«يعتقد الكثير من الناس أن نيويورك ستحلّ محلّ لندن كمركز للمال في العالم... ومما لا شك فيه أن ذلك ممكن، ولكن هل هو محتمل؟ إن الوقت وحده هو الذي سيجيب عن هذا السؤال» «أثر الحرب في المركز المالي لأميركا»، توماس دبليو لامونت، مصرفي أميركي


قبل نيويورك التي نعرفها اليوم، كانت سوق المال العالمية، والتي تعدّ مركز النشاط المالي للنظام الرأسمالي، في ذلك الحيّ اللندني الذي يسمى «The City»، أو كما يدعوه البعض «the Square Mile» كان هناك مصرف اسمه «Bank Of England» إلى جانب سوق الذهب والمكاتب الرئيسية للمصارف الكبرى وسوق التأمين الدولية وأسواق تبادل السلع الرئيسية. كان هذا الحي يدعم مالياً أكبر إمبراطورية استعمارية في العالم (بريطانيا العظمى) لفرض سيطرتها على البحار من خلال الدعم المالي للقوى العسكرية البريطانية ودعم أكبر أسطول تجاري في العالم للسيطرة على خطوط التجارة الدولية. ومن المكاتب الرئيسية للمصارف الكبرى في ذلك الحيّ، استطاع الجنيه الاسترليني أن يجتاح العالم وأن يصبح العملة الدولية المعتمدة كوسيط للتبادل التجاري بين الدول. ورغم أن الولايات المتحدة كانت في حينها بلداً مديناً للإمبراطورية العظمى، ورغم أن لا أحد كان يتوقع أن تتزعزع مكانة «The City» العالمية أو أن يحلّ الدولار مكان الاسترليني، إلا أنه بعد حربين عالميتين مدمّرتين للقارة الأوروبية، ومساهمتين بشكل كبير في نموّ الاقتصاد الأميركي (إذا استثنينا سنوات الكساد)، انتقل مركز النشاط المالي العالمي رسمياً من أوروبا (حي «The City») إلى نيويورك في الولايات المتحدة، وصار الدولار هو العملة الدولية التي يمكن الاعتماد عليها في التبادلات التجارية ما بين الدول.
سنحاول تبيان العوامل التي ساهمت في إحلال الدولار مكان الاسترليني، وسنحاول نمذجتها لنستطيع تقدير قوّة الدولار اليوم، وإمكانية إحلال عملة أخرى مكانه في التبادلات التجارية.

أولاً: القوة الاقتصادية
هناك علاقة متبادلة ما بين القوّة الاقتصادية والقوّة المالية. فالقوّة الاقتصادية شرط لتوافر القوّة المالية. كما أن القوّة المالية تسهم في زيادة القوّة الاقتصادية. وللتوضيح أكثر، ثمة مثال يمكن تقديمه: فلنقل إن هناك تاجراً من البرازيل يريد شراء ثلاجات بقيمة 50,000 دولار من الولايات المتحدة، وكان الدولار يساوي ثلاث قطع نقدية برازيلية، فإن التاجر البرازيلي سيدفع 150,000 قطعة نقدية برازيلية. إلا أن التاجر الأميركي لن يقبل التعامل بالعملة البرازيلية بذريعة أنها لا تستخدم في الولايات المتحدة، لذا سيطالب البرازيلي بتحويلها إلى دولار. في هذه الحالة، سينتظر التاجر البرازيلي مجيء تاجر أميركي يملك 50,000 دولار ويرغب في مبادلتها بـ 150,000 قطعة نقدية برازيلية لأنه يريد شراء مادة البنّ من البرازيل. فإذا توفّر لهذا التاجر ما يريد، تمّت العملية بكل نجاح. أما إذا توفّر تاجر أميركي يودّ شراء البن البرازيلي بقيمة 25,000 دولار فقط، فإن التاجر البرازيلي سيعجز عن دفع المبلغ كاملاً وستكون قيمة العجز 25,000 دولار (عجز في ميزان المدفوعات) لذا، عليه أن يستدين هذا المبلغ بالدولار من الولايات المتحدة (كما تتم الاستدانة عادة من صندوق النقد الدولي). وإذا سار الحال على هذا المنوال بشكل دوري، سيدرك التاجر البرازيلي أنه مضطر إلى الاحتفاظ باحتياطي من القطع الأجنبي يلجأ إليه مع كل عجز يصيبه في ميزان المدفوعات (وعلى هذا الأساس تحتفظ الدول باحتياطي من النقد الأجنبي).
هناك محاولات للتفلّت من هيمنة الدولار الأميركي، وهي بالتأكيد ستؤثّر على قوّته وقد تجعل اليوان الصيني عملة منافسة، لكن لا يمكن استشراف مدى إمكانية إحلال اليوان محلّ الدولار بعد


