بالنسبة إلى العديد من المراقبين، يمكن أن تُعزى الكارثة التي أصابت مصرف وادي السيليكون «SVB» في آذار الماضي، بجزء كبير منها، إلى المبادئ المحاسبية التي تسمح ببدائل لمعايير احتساب القيمة العادلة للأصول. فعلى سبيل المثال، إن السندات المصنّفة في فئة «محمولة لغاية الاستحقاق» (HTM) لا يجب التصريح بقيمتها السوقية، سواء في الميزانية العمومية أو في بيانات الأرباح والخسائر عندما ينخفض سعرها استجابة لزيادة أسعار الفائدة. الأساس المنطقي لهذه القاعدة، هو أن التقلّبات في القيمة قبل تاريخ الاستحقاق ستثبت أنها مؤقّتة في معظم الحالات، وبالتالي يجب تجاهلها إذا كان لدى المالك «القدرة والنيّة» للاحتفاظ بالسندات حتى تاريخ الاستحقاق. ومع ذلك، فإن هذا المبدأ تحديداً هو الذي سمح لـمصرف SVB بالتعرّج ببطء نحو الانهيار، من دون أن يعترف حتى بنسبة صغيرة من الخسائر غير المحقّقة والمقدّرة بالمليارات، التي أصابت السندات «المحمولة لغاية الاستحقاق»، سواء في الميزانية العمومية أو في بيانات الأرباح والخسائر.بالنسبة إلى العديد من هؤلاء المراقبين، يكمن الحلّ في اتّباع معايير محاسبة التصريح بالقيمة العادلة للأصول. في ظل هذا الحلّ، سيتم الاعتراف بالسندات في الميزانية العمومية بالسعر التقريبي الذي يمكن بيع السندات به بتاريخ الاحتساب. بالإضافة إلى ذلك، ستنعكس الزيادات في السعر في بيانات الأرباح والخسائر على أنها مكاسب، بينما تنعكس الانخفاضات في السعر بوصفها خسائر. في هذه الحالة، تسود شفافية أكبر وتعكس الميزانية العمومية مشهداً أكثر دقّة لما يمكن أن يحدث إذا تمّت تصفية أصول المصرف فوراً. إذا تجاوزت القيمة العادلة للأصول في التصفية المبلغ الإجمالي للمطلوبات، تكون القيمة الصافية للمصرف موجبة، ويمكن استرداد المطلوبات بالكامل، ويمكن للمساهمين توقّع استرداد مبلغ مساوٍ للقيمة الصافية الإضافية؛ أما إذا كانت القيمة العادلة للأصول أثناء التصفية أقلّ من إجمالي المطلوبات، فيخسر المساهمون حقوقهم وتتحمل الالتزامات اقتطاعاً جزئياً يساوي تجاوز قيمة المطلوبات لقيمة الأصول.
يبدو هذا الأمر مرغوباً بشكل بارز، وفي كثير من النواحي يُعدّ تحسيناً للقواعد الحالية. الجدال هنا هو أن معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول تسبّب عدداً من النتائج الغريبة التي قد تطغى على فوائدها بشكل إجمالي.

تاجر القطع الفنية
يمكن البدء بتخيّل ولاية قضائية يُطلب فيها من تجار الأعمال الفنية بموجب القانون الحصول على صافي ثروة لا يقلّ عن 8 ملايين دولار. يبدأ تاجر الأعمال الفنية «أ» بمبلغ 10 ملايين دولار نقداً من دون مطلوبات، ما يعني ضمناً أن صافي ثروته 10 ملايين دولار؛ وبالتالي هو قادر على الحصول على ترخيص لممارسة مهنته ممتثلاً للقانون بشكل كامل. يرى «أ» الآن لوحة جذابة معروضة للبيع مقابل 12 مليون دولار. يحصل على قرض طويل الأجل بمبلغ 2 مليون دولار، ويضيفه إلى المبلغ الأصلي (10 ملايين دولار)، ويشتري اللوحة. لديه الآن أصول بقيمة 12 مليون دولار ومطلوبات تبلغ 2 مليون دولار، ما يعني ضمناً أن صافي ثروته يبلغ 10 ملايين دولار. وبذلك يحتفظ برخصته للتعامل في الأعمال الفنية. ثم في أحد الأيام، يتبيّن أن رسام اللوحة الجديدة التي استحوذ عليها «أ»، لديه سجلّ إجرامي يتضمّن أفعالاً مخلّة بالشرف. وينخفض سعر الأعمال الفنية المختلفة للرسام المذكور في السوق بشكل موحّد بنسبة 20%. اللوحة التي يملكها «أ» ستجلب على الأرجح 9.6 ملايين دولار فقط إذا بِيعت فوراً، لكن «أ» مصرّ على أنه لن يبيعها حتى يتعافى سعرها إلى 12 مليون دولار على الأقل. ولأن القرض طويل الأجل، يمكنه الانتظار.

