لم تمهل الحياة «ملك العود» المغربي الوقت ليستمر في العزف على آلته الأثيرة. كان مرض الربو النشاز الوحيد في حياته التي جعلت من العود نَفَسَها حين يضيق بها التنفس. في شباط (فبراير) الماضي، أصيب سعيد الشرايبي (1951 ــــ 2016) بأزمة تنفس حادة أفقدته الوعي، وتسببت في ذبحة قلبية أدخل على إثرها إلى أحد مستشفيات مدينة مراكش، قبل أن ينقل على وجه السرعة إلى الدار البيضاء مع اشتداد حالته سوءاً حالته حيث أسلم الروح وفق ما نقلت تقارير إعلامية. ويبدو أن المرض الذي أصابه منذ عام 2002، آثر أن يقفل معزوفة حياة الشرايبي على صمت الحداد. في عام 2002، لم يُخْرج الشرايبي من سطوة المرض، إلا العود الذي رافقه في غرفة المستشفى يدندن عليه، ويجعله يتشبث بالحياة كما قال في حوار يعود إلى تلك الفترة نشر على صفحات يومية «أوجوردوي لوماروك».
قضم سعيد الشرايبي من تفاحة الموسيقى الطربية يافعاً، وسالت حلاوتها بين يديه، اللتين جعلتا من آلة العود معشوقته الأولى. وفي أحياء مراكش مسقط رأسه، بادل العود حباً بحب، بعدما أهداه والده الآلة وهو في الثالثة عشرة من العمر. درس الشرايبي في «مدرسة الأذن والعين»، وكان يسمع للكبار كالسنباطي والموجي وعبد الوهاب، ويستبطن الأحرف الموسيقية التي تنطق بها الآلة، ويراقب بعين ذكية كيفية تعاملهم مع الآلة. كان الشرايبي دوماً يردد أنّ مدرسته الأولى كانت بالسماع لموسيقيين مغاربة وعرب وشموا ذاكرته بمقطوعاتهم الموسيقية. ولطالما افتخر بأنّه فنان عصامي لم يدرس في معاهد الموسيقى.
تجربة زاوجت بين المرجعيات الأندلسية والموسيقى العصرية في المغرب

وربما عدم المرور في المعاهد الموسيقية، هو ما دفع الشرايبي إلى التخلص من المدرسية الصارمة، ليختار منذ السبعينات من القرن الماضي، المضي في اختبار أوضاع جديدة للآلة الموسيقية، تفتح أفقها على الإرث الموسيقي المغربي، وتجاور التجارب الطربية والجديدة.
كان يعرف أنّ قدره هو الموسيقى وآلة العود. وبعد حصوله على شهادة البكالوريا، اضطر للعمل لفترة في مؤسسة رسمية للتسويق والتصدير، قبل أن يختار القطيعة مع عالم الوظيفة، ويسوق ويصدر تجارته التي لا تموت، أي المعزوفات الموسيقية.
في منتصف الثمانينيات، حصل على الاعتراف العربي والدولي بموهبته كواحد من أبرز العازفين العرب. يومها، نال جائزة الميدالية الذهبية للعزف على العود من أحد أهم المهرجانات الموسيقية في بغداد في 1986. ومن هناك، امتدت التجربة ليشارك في «مهرجان فاس»، ويذيع سيطه عربياً ودولياً، ويحصد العديد من الجوائز بعدها في باريس عام 1992 وجائزة الاستحقاق عن دار الأوبرا في القاهرة عام 1994 وجوائز من قبيل «زرياب للموهوبين» من قبل الجمعية الوطنية للموسيقى في اليونسكو عام 2002... وبين جائزة وأخرى، كان الشرايبي يثري الموسيقى المغربية والعربية بمقطوعاته التي بلغت الخمسمئة. لحّن الشرايبي لمغنين مغاربة كبار من طينة عبد الهادي بلخياط، ونعيمة سميح، وسميرة سعيد واللائحة تطول. كما كان من الأوائل الذين انتبهوا إلى موهبة الفنانة كريمة الصقلي، فرافقها في بداية مشوارها الفني، وفتح أمامها أبواب التجربة الاحترافية بعد مشاركتها في برامج تلفزيونية لاكتشاف المواهب الشابة.
وكانت قوة الشرايبي الموسيقية في أنه يصغي لكل ما هو جديد. كان حداثياً من داخل آلة العود، لا يرى فيها آلة جامدة، تستعيد التقاسيم نفسها والتراث الموسيقي نفسه. كان ينظر إلى التراث الموسيقي بالمحبة ويقدمه في الكثير من معزوفاته، لكنه انتصر إلى الجديد في كل لحظة من تجربته. هكذا راوح ما بين تلحين أغنيات أداها مغنون، وتأليف معزوفات تجمع ما بين الروح المغربية أحياناً بمرجعياتها الأندلسية وما يصطلح عليه بالموسيقى العصرية في المغرب. كما ألف معزوفات للأوركسترا أدخل العود في قلبها. إبداعية العازف جعلته لا يتوانى عن التجريب، فالتقى بعازفين ومغنين أجانب، وعزف معهم مقطوعات يعير فيها العود صوته لموسيقى الفلامنكو والجاز وموسيقى ثقافات أخرى.
وعلى الرغم من أن الفنان كان عصامياً، إلا أنه آمن بأن للتكوين دوراً في تعليم الجيل الجديد عزف العود، وأراد نقل تجربته الواسعة إلى شباب يطمحون إلى سبر أغوار الآلة. هكذا أسس مع آخرين في عام 2012 معهداً خاصاً لتعليم العزف على العود أسمي بـ «رياض العود».
وقبل أشهر من رحيله، حصل الفنان على اعتراف رسمي آخر في المغرب من خلاله تتويجه بوسام ملكي من درجة فارس، عن مجمل أعماله الموسيقية. لكن العمر لم يمهله طويلاً، وألغى الكثير من الحفلات التي كانت مبرمجة له في دول أوروبية وعربية وداخل المغرب.