مجمّعات سكنية، مدن متطوّرة، أو كما تُسمى في مصر «كومباوند»... هذه عيّنة من التسميات التي ابتكرتها الشركات العقارية للتهرّب من وصف التجمّعات السكنية المحاطة بالأسوار و/أو التي تضع قيوداً على دخول "الغرباء" إليها، بالمجتمعات المسوّرة.
تاتشر- ريغان: البدايات
راودت فكرة المجتمعات المسوّرة العقل البشري منذ آلاف السنين. أُنشئ بعضها لحماية المدن من الغزاة كما في مدينة القدس القديمة، أو لتكون للخاصة كما في «المدينة المحرّمة» في بكين التي كانت ممنوعة على غير الإمبراطور وأسرته وخدمه. الفكرة ليست جديدة، ولم تظهر بوصفها حيّزاً للفصل المكاني بين مجتمع الأغنياء وعامة الناس، لا بين شعب وآخر، أو بين السلطة والعامة، إلا في عصر الرأسمالية، فجاءت بدايتها الأكثر وضوحاً في منتصف القرن التاسع عشر.
ورغم بدايتها المبكرة وارتباطها بصعود الرأسمالية إلا أن الانتشار الكبير لظاهرة المجتمعات المسوّرة بدأ في الربع الأخير من القرن العشرين. ففي سبعينيات القرن العشرين، أي حقبة تاتشر- ريغان، هُيِّئت الأرضية اللازمة لانتشارها. في بداية تلك الحقبة، شهدت السياسات الاقتصادية في العالم الغربي تحوّلاً نحو منهج الليبرالية الكلاسيكية. وبعد مضي ما سُمّي «ربع القرن المجيد للرأسمالية» بين عامي 1945 و1970، دخل الاقتصاد العالمي في أزمة ركود تضخمي، على إثرها ارتفعت معدلات البطالة والتضخّم واللامساواة بصورة غير مسبوقة واقترنت بارتفاع معدل الجريمة. وكان واضحاً أن عهد السياسات الكنزية الداعية إلى زيادة الإنفاق العام لدعم الطلب الكلّي قد انتهى بعدما استنفدت حدودها التاريخية، فانقلب النظام الرأسمالي عليها، وعلى دولة الرفاه وفقاً للنموذج الأوروبي.
على هذه الأرضية الاقتصادية، وبدافع من خطاب الخوف من الفقراء، شهدت ظاهرة المجتمعات المسوّرة نمواً كبيراً في التسعينيات، إذ ازداد عدد الوحدات السكنية داخل المجتمعات المسوّرة في الولايات المتحدة فقط، إلى أكثر من 11 مليون وحدة في عام 2015.

الأسوار في عالم الجنوب
انعكست التحوّلات الاقتصادية في المراكز الرأسمالية على دول الجنوب. فانخفضت قيمة صادراتها التي تتألف بمعظمها من موادّ خام زراعية وطاقوية بفعل الركود في المراكز الرأسمالية، وبفعل إيجاد بدائل من المواد الأولية الاصطناعية عن المستوردات من المواد الخام الطبيعية. وفي المقابل ارتفعت قيمة صادرات المراكز.
وعلى إثْر التدهور الاقتصادي الذي أصاب معظم الدول النامية، استجابت هذه الأخيرة لبرنامج التثبيت وإعادة الهيكلة الداعية الى تراجع دور الدولة والإنفاق العام. ومع تراجع دور الدولة الاقتصادي- الاجتماعي في الإسكان الشعبي والعمالي ودعم قطاعَي الصحة والتعليم وتدهور الخدمات العامة؛ وجد الملايين من الشرائح الوسطى في المدن إلى جانب المهاجرين من الأرياف أنفسهم مضطرين إلى اللجوء للسكن على أطراف المدن حيث بدأت العشوائيات وأشباه العشوائيات بالتوسّع حتى باتت تشكّل طوقاً عريضاً يلفّ المدن الكبرى.
في المقابل، كان تأثير التحوّلات الاقتصادية الجديدة في طبقة رجال الأعمال والأثرياء الجدد من البرجوازية البيروقراطية والشرائح الوسطى العليا مختلفاً على صعيد السكن، فلم تلجأ إلى بناء تجمعات سكنية بمواصفات عالية داخل المدن كما فعلت سابقاً، بل لجأت إلى بناء مجمّعات مسوّرة مدفوعة بثلاثة أسباب رئيسية، هي:
- سوء الخدمات العامة التي طاولت حتى المناطق السكنية الخاصة بالأثرياء، إذ انتشرت ظاهرة التعديات (المخالفات) السكنية والتجارية وازدادت الأنشطة التجارية في أماكن لم تُصمم لتستوعبها، وباختصار فقدت غالبية المناطق السكنية الغنية طابع الراحة والهدوء التي كانت تتمتّع به كامتياز طبقي.
- فقدان وسط المدن التجاري، والتجمعات العامة (حدائق، ساحات...)، جماليتها وحيويتها بوصفها مناطقَ مجتمعية، وأصبحت بفعل انتشار مظاهر التلوث والفوضى والتسوّل والسرقات، أماكن غير مريحة وآمنة للعائلات، أي فقدت عنصر الأمن الحضري، وهو مرتبط بصفة خاصة بالمرأة.
- انفتاح النخب الثرية والشرائح الوسطى العليا على نمط الحياة، بفعل الانفتاح التجاري الذي سمح باستيراد السلع الكمالية، وتطور وسائل الاتصال مع المُنتجات الإعلامية والفنية الغربية. والتي جاءت بالتزامن مع أفول نجم الفكر الاشتراكي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتراجع عناصر الهوية القومية والوطنية، وبروز النموذج الرأسمالي الغربي- بحمولته الثقافية- كطريق وحيد للحداثة، وهو ما أفسح لها في المجال بتظهير نفسها كصورة منعكسة للمجتمع الغربي، بما يشابه صورة مجتمع البرجوازية الكومبرادورية في المستعمرات أواخر القرن التاسع عشر.