هل يمكن لـ«أ» الاحتفاظ برخصته؟
لا شكّ بأن الغالبية ترى أن أصول «أ» تساوي الآن 9.6 ملايين دولار فقط، في حين أن مطلوباته لا تزال تساوي 2 مليون دولار بحيث يكون صافي ثروته 7.6 مليون دولار - وهو انتهاك لمتطلبات رأس المال. في هذه المرحلة، ربما يكون من الأفضل استخدام رخصة «أ» لإضاءة آخر سيجاره الكوبي. التفكير بهذه الطريقة، يعكس العمل وفق معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول: يُمنع الطرف المتضرّر من الاختباء وراء بعض المبادئ القديمة لمعايير محاسبة الكلفة التاريخية للأصول، على وجه التحديد أحد المبادئ التي من شأنها أن تسمح لـ«أ» بمواصلة تقييم العمل الفني بمبلغ 12 مليون دولار، على أساس أن لديه القدرة والنية على التمسّك بها حتى تعود إلى قيمتها الأصلية أو أعلى.
يتمثل أحد الاختلافات المهمّة بين وضع «أ» ومصرف SVB، في أن محفظة سندات المصرف من فئة «محمولة لغاية الاستحقاق» مطلوب استردادها قانوناً على قدم المساواة بعد عدد محدّد من السنوات. قد يكون النقاش أنه لا يوجد شيء مشابه في حالة العمل الفني. لكن «أ» يصرّ على أنّ (1) من المتوقع أن ترتفع قيمة العمل الفني على المدى الطويل حيث تتراجع ذكريات الفساد الأخلاقي للرسام ويختار المشترون بشكل متزايد فصل أعمال الرجل عن أفعاله البغيضة، وكذلك (2) يمكن توقّع ارتفاع قيمة العمل الفني على المدى الطويل من خلال المعدل التراكمي للتضخم. باختصار، بعد مرور وقت كافٍ، لا بدّ أن يُعاد تسعير اللوحة عند 12 مليون دولار أو أكثر، كما أن سندات المصرف من فئة «محمولة لغاية الاستحقاق» لا بدّ أن يعاد تسعيرها على قدم المساواة بعد مرور وقت كافٍ. يبدو أن الجولة الأولى من النزاع تُعطي الأفضلية لمعايير محاسبة القيمة العادلة للأصول.

