في مُستهلّه، يغرق فيلم «19 ب» للمخرج المصري أحمد عبدالله (1979) في حُمى استعادية. لا تُفسّر اللقطات الافتتاحية ذلك الهدوء الاستعادي، لكنها ترصُد ملامح المكان، وتُراقب طبيعة الحياة الفردانيّة، من حيث الحركة اليوميّة. غير أن تلك اللقطات، تُرسّخ لمُمارسات تبدو على قُرب زمانها بعيدة عن السياق العام وغريبة على السلوك الاجتماعي الجمعي. تُشير اللقطات إلى وجودٍ أقرب في طبيعته إلى الهدوء والحنين. حشدٌ من الإغماءات المُتواليّة، أغنية قديمة هادئة، حركة وئيدة، صمتٌ مطبق، حيوانات هادئة؛ ثمّة إيقاع حاكم للوجود الداخلي، لعالمٍ يحوط نفسه بالعادي، ثُم يستفيق فجأة على زحفٍ لأنماط حداثيّة تُهدد وجوده، فيتطوّر الإيقاع وينسلخ عن مقياسه الاستعادي، مواكباً للوتيرة الحداثية، مندمجاً مع الواقع الفعلي والزحف المُعاصر. يقف العجوز وحيداً، مُستمسكاً بطبيعة المكان المُقدسة، بجوهرٍ مألوف، ينتمي إلى الماضي، يستعيد الطبيعة الاجتماعية في شكلها الأكثر خفةً وسلاسة، بينما يواجه تهديداً خطيراً، يتمثّل في صفات وممارسات مُقحمة على السياق الداخلي للمكان، مساحته الآمنة التي يطوّع ضمنها الزمان ويحفظه بوتيرة متمهلة، إنما بعيداً عن مركزيّة المنزل الآيل إلى السقوط في رمزيّة تُنذِر بانهدام دائرة الإيقاع الذاتي وخصائصها الفردانية. المُجتمع يُمارس ضغطاً لا شعورياً على الحارس العجوز (سيد رجب) وعقاره الشائخ. ضغط غير مرئي مُستمر ومتتابع ولو في أنماطٍ عشوائية، لكنه الآن يتجسّد في أكثر أشكاله عاديّة: ناصر (أحمد خالد صالح) شخصٌ مُتلهف للحياة، يُصارع من أجل لقمة العيش، سحقته الحياة وعلّمته كيف ينتزع القرش من الهواء. شخصٌ فَهلَويّ، يُخطط للمكوث في العقار المهجور إلا من حارسه، بحجّة المساحة الفارغة والمجال الذي يسع عائلةً بدلاً من الفرد، فطبيعة المنزل الفسيحة تجعله مطمعاً للاستغلال كمساحة حرّة ليس لها صاحب.



تدور القصة حول حارس عقار عجوز، يعيش حياة روتينية هادئة، ينشغل بتنظيف المكان ويتناوب على إطعام حيواناته الأليفة. يندمج العجوز مع الفيلا القديمة، من ستينيات القرن الماضي، بحيث يُصبح الاثنان شيئاً واحداً، ليس على مستوى المكان فقط، بل الزمان أيضاً، فالعجوز عالق في حقبة زمانيّة تلاشت، ولم يبق منها سوى آثار الشيخوخة، بيد أنه لا يرى نفسه خارج تلك الخصائص. يُقرر أن يعيش شيخوخة مُشتركة مع عقاره الحبيب، رغم إلحاح ابنته يارا (ناهد السباعي) لمُغادرة العقار المهجور، والمكوث معها في المنزل، إنما يصر على المكوث في العقار إلى النهاية، كأنه يمنحه قيمة ضمنيّة، أو يُبرم عقداً صورياً بينهما، ألا يترك أحدهما الآخر، حتى مع ظهور ناصر، ردّ السجون، الذي يحوّر الإشكاليات دائماً لصالحه، ويتحايل على الأمور لينفّذ في النهاية ما يبتغيه. بيد أن حارس العقار يُقرر في كُل مرّة أن يقف ضد