نقل هذا المثال من حالة التبادلات بين تاجرين، إلى حالة إلى التبادلات على الصعيد الدولي بين البرازيل والولايات المتحدة مثلاً، فهذا يعني أن هناك بلداً صناعياً متقدماً ذا اقتصاد قوي وحديث ومرن ويملك تنويعاً هائلاً في السلع التي يقدمها لدول العالم ككل، سيفرض في تعامله مع أي بلد أقلّ تقدّماً عجزاً في ميزان مدفوعات هذا الأخير. وهذا ينطبق أيضاً على أي بلد متخلّف اقتصادياً لا يملك إلا عدداً بسيطاً من السلع الأساسية المعدّة للتصدير، والتي تكون زراعية على الأغلب. هذا العجز سيؤدي إلى تبعية مالية ستؤدي بدورها إلى ظهور البلد الأقوى اقتصادياً كقوة مالية مهيمنة.
بالنظر إلى هذا المثال، فإن انخراط بريطانيا ومعها أوروبا، في حربين عالميتين، كان سبباً في إجراء الكثير من الصفقات العسكرية مع الولايات المتحدة التي دفعت الاقتصاد الأميركي والتجارة أيضاً نحو الازدهار. وهذا ما سمح للولايات المتحدة، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، بأن تكون قوّة اقتصادية عالمية، وأن تصبح أكبر مصدر للرساميل في العالم، وسمح لها أيضاً بالاستثمار في كل بقاع «العالم الحر».

انتشار القوّة العسكرية والسياسية حول العالم
استطاعت الولايات المتحدة، على الصعيد العسكري، أن تشغُل الفراغ الذي خلّفه تراجع بريطانيا عن أداء دور المسيطر على العالم. كما أن تطور الدولار وتحوّله ليصبح الوسيط الدولي الرئيسي للمدفوعات والائتمان والاحتياطات في العالم خلفاً للجنيه الإسترليني كان نتيجة طبيعية لاتّساع النطاق العسكري والسياسي للولايات المتحدة حول العالم من طريق شنّ الحروب وانتشار القواعد العسكرية وتقديم المعونات الاقتصادية والعسكرية. ولهذا الانتشار دور مهمّ في فرض السيطرة على العالم. فالدول البعيدة العصيّة على الخضوع تواجه بشنّ الحروب عليها لتطويعها في خدمة النظام الإمبريالي. أما الدول التي يمكن شراء (رشوة) الطبقة الحاكمة فيها والسيطرة على قرارها من خلال المساعدات الاقتصادية والعسكرية فلا تحتاج إلى الحرب. إذ إن السيطرة على العالم تهدف إلى إخضاع كل الدول لشبكة العلاقات الاقتصادية الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة. وبالتالي إخضاع كل الدول لنظام التبادلات التجارية التي تكرّس بمحصلتها هيمنة الولايات المتحدة على الاقتصاد العالمي وتعزز سيطرة الدولار.

