ما صحّة وجود مجموعة من شركات التدقيق المحاسبي الكبرى، تحاول أن تفرض على نقابة خبراء المحاسبة اللبنانية خيار التخلّي عن التطبيق السليم للمعايير المتّبعة في التدقيق المحاسبي؟برزت آراء عدّة في هذا الموضوع ولا سيما أنه يتعلق بتطبيق المعيار المحاسبي رقم 29. يشير هذا المعيار إلى أنه عندما يسجّل التضخّم معدلاً سنوياً يفوق 100%، يتوجب على المؤسّسات الاعتماد على نسب التضخّم لتقييم الحسابات بناءً على سعر الصرف. هناك رأي تقوده مجموعة من الشركات التي تتولّى التدقيق في ميزانيات المصارف والشركات العالمية، مبني على مصلحة لها في فرض تطبيق هذا المعيار، لأنه ينسجم مع ما هو مطلوب في عملها خارج لبنان. أما الشركات الأخرى التي تتولّى التدقيق على المستوى الوطني فليس لها مصلحة في تطبيق هذا المعيار، لأنه عندما تدقّق في بيانات مالية غير مطابقة لهذا المعيار، تصبح مضّطرة أن تقول في تقريرها إن الوضع المالي غير مطابق للواقع أو ألا تُبدي رأيها في البيانات المالية.

(مروان بوحيدر)

هنا وقع الاختلاف. ودخلت وزارة المالية في مشروع تأجيل العمل بهذا المعيار، وطلبت من مجلس شورى الدولة إصدار بيان يجمّد العمل فيه. إنما برز في هذا الإطار توجّهٌ ثانٍ يحبّذ تطبيق المعايير اللبنانية بدلاً من المعايير الدولية، بالاستناد إلى تجارب سبقتنا إلى ذلك مثل مصر والسعودية اللتين طبقتا معايير خاصّة بهما. لكن هناك رأي يشير إلى أن المعايير اللبنانية لا يمكن أن تُطبّق لأنها بحاجة إلى رقابة صارمة، إذ إن تطبيق المعايير الوطنية من شأنه أن يفصل لبنان عن الخارج، فتُصبح تقاريرنا غير مُعتبرة في المحافل الدولية (عند المصارف الكبرى وشركات التأمين وإعادة التأمين وغيرها). اليوم واضح أن الأمور متروكة على غاربها.

ما هي صعوبة تطبيق المعيار 29؟
تطبيق هذا المعيار صعب جداً لأن له قواعد وشروط. فهو يُلزم المدققين بالآتي:
- تطبيق المعيار 21 الذي يفرض تحديد سعر الصرف المتداول، إذ يقول هذا المعيار إن على الشركات والمؤسّسات أن تعتمد سعر صرف رسمي متداول. والمشكلة اليوم أنه لا يوجد لدينا تحديد لسعر صرف رسمي، بل لدينا أسعار صرف عدّة متداولة، ما بين سعر صرف رسمي، وصيرفة، والدولار المصرفي وأسعار السوق.. تعدّدية الأسعار تمنعنا من الاعتماد عليها لكي نطبّق المعيار 29، لأنه ليس هناك سعر صرف محدّد لتحويل الأرصدة بالعملة الأجنبية على أساسه. هذا العائق الأوّل وهو صعب جداً، إذ يجعل من المستحيل علينا أن نُصدر بيانات مالية غير معتمدة على سعر رسمي.
- ينصّ المعيار 29 على أن نلحق السوق، أي أن نُسعّر بشكل متتابع. وهذا التسارع في تصاعد نسبة التضخّم يجعل من المستحيل أن نتابع حركة المال لأن الأمور تختلف من شهر إلى آخر بحسب اختلاف التضخّم. لذا، نحن بحاجة إلى وجود جهة رسمية تُصدر نسب التضخّم بحسب تغيّرها. أخيراً، ولأوّل مرّة، حصلنا على تحديد رسمي لنسبة التضخم من إدارة الإحصاء المركزي التي لم تكن في السابق توزّع نسب التضخّم أو تعتمدها على مسؤوليتها. ولكن، حتى إذا استمرت إدارة الإحصاء المركزي بتوزيع هذه النسب رسمياً، نبقى بحاجة إلى الركيزة الثانية، أي أن تعتمد مديرية القطع في مصرف لبنان، بحسب قانون النقد والتسليف إصداراً يومياً للإقفال الرسمي لسعر تداول الدولار. إذا تمّ ذلك، يُمكن اعتماد المعايير الدولية ونسب التضخّم لحسابات عام 2023. وهناك بالفعل شركات تعتمد المعيار 29.
ظلّت الشركات تدفع الرسوم والضرائب على أساس سعر الصرف الرسمي (1507.5)، حتى قبل نحو شهرين عندما صدر قرار بتعديل سعر الدولار الجمركي إلى 15000 ليرة. حتى الآن لم نعرف إذا كان هذا السعر يُعتبر سعراً رسمياً، وما إذا كان بدأ تطبيقه. فالجهة المخوّلة إصدار سعر الصرف هي مديرية القطع في مصرف لبنان، وهي عليها أن تُعلن عن السعر الذي يُقفل التداول عليه، وهو اليوم نحو 80 ألف ليرة، لكنها لم تتجرّأ على فعل ذلك. أما بالنسبة إلى رفع سعر الدولار الجمركي إلى 15 ألف ليرة للدولار، فهو بمثابة فرض ضريبة جديدة على الناس.