فجوة إدارة الأصول والمطلوبات
المقاربة التالية تنطلق من أن أحد المصارف التي تبدأ عملياتها برأس مال يبلغ 10 ملايين دولار، فإنّ المصرف يجذب هذا البنك 90 مليون دولار من الودائع الجديدة لمدة عام واحد والتي يدفع عليها فائدة 1% سنوياً. مع وجود 100 مليون دولار في متناول اليد، يشتري المصرف سندات خزانة بقيمة 100 مليون دولار لمدة 30 عاماً تدفع فائدة بنسبة 5% سنوياً. يتفق الجميع على أنه في العام الأول، يكسب المصرف 5 ملايين دولار من دخل الفوائد ويتكبّد 0.9 مليون دولار في مصروفات الفوائد. وبمعزل عن مصاريف التشغيل والضرائب، يحقّق المصرف دخلاً صافياً في السنة الأولى قيمته 4.1 ملايين دولار وعوائد نسبة إلى رأس المال (ROE) بنسبة 41%. هذا الأمر ممتاز بكل المقاييس، رغم أن إدراج نفقات التشغيل والضرائب من شأنه أن يقلّل هذا الرقم بمقدار ليس بقليل. نفترض أن المصرف يوزع صافي دخله بالكامل للسنة الأولى ويستعد لتكرار نجاحه في السنة الثانية.
ومع اقتراب السنة الثانية من البدء، ترتفع أسعار الفائدة بنسبة 1%. بالطبع هذا لا يفيد المصرف في جانب الأصول من ميزانيته: إذ إن السند لديه قسيمة ثابتة تستمر في توليد 5 ملايين دولار بالضبط خلال العام الثاني، ولكن ليس بنس واحد أكثر من ذلك. وعلى الجانب الثاني من الميزانية، أي المطلوبات، المطلوبات يعاد تسعيرها بنسبة 2% سنوياً، لذا فإن مصروفات الفائدة لهذا العام ترتفع الآن من 0.9 مليون دولار سابقاً إلى 1.8 مليون دولار. ينخفض صافي الدخل إلى 3.2 ملايين دولار ويتبعه انخفاض العائد نسبة إلى رأس المال من 41% إلى 32%. يمكن وصف أداء العام الثاني بأنه لا يزال ممتازاً بدرجة أقل من أداء العالم الأول، إذ لا يزال المصرف مؤسّسة رابحة بقوّة مع صافي ثروة صحيّة، وميزانية عمومية نظيفة، وهوامش فائدة قوية، وآفاق واسعة. في هذه الحالة، من الطبيعي أن ينبهر المساهمون والمودعون، ويجب أن يكونوا حريصين جداً على الاستمرار في التعامل مع منجم الذهب هذا الذي يعطي أكثر وأكثر.
لكن هل يجب أن ينبهروا فعلاً؟ بعد كل شيء، كانت قيمة السند قد انخفضت من 100 سنت إلى 86.6 سنتاً لكل دولار، ما أدّى إلى خسارة البنك مبلغ 13.4 مليون دولار بموجب معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول. هذا يحوّل المؤسسة الرابحة بقوّة إلى مؤسسة غارقة؛ كما أنه يسلب القيمة الصافية للمؤسسة، ويجعلها تتجه نحو الصفر. ثم فجأة يبدو الأداء الممتاز في السنتين ضرباً من الخيال.
ومع ذلك، بدأ المصرف حياته بصافي ثروة قدرها 10 ملايين دولار، وظل رابحاً بشكل كبير من حيث التدفق النقدي منذ ذلك الحين. ألا يوجد شيء مزعج بشأن نظام محاسبة يعلن إفلاس مؤسّسة ذات رأس مال جيد كان تدفقها النقدي إيجابياً بشكل كبير في كل عام من وجودها؟

المدرّب المالي
تبدأ تجربة فكرية أخيرة مع مدرّب مالي يحاضر عن أدوات الدخل الثابت والمشتقات المالية. غداء مع عميل مهم ينتهي بعقد يتطلب من المدرّب تدريس دورة واحدة سنوياً مقابل رسوم قدرها 1000 دولار للسنوات العشر القادمة. يبتهج المدرب بهذا التطور ويعامل زوجته ببذخ بباقة جميلة من 24 وردة حمراء وعشاء ثمين، رغم أنه يعلم أن مبادئ المحاسبة تمنعه من الاعتراف بفلس واحد من الإيرادات حتى يبدأ في تقديم الدورات. ومع ذلك، تبدو حياته جيدة كما هي... إلى أن يتم تعديل مبادئ المحاسبة المقبولة عموماً في يوم واحد لتتطلّب تطبيق معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول على عقود الخدمات. وفي الوقت نفسه، تنفجر الرغبة في الدورات التدريبية في أدوات الدخل الثابت والمشتقات، ويجد المدرّبون أنفسهم قادرين على تحصيل 2000 دولار لكل دورة. هل يؤثّر هذا التطور على الطريقة التي يجب أن يفسّر بها مدرّبنا عقده الإيجابي للتدفق النقدي؟ ربما ليس في ظل معايير المحاسبة التقليدية، ولكن إذا طبقنا معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول سيؤثّر هذا التطوّر. الآن، أصبح العقد يتضمن كلفة الفرص الضائعة بقيمة 1000 دولار سنوياً، وبالتالي فإن قيمته العادلة من وجهة نظر المدرب هي سالب 10000 دولار على مدى العقد (بافتراض أن أسعار الفائدة صفر لجميع فترات الاستحقاق).
لفهم أساس هذا التأكيد بشكل كامل (بعد تجنّب الغوص في المفهوم الغامض لكلفة الفرص الضائعة)، نفترض أن المدرّب يصبح مشلولاً وغير قادر على تقديم الدورات المعنية. حريصاً على حماية سمعته مع عملائه، فهو يبحث عن مدرب بديل، ذي كفاءة مماثلة، ليأخذ مكانه. سيطلب هذا المدرب الثاني دفع 2000 دولار لكل دورة، بينما لن يتلقى المدرّب الأصلي أكثر من 1000 دولار لكل دورة من عميله. يترجم هذا إلى خسارة سنوية للمدرب الأصلي قدرها 1000 دولار لكل دورة وخسارة إجمالية، على مدى 10 سنوات، قدرها 10000 دولار، وقيمتها الحالية هي أيضاً (سلبية) 10000 دولار لأن أسعار الفائدة صفر.
ويترتب على ذلك أنه من اللحظة التي يبدأ فيها تطبيق معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول، يجب على المدرب أن يعترف فوراً بمطلوبات قدرها 10000 دولار في ميزانيته العمومية وخسارة قدرها 10000 دولار في بيانات الأرباح والخسائر الخاصة به، حتى لو لم يدخل فلس واحد نقدي أو يخرج من جيبه. وهو الآن يأسف بمرارة على الباقة المكونة من 24 وردة حمراء والعشاء الثمين. بافتراض عدم وجود أصول أخرى للمدرب، فإنه مُفلس، رغم كل التوقعات بأنه سيولّد تدفقات نقدية إيجابية طوال كل عام من عمر العقد.
معايير محاسبة القيمة العادلة للأصول تؤدّي إلى نتائج غريبة تطغى على فوائدها


