُدرج لبنان على اللوائح السوداء. الأمر الذي قد يترتب عليه تبعات تراوح بين خفض التصنيفات الائتمانية للبنان (ما يرفع تكاليف الاقتراض) ورفض المصارف والشركات الأجنبية التعامل مع المؤسسات المالية والشركات اللبنانية، ما من شأنه أن يضرّ بمصالحها، إضافةً إلى عقوبات قد تحددها مجموعة العشرين.
الضغوط من أجل عقد الجلسة التشريعية بدأت منذ شهور، وبحسب تعميم صدر عن جمعية مصارف لبنان حول وقائع اللقاء الشهري بين حاكم مصرف لبنان ولجنة الرقابة وجمعية المصارف، المنعقد في 14 تموز 2016، أشار حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، إلى أنه "إن لم يجتمع المجلس ولم تقرّ التعديلات القانونية المطلوبة، يمكن مصرف لبنان أن يصدر تعميماً يستند إلى القانون 44 (مكافحة تبييض الأموال) الذي يعتبر التهرّب الضريبي وفقه جريمة مالية".ويجيز هذا التعميم للمؤسسات المالية اللبنانية التجاوب مع المجتمع الدولي في ما يخصّ الطلبات الواردة من الخارج (On Request). ولكن يبقى هذا الإجراء مؤقتاً، إذ لا يمكن تطبيق التبادل التلقائي دون انضمام لبنان إلى "المعاهدة الدولية ذات العلاقة"، بحسب ما جاء في التعميم. وتفيد المعلومات بأن مواقف OECD لم تبلغ إيجابيتها أكثر من منح لبنان مهلة إضافية قصيرة، إذ اعتبرت أن إجراءات مصرف لبنان غير كافية، لكونها تتعارض مع أحكام القانون.

شرح الاتفاقية

منذ مدّة، زارت الأمينة العامة لـ"المنتدى الدولي"، مونيكا باتي، لبنان، وشاركت في ورشة عمل نظّمتها وزارة المالية بالتعاون مع «المنتدى العالمي»، لشرح أحكام التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية. قالت إن «الاتفاق المتعدّد الأطراف للمساعدة المتبادلة في المجال الضريبي» (MCAA)، هو اتفاق يوفّر آلية موحدة وفعّالة لتسهيل التبادل التلقائي للمعلومات، وفقاً لـ«معيار التبادل التلقائي للمعلومات المالية في المسائل الضريبية»، إذ إنه «لا حاجة لاتفاقات ثنائية متعددة بوجوده. كذلك فإنه يمنح الموقعين القدرة الكاملة على تحديد طبيعة علاقات التبادل التي تدخل فيها، وتعطيهم الصلاحية لهندستها، بما يتناسب مع معاييرهم من السريّة وحماية المعلومات». ويعد هذا الاتفاق الإطار القانوني لتفعيل تبادل المعلومات التلقائي.

يقدِّر الأمين العام لجمعية مصارف لبنان حجم التهرّب الضريبي بما يفوق 1500 مليون دولار سنوياً

على المستوى البنيوي، إن «اتفاقية التبادل التلقائي للمعلومات» (CRS) هي «النموذج المعولم لفاتكا»، أي مشروع دولي لجمع المعلومات الضريبية بناءً على آلية تبادل معلومات تلقائية، بدلاً من الآلية السارية في الوقت الحالي، التي يقوم من خلالها تبادل المعلومات بناءً على طلب (دولة من أخرى). تُعنى اتفاقية التبادل التلقائي بالمعلومات المتعلقة بالمكلّفين دفع الضرائب لإحدى الدول المشاركة، المالكين لحسابات في مؤسسات مالية تقع في دول أخرى مشاركة. وقد تختلف أطر التكليف باختلاف قوانين الضرائب في تلك الدول. إذ يمكن أن تعرّف دولة «المكلّف» بأنه أي حامل لجنسيتها بغض النظر عن المكان الذي يحقق فيه الربح، فيما قد تُعنى دول أخرى حصرياً بالأرباح المحققة داخل حدودها القانونية. وجعل مهندسو مجموعة العشرين و«منظمة التعاون والتنمية» (OECD) «فاتكا» النموذج المعتمد في بناء اتفاقية التبادل التلقائي، بحجة أن ذلك سيسهّل تطبيق CRS، إذ إن غالبية الأنظمة والآليات التي سيتطلبها الأمر، باتت موجودة لدى المؤسسات المالية منذ أن فرض عليها «فاتكا». وخلال ورشة العمل، شرح نائب الأمين العام للمنتدى، دونال غودفراي، أن اتفاقية تبادل التلقائي للمعلومات تقضي بوجوب قيام جميع المؤسسات التي اعتُبرَت، بحسب تعريف الاتفاق، «مؤسسات مالية» في «الدول المشاركة»، بجمع المعلومات المتعلّقة بأصحاب الحسابات المقيمين في دول مشاركة أخرى وبحساباتهم، وتقديمها كتقارير سنوية تتضمن هذه المعلومات إلى الدوائر الضريبية المحلية. وتقوم الأخيرة بدورها، بإرسال التقارير إلى الدوائر الضريبية في الدول التي ينتمي إليها أصحاب الحسابات.

