انخرط زكريا جابر في مشروع إخراج فيلم وثائقي. ما نتج من هذا الانخراط وثائقي «قلِقٌ في بيروت» (93 دقيقة، إنتاج مشترك، جمانة سعادة والجزيرة الوثائقية)، وهو ثمرة رحلة أخذت عامين من تصوير مشاهِد من الواقع اللبناني، تبعاً لتغيّراته الحاصلة منذ عام 2019 حتى عام 2021، بالإضافة إلى تسجيل لقطات تُحاكي بدورها يوميات المخرج والتغيّرات الطارئة عليه وعلى أصدقائه؛ شرائط مسجّلة صارت لاحقاً، بعد جمعها وإلصاقها، فيلماً وثائقياً. ولمَ لا؟ مشاهِد تعرُض بيروت في الأوقات الساخنة، في مرحلة تهاوي المدينة وهي على حافة السقوط، أمر مثير، و«القلق» رائج هذه الأيام، خصوصاً إن أدخل إلى الورش الفنّية.

يُعرف عمن يسكنه القلق أنّه غالباً ما تكون حركته مشتّتة قبل أن يصيبها الشلل. القلِق الذي يعاني من القلَق كحالةٍ ملازمة وليس كعارض طارئ، قد يستطرد كثيراً في أحاديثه. قد يحشو جملاً خارجة عن سياق الكلام مثلاً. قد يركّب مشاهد متباعدة لا صلة تربطها بعضها ببعض. فهو يعوّل على هذا الإفراط للانفكاك من حالةٍ تأسره، بيد أنّه، بتفريغه هذا، يرهِق مستمعيه ويوقعهم في الملل. كاميرا زكريا جابر مصابة بهذه العوارض. ثمة تململ يطاول المستوى الشكلي، من دون أن ينسحب هذا التململ على جوهر الموضوع في إبراز ما أعلنه المخرج تحديداً، حيال قلَقه في بيروت، أو القلق الموجود في بيروت. القلَق عنده يقف عند ذلك الحدّ. يكتفي بحضوره الاسميّ. لا هو متعمد ولا هو مقصود، وكأن المشاهد المسجّلة خجولة إزاء عرضها على الملأ، وكأن القلق يعتريها بحد ذاتها.
ثلاث ثيمات أساسية في تاريخ لبنان المعاصر: انتفاضة 17 تشرين، وتفشّي وباء كورونا ثم انفجار مرفأ بيروت، يمرّ عليها زكريا جابر في «قلِقٌ في بيروت» كمن يتذكر مرحلةً عابرةً. الموضوعات كبيرة والقفز سريع. لا توغّل في الموضوعات ولا حفر. لا توقف، ولو لبرهةٍ، أمام المواقف المتغيّرة لشخوصه التي تتغيّر تبعاً لشروط مدينتها. تسويغ المواقف المتقلبة مفقود. الاستعانة بالنصّ لإبراز كيف تأججت مواقف الشخوص وتبرير انعطافها، إن على صعيد القرارات الشخصية، أو على صعيد العيش، مفقودة أيضاً. للقلق معنى مُضمَر، وهو معنى آخر غير الذي نعرفه. كل شيء مرميّ على بيروت، لكي تحيك ما لم يحكه المخرج.
نحن أمام تلصيق وتركيب لمشاهد يحاول جابر في المحصّلة الأخيرة إسباغ طابع القصة عليها، غير أنّ عقدة الوثائقي رخوة وتحول دون ذلك. ثمة تعويل، هو بالأحرى اتكال، على الأحداث الخارجية التي وثّقها المخرج، كونها، على الصعيد الموضوعي، متسلسلة زمنياً، فيما الجزء الآخر الذي يحاكي سيرته الخاصة وسيرة شخوصه منغلق وشخصي، يعود إلى فضاء حميمي، والنبش في هذا القبو مرهون بحساسية فنّية، بأسلوبية صلفة، حتى يتماهى الذاتي مع العام، لا أن يقتحمه.