وإذا افترضنا الآن أن رسوم المدربين الماليين الأكفاء استقرت عند 2000 دولار لكل دورة. فخلال العام الأول، يقدّم مدربنا أول دورة له ويحقق 1000 دولار من التدفق النقدي. يشق هذا طريقه إلى بيان دخل المدرب للسنة الأولى. وفي الوقت نفسه، تقلّصت الالتزامات البالغة 10.000 دولار أميركي إلى 9000 دولار أميركي (بافتراض أن أسعار الفائدة لا تزال صفرية). هذا الخفض في الالتزام يشق طريقه أيضاً إلى بيان الأرباح والخسائر، ما ينتج منه مكاسب في القيمة العادلة قدرها 1000 دولار إضافية. لذلك بالنسبة إلى السنة الأولى، سيعكس بيان الأرباح والخسائر 2000 دولار في الإيرادات/ الربح، حتى لو كان من منظور التدفق النقدي فقط 1000 دولار وصلت في تلك السنة.
سيتكرر الشيء نفسه كل عام بعد ذلك، طالما أن رسوم المدربين الأكفاء ثابتة عند 2000 دولار لكل دورة. هذه النتيجة غريبة على الأقل مثل النتيجة في الفقرات السابقة. لحسن الحظ، يسود الحد الأدنى من التعقل بحلول نهاية السنة العاشرة، أخيراً: الخسارة الأولية البالغة 10000 دولار تبعتها عشرة أرباح سنوية قدرها 2000 دولار لكل منها، ما ينجم عنه ربحاً إجمالياً، على مدى عمر العقد، تبلغ 10000 دولار. وهو بالضبط مبلغ التدفق النقدي الناتج بشكل إجمالي. في حين تباعد التدفق النقدي وصافي الدخل بشكل كبير عاماً بعد عام، إلا أنهما تقاربا بسلاسة على مدار السنوات العشر، بشكل تراكمي. لذلك ربما قد لا يكون الأمر غريباً بعد كل شيء.

الخاتمة: السعر المدفوع والفوائد المحققة
باختصار، الاستخدام الموسع لمعايير محاسبة القيمة العادلة للأصول من شأنه أن يعزز شفافية التقارير المالية ويعكس بدقة أكبر مواقف أصحاب المصلحة المتنافسين في التصفية؛ لكنها تؤدي إلى ظهور مجموعة متنوعة من النتائج الغريبة التي يصعب التوفيق بينها وبين الفطرة المالية السليمة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن السعر المدفوع يفوق الفوائد المحققة. كل من البديلين المحاسبيين يحمل إيجابيات وسلبيات. مقارنتها بموضوعية ليس أمراً سهلاً.

* عمل أسامة نصر محامياً ومصرفياً ومستشاراً مالياً في مدينتَي نيويورك وبيروت لمدة 37 عاماً. بدأ حياته المهنية في مكتب المحاماة Shearman & Sterling المتخصّص بالشركات في مدينة نيويورك لمدة 4 سنوات، ثم عمل لمدة 7 سنوات في Citigroup، قبل أن يؤسّس شركة DNA Training & Consulting منذ أكثر من 20 عاماً. وهو حاصل على درجتَي البكالوريوس والماجستير من جامعة كامبريدج في الرياضيات والفلسفة ودكتوراه في القانون من كلية الحقوق في كورنيل.