المجتمعات المُسوّرة في مصر
في التسعينيات بدأت تنتشر المجتمعات المسوّرة في مصر، أي في عهد الإصلاحات الاقتصادية الأولى عام 1991. في حينه استفادت شركات التطوير العقارية من القوانين الجديدة التي سمحت لها بشراء مساحات واسعة من أملاك الدولة لبناء تجمعات سكانية مسوّرة، ومخصّصة بحكم أسعارها، للنخب الثرية والشرائح الوسطى العليا.
أخذت وتيرة نموّ المجتمعات المسوّرة بالتسارع منذ عام 2011، مدفوعة بحالة الفوضى الأمنية التي عاشتها البلاد بين عامي 2011 و2013 التي عزّزت الشعور بالخوف، وبسياسات عهد الإصلاحات الاقتصادية الجديدة في عام 2016 التي عملت على جعل العاصمة المصرية نفسها (الإدارية) مدينة محاطة بالأسوار. هكذا وصل عدد المجتمعات المسوّرة إلى أكثر من 500 مجمّع في عام 2013، أي بنحو 34 مجمّعاً جديداً بين عامي 2010 و2013، والرقم مرشح ليكون أكبر بسبب النموّ المطّرد للمجتمعات المسوّرة في مصر.
تنتشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي المصرية منذ سنوات نكات مصوّرة (Memes) مصمّمة لإظهار المفارقات بين نمط حياة الطبقة المترفة التي بات يشار إليها بسكان (Egypt)، وعامة الناس من المصريين. ترمز المفارقات التي ترصدها وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الأعمال الدرامية والسينمائية إلى زيادة التباعد في سلوكيات مجتمعات الأسوار عن عامة الناس، إذ لم يعد الفاصل الطبقي يدلّ فقط على ما يمكن للفرد أن يملكه أو يستهلكه، بل بات مرتبطاً بنوعية العلاقات الاجتماعية والبنية العمرانية وأنماط التفاعل مع الآخر؛ عن هوية ثقافية ومجتمعية تعيش وتنمو في جزر معزولة بأسوار داخل حدود الدولة الواحدة. يحال رأس المال هنا إلى خلفية المشهد الذي يبرز فيه هوية ثقافية تتباعد عن هوية المجتمع المصري.