مخططاته وطموحاته التجاريّة أو السكنيّة، لكنه لا ينجح، فالتيّار الفتي يجرف الهوامش الهرمة معه. غير أن الصدام يتواصل ويتصاعد بمُعدّل بطيء لكنه موجود، ومع كُل تصادم واشتباك تتفاقم المُشكلة أكثر، وتُسفِر عن خفقاتٍ أشبه بالذروات... لحظات من المُكاشفة تُعرّي كُل شخصيّة وتُغيّر جلدها بطريقة تُصعد من الأحداث من دون التخلّي عن الإيقاع البطيء. ورغم أن الفيلم ذو نمط إنتاج تجاري، إلا أنه يتميز بنوع من جماليات البطء، خصوصاً في نصفه الأول، حيث تتجوّل كاميرا مدير التصوير مصطفى الكاشف ــ ابن المُخرج المصري الراحل رضوان الكاشف ــ لتلتقط الهويّة المكانيّة للعقار، وتُضفي بُعداً جمالياً، خصوصاً مع اقتحام الفيلم مساحةً مُختلفةً من حيث النوعيّة والقيمة المكانية. فهو من الأفلام المصريّة القليلة التي خرجت عن المألوف وقررت تحقيق فيلم كامل في موقع تصوير واحد. والحقيقة أن النوعيّة ذاتها تفرض نوعاً من التحدي على مدير التصوير وكيفية تحريك الكاميرا، لكنها نجحت في إبعاد الملل وسد الكثير من الفراغات، بيد أنها عملت قيد المُتاح، بحيث لا يُمكن أن نصف اللغة السينمائيّة بالمُبهرة أو المُجددة، لكنها فعّالة وتتماس مع جماليات السينما البطيئة في أكثر من موضع.
الامتداد الشخصي لناصر يُمثّل طُغيان عمرانٍ ما بعد حداثي يهتم باستغلال المساحة


تعاطى المُخرِج أحمد عبدالله مع ثيمات متعددة، وفتح الباب على تأويل المُنتج البصري بأكثر من طريقة، فالصراع الرئيسي رُبما يكون صراع أجيال، ولكنه يتعرّض خلال ذلك إلى ذاكرة الجسد من خلال شخصيّة ناصر، ويتساءل عن قيمة الفرد ذاته، وكيف يكتسب قيمته من المكان، يشتبك مع زمانين مُختلفين مُتجسدين في أفراد: زمن مُعاصر وخاطف يتمثل في ناصر، وزمن موقت ومؤجّل وهرِم متمثّل في حارس العقار وتمسّكه بالبنيان، ومحاربته كُل محاولات ناصر للامتداد داخل المنزل. فالامتداد الشخصي لناصر يُمثّل طُغيان عمرانٍ ما بعد حداثي يهتم باستغلال المساحة وتفريغ الأفراد في صناديق أكثر من منحهم الطاقة لمُجاراة الفارغ ورصد الجمال. الصراع هُنا بين جانبين، طرفٌ في عنفوان شبابه، مُطعّم بالقيم الحداثية والسيولة الأخلاقية، وطرفٌ يرفُض الموت، بهالاته الأخلاقية وتجاعيده القيمية. وعلى الرغم من كُل ذلك، كانت النهاية غريبة ومريبة، تُضيّق من المنظور وتقيد من امتداد الحكاية. الموت النهائي لشخصيّة ناصر يعني انتصار شخص ما، يعني انتهاء الصراع بشكل ضمني. رُبما ترك المُخرِج لنا الصخرة كعلامة على العود أو حتى إشارة للاختراق وانسلال خصائص العالم الخارجي إلى الداخلي، ولكنه أضعف الحكاية بمشهد نهائي يبدو مفتوحاً لكنه لا يقدم أي شيء، فالحكاية انتهت تقريباً من الناحية الداخلية، رُبما يتبقّى الخروج، معرفة ماهيّة هذه الجثة وكيفية الفرار من العقاب المدني، غير أن الصراع انتهى عند طرف معين.