كيف كنتم تقومون بأعمال التدقيق في السنوات الأخيرة في ظل وجود أسعار متفاوتة لسعر الصرف تخلق مشكلات في الميزانيات تتعلق بأسعار مختلفة بين بنود الموجودات والمطلوبات؟
كمدققي حسابات، لم يكن لدينا معيار إلا اعتماد سعر الصرف الرسمي وهو 1507.5 ليرة مقابل الدولار لمعادلة جميع الأرصدة المقوّمة بالعملة الأجنبية. لكنا كنا نذكر في بيانات التدقيق، أن البيانات المالية لا تمثّل الواقع الصحيح للأرصدة. كنا أمام مشكلة، وخصوصاً في ما يتعلّق بالشركات التي تملك حسابات بالدولار في المصارف. فهل هي فعلاً تملك هذه الأرصدة بالقيم المصرّح عنها؟ وهل تستطيع أن تحصل عليها؟ وعلى أي أساس نحتسبها؟ كنا أمام مشكلة تتعلّق بتقييم مالية الشركات لجهة أرصدتها في المصارف والقروض المسجّلة عليها، والموازنة بينها. فالشركة المُقترضة من المصرف مجبرة على تسديد القرض، أما بالنسبة إلى رصيدها في المصرف فهناك سؤال: هل ستحصل عليه فعلاً؟ الجواب غير أكيد. لذا، كنا نقول دائماً أننا لا نُبدي رأينا في البيانات المالية، أو نتحفّظ على بند أرصدة في المصارف، لأنه ليس من المؤكّد أن الشركات تستطيع تحريك هذه الأرصدة.

لقد سبق أن أصدر وزير المالية السابق غازي وزني القرار 893 الذي يفرض تسجيل العمليات بحسب سعر الصرف في تاريخ إجراء العملية، كيف كان تأثير ذلك؟
هذا القرار مخالف للقانون بشكل مطلق، فالوزير الذي يمثّل السلطة، لا يستطيع إلزامنا بما يخالف القانون. فمن أبسط الأمور أنه لا يمكن الحصول على مستند رسمي بسعر الصرف. والواقع، إن قرار الوزير استند إلى المادة 25 من قانون حماية المستهلك التي تخصّ المستهلك النهائي الذي يشتري السلعة بالمفرّق. وبالتالي ليست كل الشركات قادرة على الاعتماد على المادة 25 التي تخصّ تسعير بيع التجزئة.
مشروع قانون الكابيتال كونترول يعطي صلاحيات للجنة غير متخصّصة ويترك لها أمر التشريع

مشكلتنا أن السعر الرسمي الصادر عن جهة رسمية هو 1507.5 ليرات مقابل الدولار، ولا أحد يستطيع أن يعدّله، بمن فيهم الوزير.
هنا وقع الخلاف، إذ أعلن مدير عام وزارة المالية أن الشركات تعتمد السعر الرسمي (1507.5)، اعتماداً على النصوص الموجودة بين يديها في ما يتعلّق بموازنتها، وعندما تريد إجراء التبادل في ما بينها تعتمد سعر الصرف الرسمي (1507.5). الوزير أوقع الناس في إرباك كبير، لأنه لا يريد أن يأخذ قراراً يتحمّل مسؤوليته، وهو يعرف أن ذلك ليس من صلاحياته، خصوصاً في ما يتعلّق بتعديل سعر الصرف، فرمى قراره بشكل عام على أن تعتمد المؤسسات "سعر الصرف المتداول" بخصوص العمليات المالية. وعلى هذا الأساس استمرّت الشركات التي لديها رقماً مالياً باعتماد سعر الصرف الرسمي (1507.5). نحن كمدققي حسابات لا نستطيع العمل من دون مستند فبقينا على سعر الصرف الرسمي.

