كان | في بلدة قريبة من البحر في نابولي الإيطالية، حيث تمتزج القصور الأرستقراطية المهيبة مع أحياء الصيادين المتواضعة، اشترى الجد، صاحب أحد هذه المنازل الكبيرة، عربةً تاريخيةً تعود إلى لويس الرابع عشر، وحوّلها إلى سرير. ابنته على وشك الولادة، تنزل إلى الشاطئ وتلد ابنتها في البحر. المولودة الجديدة الخارجة من البحر الأبيض المتوسط هي بارثينوبي (سيليستي دالا بورتا)، فتاة استثنائية، فاتنة، حوريّة بحر، وشخصية جميلة سنتبعها طوال حياتها منذ ولادتها عام 1950 إلى يومنا هذا. هكذا، يمزج المخرج الإيطالي باولو سورنتينو الأساطير اليونانية (بارثينوبي واحدة من الحوريّات في الأساطير الأغريقية)، والماضي الأسطوري، وحاضر مدينة نابولي. بارثينوبي هي نابولي، مرتبطة بموانئها وشواطئها وأزقّتها الضيّقة، وسنتحدث معها عن الحب، الموت، عن السعادة والأمل، عن العلاقات الغامضة بين الإخوة والأخوات، عن حبّ الشباب وعواطف المسنين، عن الطلاب والمعلّمين، عن الكهنة والأساقفة والحب والممنوع، عن الأنثروبولوجيا وطقوس معجزة سان جينارو. «بارثينوبي» المشارك في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كانّ السينمائي الدولي» الذي يختتم يوم السبت، ملحمة أنثوية خالية من البطولة، لكنها عاشقة للحرية ولنابولي والحب. الحب الحقيقي، الذي لا يوصف، الذي يديّنك الألم ولكن يجعلك تبدأ من جديد. في الفيلم، نتبع النابوليتانيين، ونابولي التي يحبّها ويكرهها المخرج، نرى فرحهم وخيبة أملهم، ونتبع انجرافات حزنهم، ومفارقاتهم المأساوية. هناك الصيف المثالي في كابري للشباب الخالي من الهموم رغم الأفق اليائس. ومع تقدّم الفيلم، يطلق ذخيرة كاملة من المشاعر، وهناك، في الخلفية، القريبة والبعيدة، هذه المدينة، نابولي، التي تسحر وتصرخ وتضحك ويمكن أن تؤذي. في «بارثينوبي»، هناك الشمس، والبيوت التي تجلس فيها بائعات الهوى، وهناك البحر ودواره المنوم، وجماله الأزرق، وأوكار العائلات الأكثر بؤساً، والمنازل القديمة المطلّة على البحر على بُعد خطوة من الفنادق التي يُقيم فيها الكتّاب الأميركيون التافهون، المدمنون على الكحول. نابولي بالنسبة إلى سورنتينو، ليست المدينة العظيمة والرومانية والفاسقة، بل المدينة الأكثر تجاعيد وخشونةً، هي المدينة التي يراها تُحتضر، لكنّها تستمر في العيش بعناد في شوارعها الخاصة.
يعود سورنتينو إلى نابولي بفيلمه الجديد، بعدما زارها في فيلمه «يد إلهية» (2021)، وأرانا «الجمال العظيم» (2013) لروما. يعود بالشباب المثالي، مجسّداً المدينة في جسد امرأة وعلاقتها مع مرور الزمن. امرأة أنجبها سورنتينو سينمائياً مثل إلهة أسطورية رائعة، لأنه يحب الأجساد، والتماثيل، مثل ذلك الوجه الرخامي المتكسّر الذي يركّز عليه في مشاهد عدة في الجزء الأول من الفيلم. في الفيلم، تحدث الأشياء، والاختيارات بشكل تلقائي، ويختفي الأشخاص، ويرحل العشاق، وينعزل الآباء. سورنتينو الذي لم يرد أن يروي، ولم يرو قصة امرأة من قبل، مقتنعاً بأن هذه ليست مهمة الرجال، انتهى به الأمر في فيلمه الجديد إلى النظر والشعور والتكلّم كامراة متوسطية، حسّية جنسية، جذابة تتحكم بالرجال بهزّة خصر، وتخرج من الماء بلا ريش ولا حراشف، وتجرّ الإنسان مثل نابولي إلى الهلاك والجنون. يُلقي سورنتينو نظرة حزينة وفاتنة على المتعة وخفة الشباب. بارثينوبي دوماً مع سيجارة على شفتيها، وشعر متطاير في الهواء بينما تحاول احتواء جسدها، تستمتع بالبحر والقراءة، والأيام الحارة، بين أكواب الشمبانيا وروايات جون شيفر (يلعب دوره غاري أولدمان). لكن بارثينوبي ليست مجرد جسد، فهي أيضاً لسان حاد وسريع، وعقل متلهّف ورغبة في المعرفة. إنها ليست مجرد مستهلكة للكتب ونثر الملعونين فقط، بل إنها مصمّمة على معرفة آليات الإنسان عبر الأنثروبولوجيا.
يحافظ «بارثينوبي» على إيقاع سورنتينو الأكثر استرخاءً واستنباطاً، ويتجوّل بلا هدف عبر نابولي وشخصياته. سورنتينو هو سورنتينو، بمشاهده المذهلة، ومرة أخرى يقدم ما نتوقع منه. مرحباً بكم في نابولي، وجمالها العظيم. في الفيلم، استقر كل شيء تحت الثرثرة والضوضاء والصمت والمشاعر والعاطفة والخوف، وومضات الجمال المنهكة والمتقلّبة، ثم البؤس والإنسانية البائسة. «بارثينوبي» رحلة ملحمية، خصبة، مثيرة، ومأساوية بشكل جميل. غالباً ما يبدو الأمر سوريالياً، لكن هذا هو الواقع. هذه هي نابولي ونحن محظوظون بما يكفي لرؤيتها عبر عينيّ بارثينوبي لمدة ساعتين وربع الساعة. في الفيلم كومة من القصص القصيرة المرتبطة بعقل الشخصية الرئيسية. اختلطت فيها الفكاهة الساخرة مع غمرة من الحزن. وفي النهاية، يخرج الفيلم وبارثينوبي وسورنتينو منتصرين على ملل الحياة. «بارثينوبي» ليس فيلماً واضحاً بقدر ما هي عيون تتجول في نابولي، وتدركها كما هي بالفعل، وليس كما تبدو.