حدث واحد يشغل بال مالك جندلي (1972) هذه الأيام: حمص. يشتاق الموسيقي السوري الأميركي، المقيم في الولايات المتحدة، إلى مدينته. أهداها ألبومه الجديد مطلقاً عليه اسمها الروماني Emessa. يحفظ تاريخها: خمسة من القياصرة الذين حكموا الإمبراطورية الرومانيّة، خرجوا منها. ويحفظ أزقتها كما تحفظ أصابعه «دهاليز» البيانو. للمناسبة، يحبّ مالك جندلي أن يعرّف عنه كعازف بيانو في الدرجة الأولى. صحيح أنه مؤلف موسيقي وهذا سبب «شهرته» الأساسي، لكن حين يعرّف عن نفسه، يقول إنه عازف. تروقه هذه العلاقة الحميميّة مع البيانو. لا يستسيغ «إغفالها» كما يتم إغفال «أسماء المؤلفين الموسيقيين في العالم العربي عن مؤلفاتهم».
«كلاسيكيته» في الموسيقى لا تنسحب على قراءته للمشهد السوري. هو غاضب. لا يرى دوراً للفنانين السوريين في الحراك ضد النظام، رغم أنهم «المعنيون الأوائل بالاستفادة من نتائجه». يتوقع الحريّة ولا ينتظر شيئاً آخر غير تحطيم الرقابة تدريجاً. برأيه، فالرقابة هي مرساة الديكتاتورية، أو الحافة التي يلقي منها «النظام» ـــ أي «نظام» ـــ أفكار الآخرين. وبما أنّها حافة، يعني أنّها قابلة للسقوط قبل أي شيء آخر. الرقابة والديكتاتورية توأم، وجندلي يعوّل على سقوط الثانيّة لانتفاء الأولى. لا يخيفه الإسلاميون إطلاقاً. وفي معرض هجومه على النظام السوري، يتحدث عن إسلام «طوباوي»، فيه من التاريخ أكثر من الحاضر بكثير. يذكّر تارةً بزرياب الذي أسس «أول مدرسة للعلوم الموسيقيّة في أوروبا»، وطوراً يبدو «مطمئناً» لأن الحكم الإسلامي العباسي لم يهدم الفنون القديمة. يبدو جندلي مقيماً في عالم «نوستالجي» حالم. أحلامه الموسيقيّة كثيرة، والسياسيّة منها أكثر. حين التقيناه منذ أيام في قطر على هامش «مناظرات الدوحة» التي أضاءت على موضوع الرقابة على الفنون في العالم العربي، كان واثقاً «أكثر من أي وقت مضى بسقوط النظام». يضحك حين نسأله عن الجهة التي عزفت معه ألبومه الأخير. تبرق عيناه: «الأوركسترا الفلهارمونيّة الروسيّة». سجّلوا المقطوعات في مبنى الإذاعة والتلفزيون في موسكو أيضاً و«هي مؤسسة حكوميّة» يرجّح ذلك. الموسيقيون لا يجب أن يتبعوا حكوماتهم، بل العكس، وهذا ما يتمناه جندلي في سوريا. لا يفوته التذكير: يمكن الفصل بين الدين والدولة، لكن لا يمكن الفصل بين الفن والدولة. لهذه الأسباب، وجد نفسه «في قلب الثورة».
لا يرى جندلي في «سمفونيّة القاشوش» (نسبة إلى الفنان السوري القتيل ابراهيم قاشوش الذي اقتُلعت حنجرته) خياراً شخصيّاً اتخذه لدعم الحراك الشعبي السوري ضد النظام. القاشوش حنجرة فرضت نفسها على الجميع وكانت ولادة جديدة للفن السوري. كل تعامل معها على طريقته. هو «ألّف لها الموسيقى والنظام اقتلعها». يحلو له أن يلخّص الأمور على هذا النحو. ذهب صاحب «أصداء من أوغاريت» بنفسه إلى محال الأدوات الموسيقيّة، وانتقى الآلات التي استعملها في الفيديو «الذي شاهده ربع مليون إنسان حتى الآن». جندلي مطمئن إلى «سيرة القاشوش». في حساباته، الموسيقى هي الموسيقى «تعبير عن الحبّ والجمال». تبدو الجملة الأخيرة «كليشيه» تقفز فوق المشهد السوري، متجاهلةً الواقع الدامي هناك. سرعان ما يستدرك الموسيقي الشاب: «أقصد أن الثورة يفترض أن توفر مساحة للفنانين الشعبيين، والقاشوش كان واحداً من هؤلاء». لا يتعامل جندلي مع ابراهيم قاشوش كمتظاهر عادي، بل رأى فيه فناناً حقيقيّاً قادراً «أكثر من غيره على اختراع الفنّ» في مرحلة حساسة كتلك التي تشهدها سوريا، قبل أن يلقى حتفه وتُقتلع حنجرته بطريقة وحشية.
مالك جندلي ليس نخبويّاً. على الأقل، يحاول أن يظهر في هذه الصورة، وخصوصاً عندما يذكّر بأنّ «الثورات تبدأ من القعر». لا يحب أن يتحدث كثيراً عن حادثة الضرب التي تعرض لها والداه. يعتبر ذلك استعراضاً غير مبرر. يفضل مخاطبة العالم بالموسيقى. بطبيعة الحال، يعتقد أنّ علاقة الناس بالموسيقى هنا «ملوثة». الأنظمة السياسيّة التي حكمت المنطقة طوال العقود الماضية، وتالياً الاجتماعية الناجمة عنها، أدت إلى سقوط «العلوم الموسيقيّة» من المجتمعات العربيّة. يتجنب التعميم، من دون أن يكتم غيظه من «ظاهرة بوس الواوا».
يختم المقابلة كما بدأها. يشدد على ذكر حمص. حفلاته الأخيرة جميعاً خيريّة، وعائداتها تذهب مباشرةً إلى «جرحى الداخل في الدرجة الأولى». وسيكون محبّوه على موعد قريب معه في 18 حزيران (يونيو) في لندن، حين سيعزف أعماله مع الأوركسترا الملكيّة في بريطانيا، موجّهاً بذلك «تحيّة إلى الشعب السوري، في حضور الملكة».