ألم يعتمدوا في ذلك على المادة 35 من قانون الجمارك؟
قانون الجمارك يُحدد نسبة الرسوم على السّلع. والنسبة هي بحسب القيمة، لكن القانون لا يقول إنه إذا كان سعر السلعة بالدولار كيف يمكن احتساب سعر الدولار. المنطق، بحسب القانون، يقول إن الجمارك يجب أن تُحتسب على أساس سعر السوق. هم يتهرّبون وغير قادرين على اتخاذ قرار يواجهون فيه الناس، لأنهم عاجزون عن معالجة الانهيار وتراكم العجز، لذلك يقدمون على اتخاذ قرارات غير قانونية. بالأمس رفعوا سعر الدولار الجمركي من 15 ألفاً إلى 45 ألفاً، على أي أساس تمّ ذلك؟ على وزارة المالية والسلطة التنفيذية كلها وضع خطة لمعالجة الأزمة ككل. المطلوب هو معالجة الأزمة والإقلاع عن القرارات الترقيعية. ما يجري يبدو كأنه اتفاق بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية على استمرار الأزمة وإطالة أجلها إلى أقصى وقت ممكن، حتى يعمّموا اليأس على الناس، ويتخلّصوا من العجز الذي نتج من سياساتهم الخاطئة. فقد اقتطعوا خلال السنوات الثلاث الماضية 80% من أموال الناس، وهي تُعتبر بمثابة جزء من معالجة العجز على حساب المواطنين.
حاكم مصرف لبنان كان مصراً على إبقاء الأرصدة على سعر الدولار الرسمي، 1507.5 ليرة، ليعطي فرصة للمصارف لتكوين مؤونات لخسائرها… هو سعى إلى امتصاص أزمة المصارف من أموال الناس. والطريقة التي اتبعها مصرف لبنان تعني أن المصرف الذي يملك مليون دولار من اليوروبوندز تُسجّل مليار ونص ليرة على سعر الصرف الرسمي، أما إذا احتُسبت على سعر 15 ألفا تُصبح 15 مليار ليرة ما يعني خسارة المصارف لكل رساميلها.

في عام 2018 اعتمد مصرف لبنان المعيار رقم 9 في ما يخص الخسائر المتوقّعة، وعندما بدأت الأزمة جمّد مصرف لبنان هذا التعميم وكأنه لم يكن موجوداً. كيف تفهمون هذه الخطوة؟
عندما يستطيع المصرف المركزي أن يُصدر تعاميم يتحكّم من خلالها بالمودعين وبحقوقهم لحساب المصارف، فهو قادر أن يفعل أي شيء، خصوصاً أن هناك سلطة سياسية تتولّى حمايته. اقرؤوا مشروع قانون الكابيتال كونترول المعروض على مجلس النواب، إذ إنه يُعطي للجنة الوزارية صلاحيات التحكّم بأموال الناس وهي تحدّد سعر الصرف وتتحكم بالتحويلات إلى الخارج، ولديها حقّ تصنيف من يتاح له تحويل المال إلى الخارج للتعليم أو الطبابة أو فتح حساب وما إلى ذلك... هم يعطون بهذا القانون صلاحيات للجنة غير متخصصة، ويتركون لها أمر التشريع. لقد تركوا الأزمة تتفاعل على مدى أربع سنوات الماضية، واليوم يريدون أن يُشرعوا التحويلات.. عن أي تحويلات يتحدثون بعدما حوّلت عشرات مليارات الدولارات إلى الخارج. كل ما تقوم به السلطتان التشريعية والتنفيذية هو اعتماد الزمن كوسيلة للحلّ.

ماذا يعني ذلك على الاقتصاد والمجتمع؟
خذ جانباً واحداً مما حصل منذ ثلاث سنوات إلى اليوم، وهو ما يتعلّق بما جرى لصغار المودعين وكم اقتطعوا من ودائعهم. هذا الاقتطاع لصالح من؟
خذ مثلاً، إقدام مصرف لبنان على طباعة الليرة. فهو يدفع 55 دولاراً كلفة طباعة 100 مليون ليرة، ثم يبيعها للناس بـ1200 دولار، فيربح بذلك 1150 دولاراً. بهذه الطريقة يقوم بتصفية خسائره... وفجأة يقوم بتعديل موجوداته من سعر صرف 1507.5 إلى 15 ألف ليرة مقابل الدولار، ويسجّل خسائر على الدولة بقيمة تفوق 16 مليار دولار، رغم أن إيداعات المصارف لديه، وهي تسجّل ضمن الالتزامات عليه، ارتفعت بفعل تعديل سعر الصرف. وبذلك خفض خسائره، وحوّلها بشحطة قلم إلى خسارة على الدولة.

