رحل قبل أيام عازف البيانو الكبير مناحيم بريسلر عن عمرٍ ناهز القرن! الرجل المولود عام 1923 قد لا يعرفه من «يعرفه» جيداً، فاسمه كان مختبئاً خلال الجزء الأكبر من مسيرته خلف الثلاثي الأسطوري الذي أسّسه عام 1955، والذي يعرفه جيداً أي مبتدئ في مجال السمع الكلاسيكي الغربي: Beaux-Arts Trio (ثلاثي الفنون الجميلة). عموماً، كل مجموعات موسيقى الحُجرَة من نوع رباعي الوتريات وثلاثي البيانو والكمان والتشيلّو «تُهمَّش» أسماؤهم لصالح اسم مجموعتهم، إلّا في حال حملت المجموعة اسم المؤسس أو العضو الأبرز، مثل «ثلاثي غروميو» الذي يحمل اسم عازف الكمان فيه أرتور غروميو، ناهيك عن أن شهرة الأخير كبيرة بصرف النظر عن مجموعته، بفعل تسجيلاته كعازف منفرد. أعضاء الأوركسترات هم هكذا أيضاً، مع فارق بسيط أنّ أعضاء مجموعات موسيقى الحجرة يتمتّعون بقيمة أكبر موسيقياً، بمعنى أنّ باستطاعتهم البروز وتحقيق شهرة فردية لو أرادوا ذلك، الأمر غير المتاح لمعظم أعضاء الأوركسترات (علماً أنّ بعض هؤلاء لا يريدون العمل المنفرِد، حتى لو سمحت بذلك قدراتهم الموسيقية… وهذا سلوك أقرب إلى القداسة). لهذا السبب، إذا أجرينا إحصاءً لمعرفة مدى شهرة الـ «بوزار تريو» في الأوساط الموسيقية، سنحصل على رقم أعلى بكثير من مدى شهرة مؤسّسه مناحيم بريسلر. أصغر مكتبة موسيقية لا بد أن تحوي تسجيلاً على الأقل للثلاثي الذي سجّل «كلّ» الريبيرتوار الخاص بهذه التركيبة: هايدن (تسجيل مرجعي لا تتخطاه أي محاولة أخرى)، بيتهوفن (تسجيل عظيم، وهو الأكمل لناحية أنه يشمل أيضاً، مثلاً، إعداداً مذهلاً من أوركسترا إلى ثلاثي، بريشة بيتهوفن، لسمفونيته الثانية)، موزار (بدايات الثلاثي في رحلة التسجيل)، دفورجاك (كتسجيل كامل، لا يوجد أفضل)، شوبرت (ممتاز رغم المنافسة)، رخمانينوف (التسجيل الذي شَهَر العمل)، رافيل (قبل فيلم «قلب في الشتاء» البديع لكلود سوتيه)…لكن نسبةً إلى غيره من أعضاء المجموعات، يتمتّع مناحيم بريسلر، كعضو في ثلاثي، بشهرة تتخطى، مثلاً، أعضاء رباعي «ألبن برغ» فائق الشهرة كمجموعة وليس أعضاء، إذ إنّ ألبن برغ ليس اسم أحد مؤسسي الفرقة، بل هو المؤلف الشهير من مدرسة فيينا الثانية. لهذا سبب: في بداياته، كان بريسلر يتطلّع إلى مسيرة عازف منفرِد، وكان مستواه يسمح بذلك بسهولة، وقد قدّم العديد من الأمسيات برفقة أوركسترا أو منفرداً. هذا جعله معروفاً فقط خلال حقبة قديمة إذا صح التعبير، أي بين الحرب العالمية الثانية ولغاية تأسيس الثلاثي عام 1955. أما ما منحه بعض الشهرة في العقد الأخير من حياته، فهي عودته إلى النشاط المنفرِد بعد حلّ الثلاثي عام 2008. عودةٌ متأخرة لم تمنحه إلّا ترحيباً معنوياً، إذ إنّه فقدَ الكثير من لياقة أنامله، بفعل التقدّم بالعمر. وهذا الضعف كان واضحاً في الأعمال المتطلّبة تقنياً. لذلك، بين التسجيلات القليلة التي أصدرها (منفرداً أو بمرافقة أوركسترالية) في السنوات الأخيرة، لم يبرُز إلّا آخر تسجيل له (2018)، صدر عند «دويتشيه غراموفون» وحوى ريبيرتواراً فرنسياً (دوبوسي، فوريه ورافيل) وأعمالاً منتقاة بعناية، يغلب عليها الطابع التأمّلي والهدوء والعمق الفكري والإحساس القوي ونفحة حزن وجودي، وهذه كلّها متوفّرة بالتأكيد عند رجلٍ كان في الـ 94 من عمره عندما دخل الاستوديو.
ماكس يعقوب بريسلر، يهوديّ مولود في ألمانيا عام 1923. والده كان يملك متجراً للألبسة، حطّمه النازيون خلال «ليلة الكريستال/ الزجاج» (Kristallnacht) الشهيرة عام 1938. بعد أسابيع، هربت العائلة إلى إيطاليا ثم إلى فلسطين، بحجّة النازية وليس بسببها طبعاً. كان هتلر عريفاً في الجيش عندما اشترت الحركة الصهيونية مرْج ابن عامر في فلسطين من آل سرسق وغيرهم! إلى فلسطين كان قد سبقه الكثير من الموسيقيين المحترفين (ضمن ظاهرة أهمّية اليهود في مجال الموسيقى الكلاسيكية… كأداء لا كتأليف، بعكس الجاز). في هذه الأجواء، أغنى موهبته وطوّر قدراته… وغيّر اسمه. بات مناحيم بريسلر. هاجر بعدها إلى أميركا، وشارك وفاز بمسابقات مرموقة وأقام الأمسيات. عام 1955، أسّس مع زميلَين الـ «بوزار تريو» وبدأ بتسجيل الريبيرتوار بشكل منهجي. عادةً، المنهجية تجعل من التسجيل الكامل جيداً بجزء منه وأقل جودة بجزءٍ آخر. تسجيلات هذا الثلاثي الكاملة أتت ممتازة بكاملها، وهذا نادر جداً عندما نتكلّم عن عشرات الديسكات والأعمال المتباعدة في النمط.
بعيداً عن الموسيقى، ربطت بريسلر علاقة قوية بإسرائيل وكذلك ببعض الصهاينة في العالم. من هذا المنطلق، يصبح محيّراً أخلاقياً نعي الرجل ومدح تركته الفنية. صحيح أنّ معظم الموسيقيين الكلاسيكيين «يتمتّعون» بغباء سياسي حاد، نظراً إلى انشغالهم مدى الحياة بعشر ساعات عمل يومياً، تمريناً وعزفاً في حفلات وسفراً وتعليماً. هذا يمكن أن يكون مبرراً للحياد، على علّاته، لكن ليس للانحياز الأعمى لدولة عنصرية مجرمة. هل نعيُه يعني الترويج له ومن خلفه للصهيونية؟ أم للنتيجة الفنية الخلابة التي تركها؟ هل الاستماع إلى تسجيلاته «خطيئة» سياسية؟ بالنسبة إلينا، سلاح إسرائيل الأقوى هو جهلنا… ونترك لكلّ منكم حلّ هذه المعضلة بما يناسب قناعاته ويريح ضميره.