شكل مخيم نهر البارد قبل الحرب نموذجاً مختلفاً لواقع المخيمات الفلسطينية الأخرى، فقد استطاع سكانه اختراق الحصار الرسمي عليهم، وأسسوا بنية اقتصادية قادرة على مد أسواق الجوار بالسلع الرخيصة والصناعات المحلية القادرة على المنافسة، فكان المخيم مقصداً لتجار الجملة والمتسوقين من ذوي الدخل المتدني... هذه خريطة لاقتصاد مخيم نهر البارد قبل دماره
بدأ الناس يتناقلون الأحاديث عن مخيم نهر البارد منذ العشرين من أيار الماضي، أي منذ بدء المواجهات بين عناصر الجيش اللبناني وفتح الإسلام، إلا أن ذاكرة أهل المخيم تفيض بالحنين الى حياة أمضوها في رقعة شمالية فقيرة منذ أكثر من خمسين عاماً. فقد مرّ على هؤلاء سنوات طوال من العمل وتأسيس الحياة وتوفير المتطلبات التي تضمن استمراريتهم وتمكّنهم من الحصول على حاجاتهم الاجتماعية والاقتصادية. واستطاع سكان مخيم نهر البارد تأسيس قاعدة اقتصادية تتصل بالعديد من القطاعات الإنتاجية، في محاولة منهم للقضاء على نهج الحرمان القابع في زوايا جميع المخيمات الفلسطينية في لبنان.
وضعية خاصة
تتشابه مخيمات اللجوء الفلسطينية، لجهة تردّي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، ومحدودية النشاطات التي يمارسها أبناء المخيمات، بسبب القيود المفروضة عليهم، ولا سيما القيود في مجالات العمل، حيث لا يُسمح للفلسطيني بمزاولة كل المهن على الرغم من إقامته الدائمة في لبنان... والقيود في مجالات التملك، حيث لا يسمح للفلسطيني بتملك منزله أو العقارات والأراضي التي يستثمرها... فضلاً عن معاناة قاطني المخيمات الفقر وعدم توافر الكثير من مستلزمات العيش الكريم.
إلا أن المشهد في مخيم نهر البارد يختلف قليلاً عن بقية المخيمات، نظراً إلى امتداده خارج حدود الأرض التي توافقت الدولة والأونروا عليها نطاقاً جغرافياً للمخيم... وهو توسّع مع الوقت ليشمل أراضي تقع على أطراف المخيم عن طريق شراء تلك الأراضي وتسجيلها إما قبل إقرار القانون الذي يمنع الفلسطيني من التملك، وإما عبر تسجيلها بأسماء أشخاص يحملون الجنسية اللبنانية، وهذه الأراضي هي ما يعرف اليوم بالمخيم
الجديد.
وما يميز مخيم نهر البارد أيضاً، هو موقعه الاستراتيجي على طريق دولي يربط لبنان بسوريا، الأمر الذي سمح بتطوير نشاطات تجارية في داخله وعلى تخومه.
العمالة داخل المخيم
وبحسب إحصاءات الـ«أونروا»، يبلغ إجمالي اللاجئين المسجلين في مخيم نهر البارد حوالى 31 ألف لاجئ، ولكن هذا الرقم غير دقيق، برأي الجمعيات التي كانت تعمل داخل المخيم، بسبب وجود الكثير من الفلسطينيين غير المسجلين، وتتحدث المعلومات عن وجود 40 ألف لاجئ إضافي في المخيم.
وبحسب دراسة أعدها معهد العلوم الاجتماعية التطبيقية، فإن 63 في المئة من عمال مخيم نهر البارد كانوا يعملون بداخله، أي أن ما يزيد على 20 ألف لاجىء كانوا يعتمدون على المخيم لتوفير قوتهم اليومي.
