بعد العرض الأول لفيلم «باب الحديد» (1958)، حُكي أن رجلاً بصق في وجه المخرج يوسف شاهين (1926 ــــ 2008) قائلاً: «لقد أعطيت صورة سيئة عن مصر». اعتُبر الفيلم استفزازياً، أغضب جزءاً من المجتمع المصري إلى حدّ الإقدام على تخريب صالات السينما التي تعرضه، ثمّ منع الشريط بطلبٍ من الجمهور. بعد مدّة، ظهر الفيلم من جديد. اجتاح المهرجانات العالمية، ليستحيلّ أحد أهم أفلام السينما المصرية والعربية.في «باب الحديد»، سبر شاهين أغوار الجانب المظلم من الطبيعة البشرية والرغبة الجنسية في إطار عربي مصري. الفيلم عن رجل مهووس بقتل النساء بسبب نوبات غضب ناجمة عن الإحباط والكبت الجنسي. فيلم مصري يقدّم قصة تخالف ما عهدته الشاشات يومها من سينما خفيفة تجلب السرور فقط.
قناوي (شاهين نفسه) بائع صحف في محطة مصر، أعرج وغير متزن عقلياً. يجمع قصاصات لصور النساء من المجلات، يعلّقها على حائط غرفته، متيم بهنومة (هند رستم) الجميلة المغرية بائعة المشروبات الغازية في المحطة والمخطوبة لأبو سريع (فريد شوقي). يراقب حركاتها، يرسمها، تداعب صورتها مخيلته. من هذه المؤشرات الصغيرة، نبدأ برسم صورة قناوي المهووس والمكبوت جنسياً. يخلق يوسف شاهين مثلثاً عاطفياً غير متساوي الأطراف. هنومة في المنتصف والمائلة إلى خطيبها وقناوي المهووس. بين أضلع هذا المثلث، يتخبّط الجميع، بينما يشارف قناوي على الجنون. من هذه الدراما البسيطة والواضحة، شقّ شاهين ثقوباً ليرينا مشاكل أكبر تعصف بالمجتمع المصري: الفقر المدقع، الأجر الرخيص للعمال، الاستغلال، الخوف الرأسمالي من النقابات، رفض أي ثقافة أجنبية، اضطهاد المرأة في مجتمع ذكوري يعاديها. تحوّلت سكة الحديد ومحيطها إلى نموذج مصغّر عن وجهٍ من وجوه المجتمع المصري.
«باب الحديد» فيلم معقد بشكل مثير للدهشة لأنه لا يبدو كذلك. لم يتعثر بمؤامرة لا لزوم لها أو بحبكة معقدة تأخذ السرد والقصة إلى مكان آخر، ولم يشبك الأمور ببعضها، بل بقيت القضية على وضوحها. يتحرك الفيلم بحرية، يعيث في حقل طاقة خاصة به. المَشاهد تفضح ذلك، هي تدوم لمدة تكفي لتنتهي الشخصية من إنهاء جملها بسرعة وحدّة، ثمّ ينقلنا المخرج فوراً إلى شخصية أخرى ومكان آخر. يبدو الأمر كما لو أن الفيلم يحاكي سرعة وصخب محطة القطار. لكن رغم السرعة، إلّا أن هناك استغراقاً في السرد، يريد شاهين بناء الشخصيات وتطويرها لتلاحق تتالي الأحداث. لم نشعر إلّا أننا أمام حبكة مُتقنة الربط، لا مشاهد لا تعني شيئاً أو مواقف غير مهمّة.
صقل المعلّم المصري الشخصية الرئيسية بدقة، لوّنها درامياً بألوان ذات وقع قوي وغير معتاد. لم يخرج عن الإطار الواقعي. وضع قصّته تماماً في ومن قلب المجتمع المصري، فاستعار قوة الشخصيات من الرواية الشعبية المصرية، ثمّ مزجها بخلل سيكولوجي جنسي وجسدي. خلطة لا تنسى لأننا لم نعهدها من السينما المصرية في ذلك الوقت. شخصية قناوي غير اعتيادية، يضع قناعاً حزيناً، يعيش في أجواءٍ مضطربة. ثم هناك هنومة بقربه، تستفزّه، بجمالها وإثارتها، تلفته بكلّ حركة منها. هي شقية، وإغراؤها فطري، وهو عاجزٌ ومكبوتٌ يتضاعف يأسه في حضرتها. قناوي لا ينهار وحده، تجمع أجواء المحطة خليطاً من أناس على حافة الانهيار. المكان يغلي بالحركة، بالقطارات، بالمغادرين والقادمين، ولكن في الوقت نفسه في المكان نفسه المكتنف هذا الكمّ من التنقلات، هناك محدودية مناقضة، لا مستقبل لمن يعيش أغلب ساعاته بين هذه الجدران المغلقة.
استعار قوة الشخصيات من الرواية الشعبية المصرية، ثمّ مزجها بخلل سيكولوجي جنسي وجسدي


استعان شاهين في فيلمه بعناصر «الأفلام السوداء»، من الظلال، والنور والعتمة، والجو الدخاني، وصولاً إلى شخصيات معقدة و«امرأة شقية» قد تودي بالرجال إلى الموت. هكذا حفر شعوراً بالشخصيات في لحظات الخطورة وتصاعد الأدرينالين، مستعيناً بموسيقى متفجرة عاطفياً. أتقن توليف مشاهد تُلقي بثقلها على الحوار بأولويته وأهميته. لمسة شاهين الذاتية واضحة: لقد منح مساحة كبيرة لقطع المَشاهد الحاد الذي يلعب فيه على أعصاب المُشاهدين.
أجاد المخرج السكندري عجن الصورة، منح القصّة البسيطة والجميلة ديناميكيةً بصريةً كبيرة، فعبر الإنتاج المصري من «باب الحديد» الذي صنعه يوسف شاهين، إلى الأمام، في وقت كانت فيه كلّ أشكال الفنون العربية تغرق في الركود، والمشهد متخم بالكوميديا والأعمال «اللطيفة» الخالية من أزمات المجتمع.
محطّة القطار هي في رأس يوسف شاهين، هي الناس والأفكار والتجارب. قدّم فيلماً تقدمياً في عزّ الحراك الاشتراكي، في ظل دولة عبد الناصر الجديدة التي تأمل بها، مرّر ما أراده من وعي عن نشوء الحراك النقابي وومضات من حياة المصريين التي ظننا لفترة أنّها فقط ظرافة وضحك وكوميديا.