نحن بحاجة إلى نسب تضخّم وسعر صرف معتمد رسمياً لإبداء الرأي بالبيانات المالية وفق المعايير الدولية


إذاً، ماذا ننتظر من مصرف يُصدر بيانات بهذه الخفّة، هو يفعل ذلك لأنه يعرف أنه محمي سياسياً من كل السلطة. هذه الحماية مقابل تغطيته لكل التجاوزات وعمليات الهدر الممنهجة التي اتّبعها السياسيون على مدى 30 عاماً، ما أوصل الدولة إلى هذه الأزمة غير المسبوقة. فكان يستدين ثم يغطي هذا الدين بدين آخر بفوائد مرتفعة جداً من أجل سدّ العجز المالي الذي شهدته الموازنات العامة المتتالية. كان الإنفاق يصبّ على الاستهلاك ما قضى على الصناعة والزراعة، وكانت المصارف هي المستفيد الأوّل ما حقّق لها أرباحاً لم يحقق مثلها أي مصرف في العالم. لا بل عندما اهتزت فروع المصارف في الخارج سارع حاكم مصرف لبنان إلى إجراء هندسات مالية لإعانتها وإعطائها الأموال. ما قامت به السلطة السياسية من إنفاق كبير في ظل عدم وجود موازنات ولا قطوع حسابات وتثبيت سعر الصرف على مدى 20 سنة، وفّر للناس إمكانية الإنفاق ببحبوحة ومن دون حساب. هذا الأمر كان مصرف لبنان شاهداً عليه وكانت الأمور بيده.
في الواقع، لم يُقدم أي حاكم لمصرف لبنان على توقيع ما هو غير قانوني حتى عندما كان يتعرّض للأذى كما حصل مع الحاكم السابق إدمون نعيم. اليوم، حاكم المصرف المركزي ضرب القطاع المصرفي إلى درجة أنه ليس هناك من يعتقد أن هذا القطاع سيقوم قبل مضي 20 سنة على ما حصل. هذه السياسة ضربت الثقة بلبنان وضربت المغتربين حتى أن أحداً لن يضع بعد اليوم أموالاً في مصارفنا. ملخّص ما جرى كان سياسة خراب مقصودة للبنان.

* نقيب خبراء المحاسبة



خريطة طريق إنقاذية
ما تطلبه نقابة خبراء المحاسبة هو أن تقوم السلطة التشريعية بإعداد خطة إنقاذ وطني تقوم على محاسبة كل من تسبب بهذا الهدر أولاً، يعني كل من شغل السلطة السياسية، واكتنز أموالاً ضخمة، وحصل على مكاسب لا حق له فيها، والعمل على استرداد هذه الأموال. ثانياً تحميل المصارف جزءاً كبيراً من هذه الخسائر، بحيث تقتطع من الأرباح التي جنتها من الفوائد المرتفعة التي راكمتها، ومن الهندسات المالية التي حصلت عليها. وثالثاً، تحصين القضاء وفصله عن السياسة والسماح له بأن يقوم بمواقف عادلة لمعالجة هذه الأزمة ومحاسبة كل مرتكب في البلد. إذا قامت خطة وطنية على هذه الركائز، يمكن توزيع الخسائر على الجميع، كلّ بحسب استفادته. وبالتالي توجيه استثمار أملاك الدولة بشكل سليم.


المعيار 29
يُطبق معيار المحاسبة الدولي 29 في إعداد التقارير المالية في الاقتصادات ذات التضخّم المرتفع، عندما تكون العملة الوظيفية للكيان القانوني هي عملة تعاني من التضخّم المفرط. لا يُحدِّد المعيار متى ينشأ تضخّم مفرط، ولكنه يتطلّب أن تتم إعادة تصريح البيانات المالية (والأرقام المقابلة للفترات السابقة) للكيان القانوني الذي يعمل بعملة وظيفية تعاني من هذا التضخّم، بما يتوافق مع التغيّرات في قوّة التسعير العامة للعملة المذكورة. الهدف من المعيار 29 هو وضع ضوابط محدّدة للكيانات القانونية التي تقدّم التقارير في هذا النوع من العملات، بحيث تعكس المعلومات المالية المقدّمة الواقع. المبدأ الأساسي هو أن البيانات المالية للكيان القانوني يجب أن تُدرج لجهة وحدة القياس (سعر الصرف) الجارية في تاريخ إصدار الميزانية العمومية