وكان اقتصاد نهر البارد يعتمد بشكل أساسي على التجارة حيث ينشط هذا القطاع نظراً إلى موقع المخيم على الطريق الدولي ووجود واجهة بحرية له. وبحسب الأهالي فإن هذا المخيم كان عبارة «عن تظاهرة تجارية ومركز تجاري يتجه إليه معظم السكان طلباً للعمل، وسوق يعتمدون عليها لشراء حاجياتهم المختلفة ذات الأسعار التنافسية جداً بالمقارنة مع المحيط».
وكانت التجارة في المخيم تتميز بكونها تجارة جملة بالدرجة الأولى، إذ يعمل تجار المخيم على استيراد السلع وإعادة بيعها بسعر تنافسي الى تجار منطقة عكار بشكل خاص، وتجار الشمال بشكل عام، ويساهمون بشكل من الأشكال بدفع العجلة الاقتصادية في القرى المجاورة.
سلع تجارية متنوعة
وتتنوع السلع التجارية التي كانت متداولة في مخيم نهر البارد لتشمل مختلف الحاجات والمستلزمات، فكانت تزدهر تجارة البورسلان في حي النهر حيث يُستورد البورسلان من إيطاليا ويعاد بيعه الى قرى شمال لبنان بالجملة وبأسعار رخيصة. أما وسط البارد فكان يتميز بتجارة المواشي واستيرادها من رومانيا وبيع اللحوم للقرى المجاورة، بالإضافة الى شراء المواشي من القرى أيضاً. وكان يوجد أكثر من 15 تاجراً يعملون على استيراد بواخر المواشي. وكانت تنتشر تجارة الذهب في ذلك الحي حيث كان يوجد خمسة عشر تاجر ذهب على مستوى البيع بالجملة. بالإضافة الى ذلك يوجد سوقان كبيرتان في حي التعاونية لبيع المواد الغذائية المختلفة من خضر وسكر وعدس وأرز....... وهذه المواد كانعت تباع بالجملة لتجار المناطق المجاورة، فضلاً عن تجارة الأدوات الكهربائية في سبع عشرة مؤسسة متخصصة في هذا المجال، وبيع المفروشات في ثلاثين محلاً.
هذا النشاط الاقتصادي لا يعبّر عن رفاهية اقتصادية لأهالي المخيم لكون هذه التجارة محصورة بعدد قليل من التجار، ولكن تلك المرافق كانت توفر فرص عمل لكثير من سكان المخيم. وتكثر على صعيد آخر الدكاكين والمحال التجارية الصغيرة، وهناك عدد كبير من صيادي الأسماك.
صناعة... وخدمات
بالإضافة الى التجارة كانت الصناعة تؤدي دوراً مهماً في اقتصاد البارد، وخاصة الصناعات البسيطة كصناعة المفروشات والمحارم والستائر، حيث وجد في السابق أكثر من عشرين ورشة لخياطة الستائر، فضلاً عن تصنيع مواد الدهان عبر استيراد موادها الأولية من الخارج، ووجود معملين لتصنيع الأجبان ومعمل لتصنيع الإسفنج. واستقطب قطاع البناء داخل المخيم وخارجه عدداً كبيراً من العمال، ناهيك بالعمال في المجالات المهنية كصيانة البرادات والغسالات والمكيفات.....
من ناحية أخرى، لا تغيب شمس قطاع الخدمات عن المخيم، حيث توجد أربع صالات أفراح، أهمها صالة النورس التي تقع في البحر، بالإضافة الى مركز صحي واحد لخدمة حوالى 494 مريضاً يومياً وعشر مدارس ابتدائية وإعدادية ينتظم فيها 5686 تلميذاً ومركز شباب واحد. وينشط عدد من المنظمات غير الحكومية، وأهمها النجدة الاجتماعية وبيت أطفال الصمود ومؤسسة غسان كنفاني، فضلاً عن المعاهد التي تعنى بالتعليم المهني كالرسم المعماري والمختبر والكهرباء والصيانة. وتقوم تلك المؤسسات بتوفير فرص عمل لبعض سكان المخيم.