يطغى الذاتي على الموضوعي عند جابر ويفصح لنا، نحن المتفرجين، عما يطلعك عليه الأقرباء. يسلّمنا زكريا جابر منذ البداية سراً من أسراره. عنوان فيلمه مستمدّ من الحالة التي تعتريه: «قلِقٌ في بيروت». هناك سبب لقلق المخرج إذاً، ولبيروت علاقة بهذا الشأن. عن هذا القلق في بيروت انتظرنا، طوال الوثائقي، تحسّس تمظهراته، أو التقاط إيحاءات تحيل إليه، أو تتبّع علامات دالة: هل هو قلق أنطولوجي؟ ميتافيزيقي؟ وجودي؟ لم نعلم. المتفرج في موقف البحث عن القلَق. ومن يحتاج إلى هذا البحث أصلاً؟
بيروت أو المدينة التي ولد فيها في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، يعرّف زكريا جابر عن نفسه بأنه من جيل ما بعد الحرب، ويحاول البناء على أنقاض هذه اللحظة: انتهت الحرب في 1990، وحضر رفيق الحريري ومعه مشروع إعادة إعمار بيروت، عيّن رياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان، وتشكّل لبنان مرحلة ما بعد الحرب، بطريقة نيوليبرالية فاحشة، حتى أصبح بؤرة تديرها شبكة مافيوزية. هذا كلّه نعرفه ولا شيء جديداً. يستحضر المخرجُ شاهداً على تلك المدة، يأتي بوالده الذي كان مناصراً لـ14 آذار والخط الحريري. شؤون جديدة متعلقة بتحولات مثقف، وسبب الانجذاب نحو المشروع «الإعماري» الثقافي كان من الممكن أن نتعرف إليها ولكنها فرصة ضائعة. يقرّر الأب الكلام عن مرحلة اغتيال الحريري وموجة الاغتيالات التي شهدها لبنان عام 2005. الكلام عن الحريري قد يكون الكلام عن «الضحية»، لا أحد يمنع القائل من ذلك. «هناك من يضع مسدساً برأس الدولة» يورد الأب في حديثٍ له في إحدى مقابلاته التي يعرضها له الابن في فترة 2005 أو ما بعدها. فهمناها. يعقّب الأب على تلك المدة، ويستذكر مع الابن كيف كان يأخذ الحيطة والحذر من احتمال وجود لغم مزروع تحت السيارة. كنا مع نشأة الحريرية، وإذ بالكلام يصير عن قتلَة الحريري. الحركة تشبه إطلالة عابرة من زائرٍ لا يعتب عليك إذا لم ترحب به، لأنّه بقدومه يعرف ما يريد. الانتقالات سريعة وكأنّها عمليات محو. التاريخ كمفهوم هلامي، كوعاء مليء بحبات السكاكر ولك أن تختار منها ما تشاء وتتجاهل ما تريد، يُسترجع انتقائياً في جلسةٍ عائلية منزلية.
زمن الوثائقي هو زمن بيروت والتغيّرات الحاصلة فيها، وحكاية الشخوص التي يرويها جابر مقرونة بتحوّلات بيروت نفسها. يفاتحنا الفيلم، في المشهد الأول، وهي افتتاحية أولى تسبق لبنان التسعينيات يحاول جابر من خلالها الدخول إلى عالمه وعالم شخوصه، بشاب تخلّى عن انتمائه الحزبي وبات ثائراً ضمن صفوف 17 تشرين. وهي قصة شاعت كثيراً في زمن الانتفاضة، وطالت ليس فقط المحازبين، بل أفراد باقي الجماعات الأخرى، إذ خلع مسيحيون ومسلمون رداءَ الطائفية، كما زعموا، وباتوا «إخوة» في المواطنة، وهو ما يستحق التوثيق فعلاً، بل دراسة هذه الحالة من كثب. يبدو أن الولاءات تتغيّر سريعاً والانسحاب سهل، أما التعريج على دوافع هذا التغير وأسبابه، فلا يعدّه الوثائقي ضرورياً. الانتقالات السريعة لم تعد تقتصر على استحالة توليف «القصة»، في دمج مشاهِد بشكلٍ يبعد عن التقريرية الإخبارية، وفي تركيب سيَر ضمن سياق ناظم، بل على مستوى الخطاب، وهو ما يهدّد بنيةَ الوثائقي ذاته، ويذهب بصاحبه نحو الاعتباطية.