قلق المصرفيين اللبنانيين

أثارت الطبيعة التلقائية للآلية هذه قلق المصرفيين اللبنانيين، الذين عبّروا عن ذلك، خلال الاجتماع الشهري المذكور بين حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، وجمعية مصارف لبنان، إذ إنّهم أوضحوا لسلامة، إثر إبلاغه إياهم أن هيئة التحقيق الخاصة (المنشأة في مصرف لبنان) ستكون الوسيط في عملية نقل المعلومات من لبنان إلى الخارج، أنهم غير قلقين حيال آلية تسليم لبنان للمعلومات إلى الخارج، بل حيال المعلومات التي ستسلّمها تلك الدول إلى لبنان، والتي ستصل إلى وزارة المالية. وتركّزت تساؤلاتهم، بحسب المصادر، على المكان الذي ستصبّ فيه هذه المعلومات، وكيف سيكون التعامل معها، وما الذي يضمن الّا تستخدم للابتزاز. أي إنّ المجتمعين بدوا مهتمين أكثر بإيجاد آليات لإخفاء المعلومات التي سترد عن اللبنانيين وحجم مداخيلهم المحققة في الخارج، وحجم ثرواتهم المودعة هناك، والتي قد يكون جزءاً منها قد تحقق محلياً دون أن يجري التصريح عنه. وقد انعكس هذا القلق في التعميم الذي صدر عن جمعية مصارف لبنان على أثر الاجتماع المذكور أعلاه، إذ أشار إلى أنه في ما يتعلق بالمعلومات الواردة إلى لبنان، "فقد أجمع المشاركون على ضرورة حمايتها من موقع تجميعها، كذلك من خلال آلية موثوقة للولوج إليها، كي لا تكون سبباً لانعكاسات سلبية مهمة على الاقتصاد اللبناني من خلال التدفقات المالية والنقدية إلى البلد".
مصدر قلق المصرفيين يكمن وراء الإصرار على إبقاء السريّة المصرفية، في حين أنّه بين "فاتكا" و"غاتكا" لم يعد سارياً مفعولها على حسابات العملاء "المكلّفين دفع الضرائب" في دول أخرى (وكان ذلك تبريراً أساسياً لوجودها، إذ يقول المروجون لها إن السريّة المصرفية تجلب الاستثمارات وتزيد من الودائع الأجنبية)، بل أصبح يقتصر مفعولها على اللبنانيين فقط، ما يجعل من لبنان، ما وصفه غودفري، بـ«ملاذ ضريبي محلي». إذ إنّ من شأن التعديلات القانونية التي على مجلس النوّاب إقرارها، كشف حسابات المودعين الأجانب لوزارة المالية بسبيل جمعها المعلومات المطلوبة لإرسالها إلى الدول المعنية، وإبقاء حسابات اللبنانيين محجوبة عنها.
إذاً، فيما يسارع لبنان إلى الانضمام إلى اتفاقيات لمحاربة التهرّب الضريبي في العالم، يتصرّف المعنيون فيه وكأن هذه مشكلة "أجنبية" لا يعاني منها لبنان بقوة، بينما في الواقع العكس صحيح. مع العلم أننا لا يمكننا حتى معرفة حجم الأموال الموجودة في المؤسسات المالية اللبنانية التي يترتب عليها ضرائب، بحكم السريّة المصرفية. إلا أنه إذا استندنا إلى قول الأمين العام لجمعية مصارف لبنان، مكرم صادر، فإن حجم التهرّب الضريبي، على مستوى شركات القطاع الخاص فقط يفوق 1500 مليون دولار سنوياً. متى عرف السبب بطل العجب، يقول المثل الشائع.