رموز وإشارات إلى ثقافة إيجبت
تظهر رموز وإشارات الهوية الثقافية للمجتمعات المسوّرة في مصر، في إعلانات شركات التطوير العقاري، أكثر من أي مكان آخر، فتلك الإعلانات تركز على تحريك الدوافع الداخلية للنخب الاقتصادية والشريحة الوسطى- العليا لجذبها للعيش في مدنها المسوّرة وترك المجمعات السكنية التقليدية المفتوحة على باقي أحياء المدن الفقيرة والمتوسطة، وفي هذا الاستخدام يمكن التقاط ثلاثة رموز وإشارات رئيسية:
- كثافة حضور النساء اللواتي يكاد تنعدم بينهن المحجبات. وغياب الحجاب في الإعلانات ينطوي على رمزين أولهما الخلفية الطبقية لقاطني تلك المجتمعات، فعدم ارتداء الحجاب تاريخياً كان امتيازاً محصوراً بالنخب الثرية والشرائح الوسطى- العليا، وظل رمزاً للخلفية الطبقية حتى الوقت الحاضر، وإن كان ليس رمزاً حصرياً ولا يفترض التطابق، أي أنه ليس انعكاس مرآة للطبقة التي تنتمي إليها المرأة، لكنه امتياز لأنه لا يرتبط فحسب بمعتقدات المرأة أو المجتمع المحيط بها، بالحجاب، بل بالإمكانية. فحرية المرأة بأن ترتدي ما تريد، يعني توفر بيئة آمنة حضرياً. وإلى جانب ذلك هناك رمز مرتبط بالأمان، فالإشارة إلى إمكانية حضور النساء وبالتركيز على الثياب المكشوفة، لا تهدف إلى جذب النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب إلى تلك المجتمعات بل يعني أن المرأة داخل المجتمعات المسوّرة ستكون في مأمن من التعرّض للتحرش، فتلك الظاهرة القميئة تطاول جميع النساء، بمعزل عما يرتدين. وبذلك يفتح في المجال لتغيير نمط لباس المرأة داخل المجتمعات المسوّرة حيث يتوافر لهنّ الأمان الحضري ويسمح لهنّ باختبار المدينة، أي الحركة والتفاعل في الفضاء العام والحصول على تجربة أفضل ضمن حركتهنّ. في المقابل، خارج الأسوار تكون النساء غير قادرات على ممارسة حريتهن بالتفاعل مع الفضاءات العامة، ويحصلن على تجارب سيئة تضع قيوداً على حريتهنّ في التحرك.
■ حضور اللغة الإنكليزية كأغنية في خلفية الإعلانات، وفي خطاب المؤدّين، بل وحتى في أسماء المدن ذاتها. واللغة الإنكليزية في هذا الموضع هي أيضاً تعبير عن امتياز طبقي، بحكم أن المدارس والجامعات التي تدرس باللغة الإنكليزية هي بحكم كلفتها الباهظة تكاد تكون محصورة بأبناء الأثرياء والشرائح الوسطى العليا، كما تمثل تعبيراً عن الرغبة بالانتماء إلى هوية ثقافية غربية، فاللغة في جوهرها ليست أداة للتعلم فحسب، بل هي تحدد خياراتنا في العمل والقراءة وما نشاهده وطرق تعبيرنا عن أنفسنا، هي في جوهرها تمثل هوية وانتماء ورمزاً أساسياً من رموز الهوية الوطنية.
■ تركّز إعلانات المجتمعات المسوّرة في مصر على الهوية الثقافية للمنتمين أو من أتيح لهم أن ينتموا إلى هذه المجتمعات. يأتي هذا التركيز بصورة مواربة أحياناً، لتأكيد أن قاطني هذه المجتمعات متشابهون. وتتفلّت منها أحياناً أخرى، كما في أحد الإعلانات الذي يظهر فيه رجل بالثياب التقليدية لأهالي صعيد مصر والذي قوبل طلبه بالسكن في المجمع بالرفض، في دلالة واضحة على أن المال وحده ليس كافياً لكي ينتمي أي شخص إلى تلك المجتمعات بل يجب أن يكون مرهوناً بالهوية الثقافية. فاللباس التقليدي لأبناء ريف وصعيد مصر لا يظهر أبداً في تلك الإعلانات، بل إن ملامح وجوه مؤدّي ومؤدّيات الإعلانات تكاد تكون في معظمها غير مصرية، فهي تميل إلى أن تكون بيضاء وأقرب للملامح الأوروبية، وهو رمز هوياتي آخر يدل على الرغبة في جعل التجمعات صورة عن نمط وأسلوب الحياة الغربية، بل للنخب في المجتمعات الغربية. فالمناظر الطبيعية وملاعب الغولف والتنس والفروسية لطالما كانت مقتصرة على النخب الثرية في الغرب.
يُعد العمران جزءاً من الوجود المادي للإنسان، كما بعناصر الوجود المادي الأخرى يتشكّل وعي الإنسان وتعريفه لنفسه وللآخر، وبالفصل المكاني تنقسم الهوية الثقافية للمجتمع؛ إذ يكاد يستحيل أن تقوم علاقات اجتماعية في ظل الأسوار القائمة، فالمجتمعان منفصلان، لكل منهما فضاءاته العامة التي تشمل كل شيء تقريباً من رياض الأطفال وحتى الجامعات والمشافي وأماكن العمل ومراكز الترفيه وغيرها. وبالفصل المكاني تنفصل الهموم والمشكلات، فمن هم داخل الأسوار ليسوا معنيين بحالة الخدمات العامة خارجها ولا حتى على مستوى الأمن، فلهم خدماتهم الخاصة وأمنهم الخاصّ، بل يجوز القول إن لهم عالمهم الخاص. وبهذا فإن المجتمعات المسوّرة تهدد السلم والتماسك الاجتماعييْن، فالنكات عن سكان Egypt ومصر ليست مجرد مزحة، بل تنمّ عن شعور بالتهميش والتمايز قد يتحول إلى حالة سخط سياسي بين محرومين تشكل المجتمعات المسوّرة لهم هدفاً واضحاً.

* باحث دكتوراه في الاقتصاد السياسي والعلاقات الاقتصادية الدولية في كلية الاقتصاد- جامعة حلب

المراجع:
(1) Setha M. Low, The Edge and the Center: Gated Communities and the Discourse of Urban Fear, Undercity of New York, 2016.
(2) رمزي زكي، الليبرالية المستبدّة، ط أولى، سينا للنشر، القاهرة، 1993.