خلال الحرب الاهلية اللبنانية، وابتداء من عام 1984، حصل انهيار كبير لقيمة العملة اللبنانية، واستمر هذا الانهيار المتوالي حتى عام 1992. هزت هذه الازمة الكبرى الاقتصاد اللبناني بشكل كبير، ان من ناحية انتهاء عصر الاستقرار النقدي الذي كان من اهم ركائز وحتى مسلمات الاقتصاد اللبناني منذ الاستقلال وحتى ذلك الوقت، او من ناحية اعادة التوزع الهائلة للثروة والدخل التي نتجت من هذا الانهيار والتضخم الكبير بين عامي 1984 و1992. يعتقد الكثيرون ان الازمة نتجت اوتوماتيكياً من العجوزات الكبيرة في الموازنة و/او من العجز الكبير في ميزان المدفوعات بعد الاجتياح الاسرائيلي والحروب التي تلته، اي ان الازمة كانت نتيجة لاسباب تقنية بحتة.


على الرغم من اهمية هذه المحفزات الاقتصادية، الا ان السبب في تجذر الازمة هو المصالح الاقتصادية-السياسية في خفض العملة واطلاق عجلة التضخم، والتي كان على رأسها الحاجة الى خفض اجور الموظفين والعمال التي استمرت في الارتفاع خلال الحرب على الرغم من تراجع الانتاجية الناتجة من الصدمات السلبية للحرب. وكان القطاع الصناعي من بين القطاعات التي لديها هذه المصلحة، اذ بعد عام 1979 كان يواجه نسب ربح منخفضة، وخسارة المنافسة في أسواق الصادرات اللبنانية.

التضخّم مهد لسيطرة الراسمال المالي في مرحلة ما بعد الحرب

انخفاض نسب الأرباح ولد من عوامل عدّة: السياسة الانكماشية للمصرف المركزي، التي رفعت تكاليف فوائد الاقتراض، والحصة المرتفعة للأجور، وارتفاع قيمة العملة اللبنانية، اذ تصادف هذا الارتفاع مع كسر بنيوي في محددات الصادرات من لبنان بسبب الركود في دول الخليج، الشركاء التجاريون الأساسيون للبنان، اذ أصبحت الصادرات معتمدة أكثر على القدرة التنافسية للصناعة اللبنانية، مقارنة مع السبعينيات عندما اعتمدت أكثر على الروابط الثقافية بالعالم العربي. وكانت قد بدأت ترتفع اصوات في أوائل الثمانينيات تدعو الى خفض الاجور، من بينها حاكم مصرف لبنان ميشال خوري، الذي اعلن أن مشاكل الصناعة اللبنانية في تلك الفترة كانت ناجمة عن تكلفة العمل المرتفعة، والتخلف التكنولوجي، والأزمة الاقتصادية العالمية. وفي تقريره المقدم الى الحكومة اللبنانية عام 1984، قال مصرف لبنان إن اللبنانيين لا ينتجون بمستوى يمكنهم من أن يحافظوا على مستوى الاستهلاك المتوقع، وأن الارتفاع في الأجور، الذي فرض على المؤسسات لم يكن في معظم الحالات مرتبطاً بالارتفاع في الإنتاجية. ونشأت فلسفة تقشفية عممها بعض الاقتصاديين الليبراليين.
الاجور الحقيقية (اي بعد احتساب التضخم) وبعد هبوط اولي في عام 1976، استمرت في الارتفاع حتى عام 1983، على الرغم من تزايد فجوة الانتاج في تلك الفترة، والتي عنت تزايد الانهيار الفعلي للانتاج. وبالتالي فإن ميكانيزم السوق لم يكن يعمل لناحية خفض الاجور تلقائياً على الرغم من البطالة المستجدة. وحتى سياسات مصرف لبنان التي تحولت الى سياسات انكماشية بعد عام 1979 وهدفت الى الحفاظ على قيمة الليرة اللبنانية والتحكم بالتضخم، والتي كانت المرة الاولى التي يتدخل المصرف فيها بشكل فعال منذ انشائه عام 1964، لم تنجح، اذ عملت صلابة الأجور، في الأعوام 1979- 1983 بشكل معاكس لاستراتيجية محاربة التضخم للمصرف المركزي الهادفة الى إعادة التوازن على المستوى الماكروـ اقتصادي. أظهرت هذه النتائج أن التقلص في مستويات الناتج المحلي الإجمالي لا يمكنها أن تعيد التوازن على المستوى الماكروـ اقتصادي. وكان من الممكن نظرياً زيادة نسب الأرباح في الصناعة عبر تحديث الآلات، وكان هذا غير واقعي في ظروف الحرب أو عبر زيادة استعمال القدرة التشغيلية، الا أن الحل الأخير كان سيؤدي الى أنخفاض في الأرباح بسبب العلاقة الماركسية التنازعية بين الأجور والأرباح.
وبالتالي كان التضخم المرتفع الحل لعدم التوازن في الاقتصاد وزيادة ربحية المؤسسات الرأسمالية، فسمحت المصالح الاقتصادية السياسية بانهيارالليرة اللبنانية من 4.5 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي عام 1984 الى حوالى 1800 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي في نهاية عام 1992، وارتفعت نسب التضخم من 6.6% عام 1983 إلى 120% عام 1992، بتسجيل تضخم مرتفع جداً عام 1987 و1988 ونتيجة لذلك انخفض الأجر الحقيقي من 252 ليرة عام 1983 إلى 70 ليرة في عام 1992 بانخفاض يساوي 72%!
ربح الصناعيون من الانخفاض في قيمة العملة والتضخم، وزادت منافسة الصادرات اللبنانية، كما سمحت لبعض المؤسسات أن تستبدل النشاطات الإنتاجية بالمضاربة. وارتفع الإنتاج الصناعي من 930 مليون دولار عام 1985، الى 1380 مليون دولار عام 1987، أي ارتفاع بمقدار 48.5%. وهذا حصل على حساب إعادة توزيع هائلة للدخل حيث انخفضت حصة الأجور الى ما بين 16 و20% للناتج مقارنة مع 50 الى 55% عام 1974.
ادت الازمة في النهاية الى تغير كبير في توزع الدخل والثروة في لبنان، فبالاضافة لارباح الصناعيين استفادت الطبقة البورجوازية بشكل عام من انخفاض الاجور وازدادت حصة المضاربات في العمليات المالية وحصل انتقال كبير للثروة بين حملة الدولار وحملة الليرة، ان بين المصارف او المؤسسات او الافراد، ما افقد الطبقة المتوسطة مدخراتها بالإضافة إلى انخفاض دخلها، ومهد لسيطرة الراسمال المالي في مرحلة ما بعد الحرب الذي لا يزال لبنان يعاني من تبعياته الاقتصادية والاجتماعية حتى يومنا هذا.