المخرج ينتمي إلى جيل ما بعد الحرب، ويتكلّم على لسان جيله الغاضب الذي يرى أنه ورث مدينة رديئة، وفاسدة، ومحبطة ويجب تخريبها. هناك مسؤولون عن البؤس المستشري في هذه المدينة، وهذه المرة ليسوا السياسيين وسماسرة المال الذين مرَّ الوثائقي على حيلهم، إنّما الجيل السابق الذي فشِل في مسيرته وأورث الجيلَ اللاحق، أي جيل ما بعد الحرب، هذا الخراب؛ هكذا تعبّر إحدى الشخصيات. يبرز الاتكال مرة جديدة على «فاعل» خارجي. الانتقالات السريعة التي حسبناها تعتري الشخوص وسيرتهم من جهة، وتعجز عن افتعال ترابط داخليّ للأحداث الكبيرة من جهةٍ أخرى، ترتسم ملامحها على صعيد القصة نفسها؛ أي على المشهد ككل، وكأنّها إيديولوجيا. تَنقل شخوصُ الوثائقي جذرَ حاضرها المأزوم إلى غيرها. إلقاء اللوم المعبّر عنه في الوثائقي، يبدو، للوهلة الأولى، على أنّه «صراع أجيال»، أو حالة ثورية، بيد أنّه أقرب إلى امتعاض الابن من أبيه والتلذّذ بمناكفته. لوم «الآباء» فائض، وكما يتضح، إنّه عاملٌ أساسي وراء المظاهرات والاحتجاجات في 17 تشرين. وبما أنّ المدينة؛ بيروت، هي عاصمة الحروب والعيش فيها أشبه بالمغامرة، وضع المخرج المتفرّج أمام اختيارين؛ إمّا التابوت وإمّا الطيارة. لكن ماذا عن الانتفاضة التي تجري في الخارج؟ ألا يُفترض أن تكون الانتفاضة التي يسترسل الوثائقي في إظهار مشاهد عنها حلّاً وابتكاراً أو ثقباً في هذا الجدار المسدود؟ الانتقالات سريعة في كل الأحوال، وهناك طائرة تنتظر.
إنّ مدلولَ القلق في «قلِقٌ في بيروت» يعود معناه، بالمبدأ، إلى التذمّر - وأسبابه كثيرة، مهما تلطى على انتكاسات سياسية - وهشاشة طافحة تعتري جيلاً يملك خيار الرحيل السريع. هذا التذمّر من بيروت، ومن أوضاعها، سيحثّ صاحب الوثائقي وشخوصه على الهجرة. يأخذنا جابر إلى منازل أصدقائه وهم يستعدون للسفر بعد انفجار المرفأ، فنرافقهم على طريق المطار، ننتظرهم حتى يترجّلوا من السيارة، نودّعهم، لقد حازوا الخلاص... تصفيق.
يبلغ الوثائقي نقطةً حيث يتحوّل نقاشُ جوهره إلى نقاشٍ مع شخصيات الوثائقي. وكأنّ الرهان مثبتٌ على معرفتنا هذه الشخصيات، وأنّ الوثائقي امتداد لهذه المعرفة. ثمّة قصص بقيت معلّقة، وأخرى غير مكتملة، وشؤون داخلية تحتاج إلى اشتغال حتى تتخلّص من حيزها الحميميّ الشخصي ولا تدخل في نطاق النمائم، كعلاقته مع والدته أو يوميات والده وغيرها. يفشل «قلِقٌ في بيروت» في تحويل الخاص إلى عام، مهما تشابهت مصائر شخوصه وتماثلوا فكرياً؛ يبقى أن اللغة هنا منغلقة، والسيِر برمتها، من بينها سيرة المخرج وقلقُه، تشترط التضمين، وتكثيف الموقف وإبراز الخلفية.
زكريا جابر يسجّل ما يراه صالحاً للتسجيل، غير أن هذه التسجيلات التي صارت في ما بعد وثائقياً قد تصلح للذاكرة الفردية، حيث العودة إليها تبثّ مناخاً نوستالجياً، ولكنّ الجمهور أكبر من العائلة.