القوّة التجارية
العلاقة ما بين القوّة المالية لبلد ما والقوّة التجارية هي علاقة تبادلية. فمركز النشاط التجاري على المستوى العالمي لا بد أن يُتبع بمركز للنشاط المالي بالضرورة. كما أن التجارة لا يمكن أن تزدهر من دون ظروف مالية ملائمة. فبينما كان دور لندن، كمركز للنشاط المالي، يتراجع بسبب الحرب. كان لزاماً على نيويورك أن تصبح مركزاً للنشاط التجاري العالمي إذا أرادت أن تخلف دور لندن كمركز للنشاط المالي. كما أن القوة التجارية تفترض بالضرورة توفّر قوّة عسكرية قادرة على السيطرة على خطوط التجارة العالمية، وتفترض أيضاً توفر وسائل نقل تجاري بري - بحري متقدّم. وهذا ما تنبّهت له الولايات المتحدة أيضاً وعملت عليه.

قوّة المؤسّسات المالية
لقد كانت المصارف البريطانية مسيطرة على العالم من خلال احتكارها للتجارة العالمية وتفوّقها كدولة استعمارية. ورغم انتشار المصارف الفرنسية والألمانية في العالم في ذلك الوقت وتزايد المنافسة الدولية في هذا المجال، إلا أن السيطرة البريطانية على تمويل التجارة الخارجية استمرت. وكانت الولايات المتحدة بلداً دائناً لبريطانيا العظمى ما قبل الحرب العالمية الأولى، إلا أن حكاية ردّ الديون الأميركية وتحوّلها إلى بلد دائن يقدّم القروض تعود إلى حرب البوير (Boer War) التي أثقلت بريطانيا بالأعباء المالية ودفعتها إلى الاقتراض من نيويورك. لكن بعد حربين عالميتين مدمّرتين، وبعدما أصبحت الولايات المتحدة أكبر مصدر للرساميل، وبعد انتشار الاستثمارات والقواعد العسكرية في العالم ككل، والتوغّل في بعض البلدان من خلال المساعدات الاقتصادية والعسكرية، كان لا بدّ للجهاز المصرفي في الولايات من أن يتّخذ طابعاً دولياً وأن ينتشر بفروعه في العالم لتقديم خدماته لهذه الاستثمارات ولتلك القواعد العسكرية... وليحلّ محلّ المصارف البريطانية، ويهيمن، كنتيجة لذلك على النظام المالي العالمي. إن حركة الانتشار هذه لم يكن سببها الحروب وبشكل مباشر، فقد بدأ التوسع المصرفي للولايات المتحدة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إلا أن الحروب البريطانية اكتسحت العقبات التي كانت تعرقل هذا التوسع.
كما هو واضح، فإن قوّة الدولار، لا تُستمد من القوّة المالية وحدها، بل مستمدّة أيضاً من القوّة الاقتصادية والعسكرية والسياسية والتجارية والمالية للولايات المتحدة. الدولار لم يتبوّأ هذا المنصب، إلا بعد تراجع قوّة الجنيه الاسترليني المتمثّلة بالعوامل السابقة ذاتها، وبعد حروب عدّة منهكة. وإذا أردنا معرفة قدرة عملة بلد ما على أن تحلّ مكان الدولار اليوم، فالمقارنة يجب أن تتم على أساس قوّة هذا البلد مع قوّة الولايات المتحدة على صعيد العوامل السابقة مجتمعة. أما في ما يتعلق بما نشهده اليوم من تكتلات مالية لا تتعامل بالدولار، فهي مجرد محاولات للتفلت من هيمنة الدولار الأميركي وشبكة العلاقات الاقتصادية الإمبريالية. بالتأكيد ستؤثّر على قوّة الدولار، وقد تجعل من اليوان الصيني عملة منافسة، إنما بالنسبة إلى إحلال اليوان الصيني مكان الدولار كعملة عالمية، فهذا ما لا يمكننا استشرافه حالياً بسبب عدم توافر الشروط الموضوعية التي تسمح لليوان بذلك. ولكن «الوقت وحده هو الذي سيجيب عن هذا السؤال».